صحيفة المثقف

المقترب الفكري للظهور الفلسفي عند اليونان

محمد حسين النجمهزيود كصدى للشرق

لعل من الاهمية بمكان ان نحاول الحديث عن المقترب الذي كان قد ساهم في انبعاث التفلسف في بلاد اليونان وهو الفكر اليوناني المتفاعل مع الفكر الشرقي، فمن الصعب في اطار التطور الفكري للمجتمعات ومع ازدياد الدراسات والبحوث الاجتماعية والنفسية والانثروبولوجية، ان نبقى في اطار النظرة القديمة المرتبطة بالمركزية الاوربية التي تحاول ان تصور الظهور الفلسفي اليوناني بانه معجزة ظهرت فجاة في تلك البلاد مقطوعة الصلة بما سبقها من مخاض فكري محليا او عالميا .

فحين نتحدث عن الفكر والفلسفة اليونانية، فاننا نتحدث عن واسطة العقد بين الشرق والغرب . فالفكر اليوناني كان المنفذ الذي دخل منه الفكر الشرقي الى اوربا القديمة، مثلما صارتفلسفهم، لاحقا، المصدر الذي استمد منه الفلاسفة العرب المسلمون بواكير تفلسفهم ليكونوا الجسر الذي تعبر عليه الى اوربا الحديثة .

لا يخفى ان الشرق الادنى القديم كان، ومنذ بواكير الالف الثانية قبل الميلاد، يمور باسس الحضارة والفكر، في الوقت الذي كانت فيه ما تسمى ببلاد اليونان  ليست سوى مستنقعات تشغل يابسها قرى بائسة، وهي الصورة التي نراها واضحة من خلال الكتابات التاريخية وكذلك في الحكايات الشعبية اليونانية، مثلما هو الحال بالحكايات المتعلقة بهرقل، مثلا . فلو عدنا، مثلا، الى  صور المهام التي تم تكليف هرقل بها من قبل الملك اوجياس لانكشف لنا مدى التخلف والبؤس وانتشار المستنقعات وما تشكله من اخطار بيئية على سكانها، بالاضافة الى الوحوش التي تصول وتجول في انحائها، والتي لم يجد كاتب الحكايات مخرجا لتحقيق امنيته بالتخلص منها، الا ان يتصدى لها ابن اله، تعبيرا عن صعوبتها .

ازدهرت حضارة العراق القديم منذ نهايات الالفية الثالثة قبل الميلاد، مترافقة مع حضارة وادي النيل في مصر، ليشع نورهما على ما حولهما، فبدأت تظهر باثر منهما، او باحتكاك، الحضارة الفينيقية، ضمن ما يسمى الان بلاد الشام، والحضارة الحيثية في الاناضول (او تركيا الحديثة)، والتي كانتا الاقرب جغرافيا الى اليونان، وهو ماساهم بنقل اسس الحضارة والفكر الى هناك . ولهذا نلاحظ ان بواكير الازدهار الفكري كان ضمن هذا الجوار والذي لم يكن ضمن اليونان الكبرى وبقي كذلك .

ان اللقى والاثار المكتشفة في قبرص وكريت تؤشر مصادر استمدادها، وتبين بوضوح الاسهام الشرقي هناك . كان الفينيقيون، آنئذ، سادة البحر المتوسط الذين نقلوا اليه منتجات الحضارة الشرقية وكذلك الفكر، مما ساهم بانبعاث اقدم مانعرف هناك من حضارات وهي الحضارة المسينية او الموكينية في كريت وقبرص خلال منتصف الالف الثانية قبل الميلاد و التي تعد الخلفية الفكرية للثقافة والفكر اليوناني الذي ستبدأ بواكيره بعد ما يقرب من نصف قرن، فلو اننا قرأنا الالياذة والاوديسة لهوميروس لوجدنا صدى تلك الحضارة يثوي بين سطورها، وهكذا نلاحظ ان  البحر المتوسط بات يتقدم رويدا رويدا للارتقاء الى مستوى حضاري عالي، في الاجزاء المحاددة او القريبة لذلك الشرق .

كان البدء انتقالا لنمط التفكير الشرقي الذي اعتاد الباحثون على تسميته بالفكر الاسطوري، مع تحفظنا هنا على النظرة القاصرة لهذه التسمية والتي ربما تشي ببدائية التفكير وفجاجته . فواقع الحال ان الاسطورة لم تكن سوى الثوب الذي ارتداه الفكر ابان تلك الفترة، فمثلما يتوسل الكتاب في عصرنا وسائلهم المختلفة من مقالة، او رواية او قصة او مسرحية لايصال افكارهم، فان الانسان القديم في الشرق الادنى اعتمد اسلوب التفكير المتاح لايصال افكاره وهو الاسطورة، ولهذا نلاحظ ان المحتوى الفكري العالي سرعان ما يستبين حين ننزع هذا الثوب، والذي لايختلف كثيرا عن نمط تفكيرنا، مع الاخذ بالاعتبار مستوى التقدم الفكري والثقافي . ولهذا نلاحظ اشتراك العالم القديم بشرقه وغربه بذات النمط الاسلوبي وهو ما اتاح للفكر الشرقي ان يجد له حاظنة في بلاد اليونان .

وعليه فان دراسة الاساطير بين الشرق الادنى وبلاد اليونان تعد مفتاحا مهما لفهم التنافذ والتثاقف بين الجانبين .

واذا كان هوميروس بالاضافة الى هزيود سدنة الثقافة اليونانية حينما صارت اعمال الاول تحديدا اشبه ما تكون بالكتاب المقدس هناك، فان هذه الاعمال لم تعكس فقط اثر الحضارة المسينية المتاثرة بالشرق فقط، بل وانطوت على شفرات فكرية لايمكن فهمها بوضوح الا حين نفتش عنها في فكر الشرق، كما سنرى .

فالفينيقيون، بعد ارتقائهم في سلم الحضارة وامتلاكهم القوة المؤهلة لهم للهيمنة على البحر المتوسط،  تذرعوا باكذوبة تسمح لهم بغزو البحر هي الادعاء باختطاف (اوربا) ابنة ملكهم، وانهم اقتحموا البحر بحثا عنها، والغريب ان اليونانيين حين استكملوا قوتهم واستمدوا اسس حضارتهم من الشرق لم يهملوا استعارة هذه الاكذوبة بل اتخذوها ذريعة ايضا للحرب حين حاربوا طروادة الشرقية وتجييش الجيوش ضدها، بدعوى اختطاف (باريس) ابن ملكها لـ (هيلين) زوجة منيلاوس وهو اخ اجاممنون الذي سيكون قائد تلك الجيوش في الحرب  .

هوميروس والشرق:

ان اي قاريء لالياذة هوميروس واوديسيته لا يمكنه الا ان يلاحظ الكم الهائل من الاستعارات لافكار الشرق، العراق القديم تحديدا، بدءا من استهلال الالياذة وليس انتهاءا بالصور المتعددة التي تتناثر بين سطور ملحمتيه  . ولعل ما يلفت النظر ان الالياذة تستعرض مجريات الحرب اليونانية الطروادية التي حدثت نهايات الالفية الثانية قبل الميلاد، وكان المفترض ان تكون، كالسياق المعتمد في الاساطير القديمة بالتغني بالموضوعة التي يريد المنشد ان يركز عليها وهي الحرب، الا اننا نلاحظ ان هوميروس يستهل ملحمته بالتغني بحدث لا قيمة كبرى له تضارع الموضوعة التي يريد الحديث عنها، فهو يتحدث عن نزاع جرى بين قائد الجيوش اليونانية (اجاممنون) وبين احد قواده (اخيل) حول سبية من سبايا الحرب التي صارت حصة (اخيل) واعجب بها  ذلك القائد وارادها له، لينطلق من هذه (الثيمة) ليعرض لنا صورا شتى، عن البطولة ومسلك البطل وعلاقاته باقرانه من الابطال، وصداقاته وعواطفه، ومن خلال استقراءها نجدها لا تبتعد عما يتردد في اذبيات العراق القديم، بل لعل صلة (اخيل) بـ (باتروكلس) صديقه الحميم لا تبتعد في تصوير علاقتهما عن علاقة (جلجامش وانكيدو)، وكأن المنشد ابتدع هذه (الثيمة) لينهل مما وصل اليه من صور ابطال الشرق وعلى راسهم جلجامش، والتي ستسيطر بظلالها على مجريات الحدث حتى ختامه .

ان استهلال الاوديسة اكثر كشفا لمصادر الاستمداد، فنحن نقرأ: (حدثيني ايتها الربة عن الرجل الكثير الحيل الذي اخذ يجول في كثير من مناكب الارض، فقد شاهد بلاد رجال كثيرين وتعلم ارائهم، وكثيرة هي الويلات التي عاناها في قلبه وسط البحار)، وهي لا تختلف كثيرا عن استهلال المنشد العراقي، قبله بما يقرب الالف سنة وهو يتغنى بـ (جلجامش) اذ يقول: (هو الذي راى كل شيء فغني بذكره يابلادي، وهو الذي عرف جميع الاشياء وافاد من عبرها، وهو الحكيم العارف بكل شيء: لقد ابصر الاسرار وكشف الخبايا، لقد سلك اسفارا بعيدة متقلبا ما بين الراحة والتعب) . ان الوقوف عند الاستمداد الاسطوري لبيان الصلة بين الشرق والغرب تعد ركنا اساسيا لفهم الاثر الشرقي في انبعاث التفكير الفلسفي ايمانا منا بان الفلسفة اليونانية، في بواكيرها، لم تبتعد عن محيطها الثقافي بل سعى الفلاسفة الاول لازالة الثوب الاسطوري او جزءا منه .

هزيود والشرق:

ولكي نقترب قليلا من الاستمداد الاسطوري اليوناني على مستوى التفكير الذي سيصير فاعلا منذ بواكير التفلسف الاولى، يمكننا ان نستهدي بهزيود، وهو ثاني اعمدة الثقافة والفكر اليوناني بعد هوميروس وتعاطيه مع القضية التي ستصبح الشغل الشاغل للفلاسفة الاول وهي مشكلة الوجود، فالمعروف ان هزيود قد وضع عملا اسماه (ثيوغونيا) الذي يترجم عادة بـ (انساب الالهة)، وبعيدا عن فكرة المشروع الذي تبناه هزيود وهو تنظيم مجلس الالهة اليوناني (البانثيون) بالشكل الذي سيستقر عليه لاحقا، والذي كان الرادة فيه العراقيون القدامى وحاكاه الشرقيون وانتقل منهم الى اليونان، فاننا نجد ان الفكرة الاساس التي اعتمدها هزيود في تنظيمه هي علاقة الابوة والبنوة بين الالهة المتعددة، مما سمح لليونانيين بالتعرف على الهتهم وعلاقاتها، كما سيرى هيرودوت .

والمعروف تاريخيا بان العراقيين القدامى هم اول من نظم مجلس الالهة بالصورة التي سوف ينسخها هزيود، وهي تستند الى معطيات واقعية لم تتوفر له، فبعد ان هيمنت بابل على دول المدن العراقية المتنازعة وفرضت سيادتها عليها، كان لابد من تثبيت الوحدة السياسية في هذه الامبراطورية،بوحدة روحية  وحيث ان دول المدن تلك كان لها الهتها ايضا، فان معلم الهيمنة الرئيسي في الفكر الشرقي كان الهيمنة على الالهة تثبيتا للهيمنة على دول المدن التي تعبدها وهكذا تم رفع منزلة اله بابل (مردوخ) الذي كان الها من الدرجة الثانية الى مقام السيادة على اقرانه من الالهة،ولاجل تعزيز هذه الوحدة تم وضع رابطة نسبية بين الالهة المتعددة تلك لكي تحققها، ولم تتوفر في بلاد اليونان، زمن هزيود ولا بعده، مثل هذه الظروف التي تدفع لما قام به.

والذي يعزز هذا الامر قراءة متمعنة لبرنامج هزيود بالتقابل مع البرنامج العراقي القديم، كما يتبدى في ملحمة الخليقة البابلية  (الاينوما ايليش) او كما تترجم عندما في العلى حيث نلاحظ ان هناك ثغرات في برنامج الاول (انساب الالهة) تفضح مصدر استمداده مثلما تكشف عن اثر فعل الانتقال للبرنامج العراقي والذي يبدو انه لم يكن مباشرا، بل عبر حضارة شرقية اخرى هي الحضارة (الحيثية):

برنامج هزيود:

يتكون برنامج هزيود من عناصر اساسية هي:

1 - انساب الالهة

2 - تشكيل النظام الكوني

3 - سيادة الالهة على جبل اولمبوس وسيادة زوس عليهم .

لو قابلنا هذه العناصر عند هزيود بمثيلتها عند العراقي القديم، ونحن هنا نستند بشكل رئيس على (الاينوما اليش)، مع نتف اخرى من ذلك الادب لتوضيح الصورة، لوجدنا انهما لا يختلفان الا بالترتيب حيث تكون سيادة الالهة (3) سابقة لتشكيل النظام الكوني(2) عند العراقي القديم، وسوف نبين السبب لاحقا، كما ان الانشودتين يتسمان بانهما ترتيلة لتمجيد زوس عند هزيود و مردوخ عند العراقي، وهما يستعرضان الصراع العنيف الذي دخله الالهان لادخال النظام في الفوضى الكونية العامة حين واجها انواعا متعددة من (التنانين) و (التيتان) و (الوحوش)، وهما يعبران عن قوة الصراع باسهاب، والذي تسبب باسقاط اجيال من الالهة حيث نجد (انو) و (ايا) يخران راكعين امام ابنهما مردوخ، تماما مثلما ستخر الهة هزيود امام زوس، كما يتفقان في مبررات تلك الحرب حين يؤشران (الحقد) و (الكره) الذي اعتمل في صدور الالهة كون الابناء قد بزوهما عظمة وجلالا .

ان العنصر الطبيعي يشف كثيرا حتى يكشف عما تحته على الرغم من ستار الالوهية الفضفاض، فليس (اورانوس) جد الالهة الاغريقية الا (انو) جد الالهة العراقية، وليس هما سوى السماء التي كانت مع الارض رتقا ولابد من فتقهما، وهو ما حتم اشتداد الصراع ليذهب ضحيته اورانوس حين يتم اخصائه من قبل ابنه (كرونوس)، وهو ذروة ما يتصعد اليه الحدث تعبيرا عن اسقاط العظمة في مجتمع زراعي يحركه دافع (الخصب) مثله مثل المجتمع العراقي القديم، الا ان الملحمة العراقية تكتفي بالاعلان ان (انو) قد خبت سطوته منذ امد بعيد .

واذ تتساوق الانشودتان في مجراهما، فان المنشد الاغريقي يحاول ان يستكمل بعض الثغرات، وفي عمله هذا يكشف عن حقيقة استمداده، فالذي يبدو ان هذا المنشد قد استمد برنامجه بشكل غير مباشر، وهو السبب فيما يعانيه من بعض الارباك، كما سنرى، واذا شئنا معرفة مصدر الاستمداد فيمكننا هنا بالذات الاستدلال عليه .

ان سيادة الثقافة والفكر العراقي القديم في انحاء الشرق الادنى القديم امر يحظى باجماع الباحثين، الا انه لا يعني ان الشعوب التي ساد فيها لا تمتلك ثقافتها الخاصة بها، وعليه فان مرور هذا الفكر بها يمكن ان يعدل او يغير بعضا من معالمه، وهكذا يمكننا ان نستدل على ان المنشد الاغريقي القديم كان لديه امشاج لصور متعددة وصلته من محيطه حاول ان يسد الثغرات من خلالها، فنجد في قصة الخليقة الحيثية ان الاله (كوماربي) يقوم باخصاء الاله (اوليكومي) بان ينشب اسنانه في اعضائه التناسلية، واذا كان كوماربي قد حقت عليه اللعنة بان تنبت في احشائه انسال اوليكومي الذي يسعى جاهدا للتخلص منها، فان الاغريقي وهو يستفيد من الاستعارة يسعى لتوظيفها لخدمة الهه وعليه فهو يستبعد الاسنان ليستعيض عنها بالمنجل ليحقق (كرونوس) من عمله ذات النتيجة التي حصل عليها (ايا) العراقي وهي السيادة . ان دور (ايا) في المداخلة بين جيلين من الالهة، جيل غاب وانتهى (انو) وجيل حاز السيادة (مردوخ) يبدو محاولة لتصعيد الحدث الدرامي لبيان بطولة الاله الذي انتصر.

كما نلاحظ ان القصتين، الاغريقية والعراقية تتساوقان في تاشير دور الام بصفتها محركة للصراع باستخدام ادوات مختلفة تمثلت بجمهرة واسعة من الوحوش، فـالالهتان  (جيا) ومقابلتها العراقية  (تيامت) تفعلان، من وراء الكواليس، باعنف ما يكون الفعل، تحرضان ابنائهما وتهيئان لهما ادوات الجريمة واخيرا تفشلان، وهما اذ يمثلان الفوضى فان النظام لا يقوم على اكتافهما .

ان التساوق على مستوى الشخوص والدوافع والاهداف والنتائج الذي مر بنا بقدر ما يكشف احتمالية تاثير القصة الاقدم بالاحدث، بقدر ما يكشف، عند الدخول بالتفاصيل،  مدى التشويه الذي عانته القصة القديمة في رحلة العبور من العراق القديم الى الثقافة الاغريقية مرورا بالحيثية .

ارتباك برنامج هزيود:

قلنا ان ترتيب الاحداث الكونية عند هزيود يختل فيقدم ماتاخر في الملحمة العراقية وبؤخر ما تقدم ومثل هذا الفعل ينتهي الى اختلال التماسك المنطقي عنده، وتصبح الاحداث مشوشة بل وعبثية . لنعود الى الملحمة العراقية، نجد ان مردوخ يقوم بعد انتصاره على تيامت بان يشطر جسدها  ليكون الاعلى سماء والاسفل ارضا، اذن فهو هنا يهييء المسرح للقادم الجديد، الانسان، على الارض، مثلما يهييء موطنا للالهة في السماء . اذن نلاحظ هنا فجوة انفتحت بين السماء والارض وهي شرط ظهور الانسان، وهزيود من جانبه لا يغفل هذه الفجوة، الا انه يستبق او يشوه الحدث ليجعلها امرا قديما لانعلم شيئا عن من فعله، في البدء كان (الكاوس) او الفجوة، هنا يسحب هزيود البساط من تحت اقدام البطل، وان مسارا صعبا وظفه الكاتب العراقي لاجل الوصول الى هذه النتيجة بوصفها فعلا اجترحه اله فائق البطولة (مردوخ)، سرعان ما يضيع عند هزيود، وهو ما يدفعه لان يبحث عن نهاية مناسبة يمجد بها (زوس) الذي قامت الترتيلة لاجله، فلايجد . وبدلا من انتصار مردوخ على الوحوش التي تالبت عليه، نجد زوس مشلولا عاجزا لايدري ما يفعل حتى ينقذه (هرقل) الانسان مما هو به، فيضيع الهدف ولاندري هل اراد هزيود تمجيد زوس ام تمجيد الانسان . ولكن كيف هيأ زوس مكانا لهذا الانسان ؟ كان تمهيد الارض ورفع السماء عملا بطوليا لمردوخ، في حين نجد هزيود يسلب زوس هذا الانجاز ليتحدث عن ظهور الفجوة (الكاوس)، ثم ظهرت الارض الرحيبة (صدر جيا)، فالارض ظهرت والسماء ارتفعت ابتداء لتاتي الاحداث بعدها مما يجعل هزيود يتيه في سرد احداث لاقيمة لها من ناحية الاهداف التي كان سلفه العراقي قد رسمها وسار بها الى نهايتها التي حددها بدقة .

يمضي هزيود في سرد احداثه فيقول بان الارض ولدت ابنا بهيا هو اله  السماء (اورانوس) ليكتنفها ويلبث للالهة مقرا وطيدا، هنا تبدو الفجوة سابقة لفعل ولادة السماء، فمن اين جاء بها ؟ ان قراءتنا لملحمة الخليقة البابلية تشير الى ما يمكن ان يوضح الصورة، فـ (الكاوس) او الفجوة اذا ما تم فهمها بصفتها العماء الكوني البدئي والاختلاط فمن الممكن ان يكون هزيود قد استنتج من الملحمة العراقية ما لم تصرح به ولكن يمكن فهمه ضمنا، ذلك ان (تيامت) تُفهم بانها الاختلاط والمزيج من المياه المالحة والعذبة، وهي صورة طبيعية حين يتم شطرها نصفين، السماء المانحة للمياه العذبة والارض بمياهها المالحة، الا ان هزيود يصرح بان ولادة الارض للسماء التي اشار اليها هي محض كناية، فكيف قامت السماء اذن ؟

يواكب هزيود احداث الملحمة العراقية التي نجد فيها (ابسو) وهو يهم باهلاك نسله من الالهة كونهم اقضوا مضجعه وحرموه من النوم حيث تبقى تيامت على الحياد، الا ان مقتل (ابسو) يغير موقفها فتحرض احد ابنائها (كنغو) على التمرد والاخذ بالثار، وتسلحه بكل ما لديها من اسلحة رهيبة يتهاوى امامها (ايا) وجميع من معه من الالهة، مما يتطلب ظهور (مردوخ)، وهو البطل الذي يهزم الالهة المتمردة، بل ويمسك تيامت ليشطرها شطرين فتكون السماء والارض، اذن فمن اقام السماء فوق الارض هو بطل يستحق ان تترنم الملحمة بانجازه، في حين نجد عند هزيود يظهر (اورانوس) مثالا للاب السييء كذلك، الفاقد للعقل حين يبتلع ابنائه ليس لشيء الا القول بانهم هائلون لم يعرف الكون لهم مثيلا، اما (جيا) فقد اثار فعله بغضها وحفيظة ابنائه، لماذا ؟ في الملحمة العراقية نجد الام (تيامت ) حريصة على ابنائها، بل تنهر ابسو حين يسعى لاهلاكهم، فهم في جوفها، اما هزيود فيختل عنده الحدث حين ينتقل من ابتلاع (اورانوس) لابنائه الى الحديث عن ان (جيا) ضاقت ذرعا بابنائها في جوفها مما دفعها للانتقام من زوجها . من الطبيعي ان يختل السياق هنا، فهزيود المعروف بعقده النفسية تجاه المرأة، لايمكن ان يتقبل عواطف الام العراقية وحنانها على ابنائها وغضبتها على زوجها كونه يريد اهلاكهم، فالمرأة عند هزيود هي (باندورا) حاملة الشرور الى الارض حين ارسلها (زوس) عقابا على سرقة (بروميثيوس) النار وخدع الالهة، وهكذا فهي اذ تامرت على اورانوس واعانت كرونوس لاخصائه، فهي هنا ايضا تثبت عدم وفائها حين تخدع كرونوس وتتذرع الامومة للابقاء على (زوس) لاسقاطه . تدخل جيا المسرح ابتداء وهي تحمل انانيتها وحقدها لتهييء المنجل اداة الجريمة ضد زوجها (اورانوس)، لاخصائه، مثلما تخدع (كرونوس) وهو مقبل على ابتلاع ابنه الاخير (زوس) لتخدعه بقطعة حجارة ملفوفة يبتلعها ظنا منه انها ابنه، والذي سيكون سببا باسقاطه . ان اخصاء اورانوس تسبب بسقوط قطرات من دمه على جيا فولدت ابناءا منه جعلتهم سلاحها الذي عادت وشهرته ضد (زيوس)، ليتحول المسرح الكوني الى حرب لاهوادة فيها بين زوس رب الالهة وابناء جيا من زوجها السابق، حرب لاموجب لها ولا مبرر الا تحقيق ما يحمله هزيود من الحقد على المراة، ان اعتساف الاحداث هنا واضح، فصراع مردوخ انتهى الى اقرار النظام الكوني وتاكيد معقوليته، و بعد اقرار النظام الكوني يحثه قلبه على ان يخلق اشياء عجيبة كان الانسان احدها لكي يفرض عليه عبادة الالهة لكي تستريح، في حين انه عند هزيود ينتهي الى فوضى لم يخلصه منها الا الانسان حين قام هرقل بدوره بالدفاع عن السماء ضد (العماليق)، فهل الانسان قبل الالهة؟.

 

د . محمد حسين النجم

الجامعة المستنصرية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم