صحيفة المثقف

أعلن براءتي من يوم ميلادي

جمال العتابيأقسم بأغلظ الإيمان ان يوم 9 نيسان من كل عام هو يوم ميلادي، دفتر (النفوس) الصادر عن دائرة الاحوال في مدينة قائمة على أديم الغراف يثبت ذلك، ومفكرة جيب لوالدي تجمع كل المناسبات من طلوع الثريا، و(زروگ نجم سهيل)، الى موسم حصاد الذرة، تثبت ذلك ايضا،ليس في ذلك غضاضة، بل اشعر بالتميز اني اختلف مع اغلب العراقيين الذين سجلت مواليدهم يوم 1 تموز , وهم لا يعلمون السر وراء اختيار هذا التاريخ !!

وثقتي بتاريخ ميلادي من ثقتي بوالدي المعلم المنظم عقلا وسلوكا، الحريص على تدوين متغيرات الأسرة  في تلك المفكرة، بدقة وأمانة، وإهتمامه بشؤونها، رغم انصرافه للعمل السياسي الذي استنزف طاقاته الفنية والادبية أو عطلها  بوقت مبكر من حياته .

تلك أسباب لا تدع لدي اي مجال للشك بصحة مدونات الوالد طيلة سنوات عمره، ثم تأكد لي ما سجله من وقائع تاريخ ولادة أشقائي (التسعة) من بعدي !

كنت مطمئناً تمام الإطمئنان حين استعيد الذكرى بالاحتفاء المتواضع لسنوات عديدة، دون أن يكدر خاطري أي إقتران بمناسبة او أخرى، مبتكراً المسرات في أيام حالكة السواد من زمن الديكتاتورية، كنا نبني اسواراً حول العاصفة في دواخلنا، حتى لاندعها ان تدمرنا ..

يبدأ نيسان بكذبة، واكتشفت الحكومة ان عيد الشرطة العراقية هو يوم 9 منه لا الأول، ووقعت في ورطة اخرى بعد 2003 ان عيدها مناسبة يحتفل بها بريمر وحلفاؤه في إحتلال البلاد التي  أحرقوها ونهبوها، ثم 7 نيسان الذكرى التي خفت بريقها أمام الكرنفالات الكبرى بميلاد القائد في الاواخر منه،   ومن المؤكد ان منظمة الصحة العالمية لم تحتفل بيومها هذا العام في 7 نيسان،  الجائحة تلاحقها هي،  وترامب يهدد بقطع المساعدات عنها متهما اياها بسوء الإدارة، لم تكترث المنظمة للتهديدات، لانها مشغولة بإحصاء ارقام الوفيات والإصابات المتصاعدة في العالم

ولم يسلم  تاريخ تأسيس بغداد في 21 نيسان، من التزوير لكي لا تتعارض مع مهرجانات تستمر لأسابيع، فرحّلوا المناسبة الى تشرين ثاني من كل عام تعسفاً وصلفاً. وفي نيسان مناسبات عالمية أخرى، منها على سبيل المثال، اليوم العالمي للملكية الفكرية، واليوم العالمي لحمى المستنقعات، واجمل ما في نيسان هو اليوم العالمي للرقص في 24 منه، كم نتمنى ان يحتفي نيسان ومعه العالم،بهذا اليوم فقط، وندع الآخرين ان يحتفوا بأيامهم حسب ما شاؤا !!

كنا نمارس مهنة العيش بكل تناقضاتها الحادة، ومذاقاتها المتصادمة،ونتجاوز الأزمات وأيام الرعب والتهديد، لننقذ أنفسنا وأحلامنا من الإغتيال، بل ان هذا الواقع منحنا قدرة النمو والتفاؤل،ولم تفتأ الاسوار ان تمنعنا أو تقتل الأماني والتطلعات، أن تمحوَ  نظرتنا لما هو أجمل وأمتع .

كانت المناسبة إستعادة للأيام والأحلام والذكريات، لم يدر بخاطري ان يكون هذا التاريخ لحظة فارقة بين نهاية ديكتاتورية وبداية لإحتلال، داست فيه دبابات المحتل أرض الوطن، وأول أهدافها،التاريخ والحضارة فراحت تنهب كنوزه وآثاره وتحرق كتبه وتراثه!!!

لم يعد ممكناً ان أمضي نحو الفرح والإبتهاج بعد عسر طويل امام اختبارات الديكتاتورية، انه الخيار الأصعب . والإلتباس الأكثر شدة !

لم يعد نيسان موسما للربيع، لم يعد مهداً لأحلامي وأمانيي، بدأ بمرثية كبرى ونزف جديد،حاولت أن أحيي المناسبة بنبض مختلف، لكنني كنت أرى وجوهاً مليئة بالشكوك والأسئلة، وأرصد همساً عند الاصدقاء عن صحة الذكرى، وذهب منهم بعيداّ في وصفها إفتعالاً وبقصدية !!

فمن أين لي بالدليل والبرهان لأدحض الإتهام وأبدد الشكوك ؟؟ حتى اؤلئك الاقرب لم يعد يصدق ما أقول، حتى ان هذه الشكوك بدأت تتسرب إلى داخلي، وخامرني شعور شديد التأثير على نفسي في الرضوخ للأمر الواقع،كوسيلة للتخلص من المتاعب لأعلن براءتي من يوم ميلادي، لعلها شفيعي لإختياري الجديد الذي بدأت اتماهى معه لأستريح، ان اكون بلا يوم ميلاد !! بوهم لإزاحة الكوابيس كلما أقبل نيسان .

انها ليست مزحة حقاً، هي إشكالية كبرى أن يتخلى الإنسان عن تاريخ وجوده، ويرضخ مذعناً لواقع أكثر إيلاماً، ليس من شك انه لون من ألوان التعزية لمن يعاودهم الحنين الى ماضيهم الجميل، وحين يكون الوطن مستباحاً، لا نجد لإمتلاكه من سبيل .

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم