صحيفة المثقف

رهْوُ الزمكانية في بدائع: مغامرات بوعرّيفة

احمد ختاويللأديب، البروفيسور حسان الجيلاني

عندما يتجسد الرهو في البدائع قد يُؤول عند البعض أنه سينسج منها خيطا أبله في اعتقاد البعض، غير أن هذا الرّهْو في مقامات وبدائع الاديب حسان الجيلاني، البروفيسور

مطاردة وقنص واقتفاء محدثاتها وضمنياتها في المأمول.

البدائع وقنصها ليس أمرا سهلا كما يعتقد البعض، يجب أن يتوفر الخيال والبديهة والسطو على ممتلكات الرهو ذاته وهو كما يعرفه النحويون وخبراء اللغة أنه سير الخيل تتابعا وغيرذلك من التعريفات، أو السير المموسق إلخ، ففي هذه الحالة يأخذ الرهو مكانته كسير بطيء لكنه غاطس في غور الدلالة .

إذا كان مفهوم الرهو يعني لغويا: إن وزنك أيضا يعد بعدد ما قرأت من كتب، لا بعدد الكيلوغرامات (لا أستثني نفسي من هذه المقولة) التي تمتلكها.

شخوص النوادر، نوادر الجاحظ ومقامات الحريري استحضار استنباطي هي الأخرى للفواعل الناجمة عن ترتيب الاشياء، حسب الانساق وغيرها من المقامات،وحتى الاحاجي عند جحا أو عند شخصية: بوعرّيفة " الساذج، الذكي،/ الانموذج المفعّل عند الاديب، البروفيسور حسان الجيلاني .

استحضار المقامة عند الاديب حسان الجيلاني على وقع "السوفية" (1) تكتسي أبعادها التبييئية .

وكما ورد في الأثر في مقامات بديع الزمان الهمذاني في مقاماته الشامية - مثلا - وجه من أوجه المقارنة والمقاربة كتضارييس تبيئية وكمغراف محلي زمكاني.

مقامات بديع الهمذاني التي أسقط منها النحاة والمحققون كما يروى الرواة بعض المقامات الشامية، فإن الرهو ها هنا يجيء محملا بالرائحة السوفية مبنى حضاريا وإرثا في طبوغرافية الدلالة الجنوبية " مبيئة " عند الحكاء، السارد والأديب حسان الجيلاني، من منطلق تبيئي في طوبوغرافيا الارتحال، وهاهو أيضا بفضل حنكة السارد، يجعل من هذا الرهو سير بعير تناغمي في ملفوظ استيطاني إستخراجي دعمه المخيال المتقد لدى السارد حسان الجيلاني، على وقع النوق ووقع رمال وادي سوف وفيافه / إرثا حضاريا /، وقريحة الرجل الجنوبي الذي يتوفر على نكهة البراءة والجسارة معا في توطين المقامة والطمأنينة والوداعة معا بروح مرحة لكنها ساخرة، وفي بعض الاحيان- عند الإقتضاء - لاذعة لكنها إيجابية .

بذرة العطايا لا تتوفر عند جميع الناس، الله يخص بها بعضا من عباده، الى جانب الموهبة والبديهة وسعة العلم والمعارف وتوظيف هذا الميراث والمكونات والمرتكزات .

البروفبسور حسان الجيلاني، بحكم اختصاصه في علم الاجتماع وأديب قدير، الى جانب خياله المتقد وظف رهو التبييء المحلي ونشره زُروعا على عامة الاصقاع في أسلوب متفرد، ماتز بديع ووديع في ذات الوقت، ومن منظور استشرافي أيضا وقد واكب جميع المراحل فأسقط كل مقامة بعينها على حادثة اجتماعية برمتها في خانة معينة، مستجديا كصيغة ترتيبية على كل ما يعيشه بحواضر بيئته أولا - مخيالا - واغترافا - ومِغرافا ليصبه حكّاء في عملية - استيطان نقلي، نوعي، أي بمنظور تخزين المقام في زمكانيته الممكنة، بل في " مكانية " أراد لها أن تكون البيئة الاسرية محلا وملفوظا ينطق منها وينطبق عليها في هذا التوزيع، وهي شخوص تثب من بيئة لآخرى لتوطيد أواصر التبليغ في التعاطي مع هذه المكونات المجتمعية .

قد يتبادر للمتلقي أنها وهو يسرد هذه المقامات انطلاقا وكقاعدة من بيئته الاسرية أنها -أي القامات - قد أوصلته إلى ضراوة وذروة - التذمر، وأنه إستزفر فيها الذات الضامرة، وقواه ونفاذ صبره في ما يسكنه من مواجع أو ارتدادات أسرية، فضمّنها غضبا وإتباتا،وأنه يستزفر محيطه الأسري، وهذا أيضا خروج من المتلقي العادي عن تأويل الدلالة والأصح - هي بالمقابل عند المتلقي النوعي مجرد اغتراف مخيالي إيصالي، توصيلي من " ممكنة " منظومته الاسرية كقاعدة انطلاق لتحريك شخوصه التي تتناطح في وداعتها - أسلوبا حسب كل حالة شعورية، المكانية هذه مجرد قاعدة مخيال يصف الخارجي من منطلق الداخلي / شكلا من أشكال تصدير البدائع هذه حادثة الحقيبة التي يرشحها المخيال نمطا سلوكيا لا غير، وهي إحدى البدائع الرائعة - كرجع الصدى - في هذه المقامات مثلا، تجلت فيها غزارة التناول والتعاطي معها، واعتماد السجع والجناس والطباق، والمد الأسري .

حرمه المصون، الحاضرة تقريبا في جل المقامات مثلا كترتيب زمكاني، ملازم، وحاضر -أفقي / عمودي يتغذى هو الاخر بصفته شاهدا على مجريات مقاماته، هذا كل ما في الأمر عند حضور حرمه المصون تكثيفا للواقعة لا غير، وهو في الاصل مثال على التعاضد الاسري، وتوطينه كرفيق وشاهد على ألام الأمة في جميع مناحيها، هكذا ينحو السارد وهو يرتوي من مكوناته المخيالية كنمط سلوكي في محاولة تلطيف جو التسريد وإبعاد المتلقي عن شائبة كل تأويل، فألصق: الوداعة في أهله كمقوم أسري متماسك، شاهد دائما على إيصال مقاماته للمتلقي، خاصة حرمه المصون .

ويُساق المثال مثلا على مقاماته "ملائكة العذاب" وهو يشّرح، بل يضع على طاولة التشريح المنظومة الصحية في عهد بائد بكثير من التأريخ لمرحلة بدت عند العامة " غنجا " وشيئا لا يعكس التواقيع الملائكية عكس ما هو موجود حاليا من استرداد ملائكية الطواقم الطبية وتعاطيها بهذه الملاكئية مع ما نعيشه من تداعيات الكورونا، فأبلت هذه السلطة الملائكية البلاء الحسن في ترتيب هذه الملائكية مقام التقديس، بل يرميها - ما قبل الملائكية الحالية - في مكب التذمر وفي قمامات التاريخ الوسخة، هنا تكمن لدى السارد، الاديب حسان جيلاني حتمية التعاطي بهذا وهو " يستمكن " منظومته الأسرية عند الغطس في مكونات هذه المقامة مثلا: " ملائكة العذاب ": نلحظ من خلال قراءتنا لها ذاك الاستشراف والتنبؤ والتشيؤ معا، وهذا قد يلحظ على الوجه الاخص عند القاريء النوعي، (لا أستصغر العامة في هذا الصدد أبدا) هو ترتيب معرفي لا غير، أقول ويستمتع القاريء البسيط ببديع الملفوظ ترتيبا معرفيا،

في هذه المقامة يكمن حضور المخيال، وتوظيف " واستدعاء " الرتبة الاكاديمية " علم الاجتماع، بحكم أن البروفيسور حسان الجيلاني، مختص في علم الإجتماع، وبروفيسور في هذا المجال، بامتياز حيث وظف هذه الخاصية الى جانب ملكته في الحكي والقص، فأعطى دلالة قصوى لمقامته هذه وغيرها، يقاس على هذا المنوال كل مقاماته التي أعطت بعدا تواصليا ترابطبيا تطابقيا وكأن به يستشرف ويتنبأ لراهننا، وما نعيشه في زمن الكورونا، هنا تكمن النبوءة، وأنا أطالعها أي " مغامرات بوعرّيفة، وأنا محجور ببيتي بالبليدة، قفز بي المخيال بل قفزت بي ذاكرتي الى مقامات الحريري وبديع الزمان الهمذاني، التي أرّخت لمراحل في مقامات إستنباطية، هكذا تراءى لي وأنا أقرأ الكتاب أن السارد بأسلوبه الخاص، الماتع، الماتز / البوفيسور حسان الجيلاني، أحسست لحظة قراءتي للكتاب أنه محطة و" منطاد " نبوءة في إسقاط كبير على راهننا، في مقاربة

قد يطول الحديث في شأنها مما يستدعي وقفة أعمق من هذا، غير أن استكشاف هذه المقامات، ونحن نعيش زمن الكورونا يوحي لكل قاريء لها أنها بمثابة ترهين واقع وتسويقه بمد تعبيري، يصلح زمكانيا لكل الانطمة وينطبق عليها

جسارة الأديب أيضا أعطت لهذه المقامات بًعدا دلاليا آخر يكمن في جرأة المبدع حسان الجيلالي في رشق القاريء بزمكانية بعينيها مثلا حقبة العشرية السوداء وما اعتراها من قيم ولا قيم، وغيرها من صنوف الاجتماعيات، كاشفا اللثام على بعض العوارض والسياقات والانساق في عملية تشريحية، محتفظا دوما بخصوصياته في تسريد كل حادثة، أسوق مثلا في هذا الباب، طرافة الممكن لديه في

توطيده لحالة اجتماعية أسرية كمقامته " حماتي الزرقاء: " المضيفة الحسناء " الغيرة العمياء " أباطرة الحدود " البلد الأمين " سوق الجواري " زوجتي والوحم اللعين " وغيرها من المقامات، " الحلم المجنون " وغيرها " كيف صرت إرهابيا " ألخ .... وهذا مدُّ إرتوازي للمأمول في كل هذه المقامات وأنا أطالعها، عطرتني روح المرح بوعي كاتب قدير، استجلى كل مقومات المجتمع عبر حقبه ليؤرخ بقلم وفكر جاد يعي مكوناته وآلياته في ايبسيملوجيا القول في كل مكوناتها الوضعية والمرحيلة وهو عالم الاجتماع، أبعدها بوعي أيضا عن شتات الفًهوم والمفاهيم الفلسفية، بوعي أيضا كما يذهب في تعريفها لها الفيلسوف الإسكتلندي جيمس فريدريك فيرير James Frederick Ferrier

على صعيد التأريخ، والتنبؤ والتشيؤ،

كاصطلاح، وهو أول من إصطلح هذا المبنى الدلالي أي الفيسلسوف االإسكتلندي جيمس فريدريك فيرير James Frederick Ferrier

البروفيسو ر في علم الاجتماع، الاديب حسان الجيلاني جردها من هذه الفُهوم الفلسفية، فأعطاها بعدها الدلالي الاجتماعي بكثير من الاستطيقيا واستخدام مباني البديع كنمط تراجيدي، لكنه وديع .

وأنا أتصفح الكتاب في الوهلة الاولى وقد وضعت أمامي جملة من الكتب أقرها بالتناوب / روايات وأنا في الحجر، شدني الذهول الى هذه المغامرات، وأنا أتصفح تصدير أو تقديم الكتاب من قبل البروفيسور صالح مفقودة عميد كلية الاداب واللغات جامعة بسكرة، هذا التصدير، أو هذا التقديم أدركت أن السذاجة لا تكمن في رصف الكلمات عبثا أو إعتباطا وإنما كانت ناجمة كما ذهب إليها - في توطئة له - تثمينا - البروفيسور حسان الجيلاني مؤلف هذه المقامات، أن الأمر إنطلق من قاعدة وعي قصوى، تمثل في اختيار هذا الأسلوب ببساطته لكن بعمقه، واستحضار وتثمين " التشيؤ كمنحى دلالي لم يجيء هو الآخر إعتباطا، وأن إختيار بوعرّيفة، هو الآخر جيء به تثمينا أيضا لحتمية تبادلي ليس كما أحاجي جحا، أو نوادر الجاحظ، وإنما بخصوصية العارف بترتيب أمور المباني .

بوعرّيفة، شخصية محورية مركزية، تنطلق من بيئة سوفية، أو حتى غيرها، يدعي أنه يعرف كل شيء، لكنه غالبا ما يخفق وتسقط تنبؤاته،ولكن الأديب حسان الجيلاني، إنتشله من هذا الغرق المبين، فوظفه توظيفا بينيا مبينا أيضا وذكيا لإستجلاب المتعة والاستزادة منها معرفة ََ ودلالات، وهذا ما حدث لي وأنا أستقرئ هذه المقامات في وعيها الدلالي، وقد أحالنا - إسقاطا على راهننا بوعي كاتب قدير، تمكن من جلب الممكن في معطف الأسلوب الساخر، وليس الإستهتار أو الاستصغار من قيم الانسانية، بل بالعكس أعطاها بعدها المنوط

بها كقيمة إنسانية، فقط يجب أن تصقل بالتريت في إيلاء أشياء المجتمع مكانتها، من منظور أخلالي متزن، وإن كان يكتنز في طياته مدارك التذمر، والجسارة معا لتشريح واقع مشين، بدعابة، وهذا ما جعله " يستوطن " منظومته الأسرية، كمرافع وكمحام عن هذه المطبات الاجتماعية خارج منظومته الاسرية في تكوين لحظة الادراك والإشراق معا لدى المتلقى

أن ما كان يحيط وما يرهق ضائقة المجتمع على جميع الأصعدة يجب أن يعالج في هذه الكيفية التي أمتعنا بها كمتلقين وهو رجل مسرح أيضا: أسلوبا وبراعة في توطين ذوات الاشياء، والعيش في كنف الاسقاط وهذا ما اجتليته من هذه البدائع الغزيرة، والكامنة في عمق وجرح الأمة .

الكتاب جدير بالقراءة، وأنصح بقراءته، فقد إجتلى كل مكنون بملفوظ بديع، ولعمري أن الكاتب وقد تشبّع من كينونة المراس، فرَشَحَت قريحته هذه المباني رهوا على وقع نوق فيافي وادي سوف، ليوزعه على المعمورة قاطبة بهذا الاسلوب، المبسط الرائع،

نجدد الرحمة على المرحوم، حسان الجيلاني وقد أهدانا هذه الذخائر وغيرها (حوالي 32 كتاب وأزيد) في شتى المعارف، وقد أهداني إياها " أي مغامرات بوعريفة - مشكورا عندما كان بيننا معززا مكرما، ننهل - وما نفتأ - من بدائعه هذه وغيرها، والآن هو أمام الخالق البديع، نتضرع للعاشق البديع، الجميل الذي يحب الجمال أن يشمله بواسع رحمته، أمين يا رب العالمين

***

كتب من البليدة : أحمد ختاوي

....................

هامش

1- السوفية في إشارة إلى مدينة وادي سوف الجزائرية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم