صحيفة المثقف

التجريب الإبداعي في رواية: فرانكشتاين في بغداد

صفاء الصالحيلا شك ان المساحة المتاحة في تقنية السرد التي انمازت بها الرواية على باقي الاجناس الادبية، قد جعلت من الرواية بوتقة تستوعب صهر المدارس المتعددة، والتيارات الشتى، والتقنيات والرؤى الإبداعية الحداثية لمعظم الاجناس الادبية، وان ولادة نمط جديد ما يعرف بالرواية التجريبية نتيجة طبيعية لشساعة هذه المساحة المتاحة في تقنية السرد الروائي، ويعد الروائي العراقي الشاب احمد السعداوي في طليعة الجيل الجديد في الكتابة الروائية، ممن تولى إدامة شعلة إستمرارية التجديد والتحديث في الرواية العربية . وكشف السعداوي مدى نزوعه للتجديد والتجريب وتجاوز الأنماط الكلاسيكية في الأسلوب والبناء والتقنية، ورسم الشخصيات ومنظورها، في منجزاته الادبية ولا سيما في روايته  "فرانكشتاين في بغداد"، الصادرة عن منشورات الجمل عام ٢٠١٣، والفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها السابعة عام ٢٠١٤، بالاضافة الى وصول ترجمتها الإنجليزية إلى القائمة القصيرة للبوكر العالمية، وترجمتها الى (٢٠) لغة عالمية . ومن سمة التماثل اللفظي بالعنوان " فرانكشتاين في بغداد " إشارات دالة بالاشتغال التّناصي على المستوى المتخيل السردي مع رواية  "فرانكشتاين " للكاتبة الإنكليزية ماري شيلي لكن برؤية جديدة يعيد فيها إنتاج الفكرة والرمز ويطبقها على واقع عراقي ما  بعدالغزو الأميركي، وظف فيه البعد الفانتازي الغرائبي والعجائبي بابتكاره شخصية الشسمة (المخلوق الذي جمعه وركبه بائع العاديات  هادي العتاگ من بقايا جثث ضحايا التفجيرات الإرهابية) وجعلها أساساً من اساسيات الحدث في الرواية . تقع الرواية في تسعة عشر فصلاً منثورة على ٣٥٠ صفحة، تتجلى بشكل واضح تعالقها بمفهوم التجريب على مستوى التشكيل اللغوي فقدم الكاتب مادته الحكائية  بديمقراطية تعبيرية مستندة على تقنية السرد البوليفوني المتعدد الأصوات ذات الطابع الحواري، فقد حمل مسؤلية السرد على مجموعة رواة (الراوي، الشسمة، المؤلف،بالاضافة الى التقارير والرسائل الالكترونية) يتناوبون علی رواية الحكاية، بأنماط لغوية متعّددة تخترق معيارية اللغة، تختلف باختلاف مستويات الناطقين، ولا تخلو من السخرية، تتلون بالعربية الفصحى، واللغة العامية العراقية تحسس القارئ أنه في جو عراقي، ويعطي للرواية طابعا عراقياً خاصاً . يفتح السعداوي آفاق نصه باقصى امتداده  على الحقل السينمائي بتوظيف تقنياته في النص بانفتاح الاستهلال بمفردات متتابعة منساقة بشكل فني منماز تركبت لبناء مشهد بما يرادف صياغة وتركيب اللقطات السينمائية المتسلسلة فنياً، والتي تؤدي بالنهاية دلالات بصرية تجسد مضمون النص، وتؤسس كيان ذهنياً مرادفاً للكيان الكتابي للنص، استعار فيها الكاتب التكنيك السينمائي كالمونتاج المتناوب واللقطات المصغرة والمكبرة والمتوسطة والانتقال السريع من مشهد لآخر، فيصف الباص من الخارج  (حدث الانفجار بعد دقيقتين من مغادرة باص الكيا الذي ركبت فيه العجوز إيليشو ام دانيال)، وينتقل باللقطة باسلوب سينمائي مشحون بالحركة  الى داخل الباص (التفت الجميع بسرعة داخل الباص، وشاهدوا من خلف الجام بعيون فزعة كتلة الدخان المهيبة..ص١١) . ثم يلحقها بالسرد الوصفي الدقيق للمكان الروائي مبلوراً إياه  بالمؤثرات الصوتية المحيطة بالمشهد (قرب ساحة الطيران وسط بغداد شاهد ركض الشباب باتجاه موقع الانفجار وارتطام بعض السيارات برصيف الجزرة الوسطية أو بعضها ببعض.. وسمعوا حشد أصوات بشرية متداخلة،صراخ غير واضح ولغط ومنبهات سيارات عديدة)  .

وتسير الرواية في اتجاه تقديم الأحداث ووصفها عبر "عين الكاميرا" انطلاقاً من رؤية مرهونة بنزعة تجريبية، تتخلخل رتابة السرد فيه من خلال كسر خطّية الزمن المعهودة في الرواية التقليدية، بإحالة الزمن الى لعبة فنيّة، يتلاشى فيه منطق الوقت وتعيد دورة الزمن  نفسها وتتدخل لحظات الماضي والمستقبل، عبر توظيفه تقنية الاسترجاع الزمني انطلاقاً من ذاكرة محمود الصحفي (دوامة الغم القديم نهضت في صدره بسبب ذكرى..ص١٨٩)، والاستباق انطلاقاً من فريق المنجمين في مكتب العميد سرور مجيد. (التقارير الأولية التي أعدها فريق المنجمين..ص١٢٣)، مما يعكس  مفارقة بين زمن القصة وزمن الخطاب في الزمن السردي، بالاضافة الى المفارِّقة الثانية في وتيرة الزمن السردي من خلال تسريع السرد بمقاطع قصيرة تغطي فترة زمنية من الحكاية وذلك بتوظيف تقنية  التلخيص (بعدها بيومين..ص٢٦٨، قضى الشهرين..ص٨٦،..)، وتقنية الحذف  ( ظل يعمل في صحيفة الهدف بضعة اشهر.. ص٥٤، بعد يومين..٢٦٨، في الخامسة والنصف فجراً..ص٣٠٠، بعد أسبوعين..ص٣٠٩،..) وتعطيله السرد بإقحام  حكايات فرعية ترتبط بالحكاية الأساسية، وتوظيفه لتقنية المشهد (كان الرئيس في سيارة مارسيدس سوداء مصفحة حين مر بجوار هادي..ص٢٠٧، رأى محمود أنه يمسك بيده..ص٢٦٠،..)، بالاضافة الى تقنية الوقفة الوصفية (بيت بناه اليهود على الأرجح.. ص٢٠، في صالة الضيوف.. ص٢٢،..). وتنمو مكونات النص مع المكان لتأطير المتن الحكائي وتحريك خيال القارئ لتصور الأمكنة التي يعرضها الكاتب وبرزت  أهمية المكان من العتبة النصية الاولى العنوان " فرانكنشتاين في بغداد "، على اعتبار بغداد الاطار الجغرافي للأحداث وحركة الشخصيات، ولعب الوصف دوراً بارزاً في  تصوير ونقل الابعاد والمعطيات المكانية،مع انصراف التركيز في وصف الامكنة التي تتمحور حولها الاحداث الرئيسيّة المرتبطة بحركة الشخصيات المحورية، وضمت الرواية امكنة واقعية اتخذت منه مسرحاً للكثير من الأحداث  كحي البتاوين وسط بغداد الذي كان يمثل أيقونة التنوع السكاني المتعايش في المجتمع العراقي في الخمسينات من القرن المنصرم، فاليهود إلى جانب المسيحيين والمسلمين . وحرص الكاتب على تقديم صورة مما تعرض له هذا المكان من طمس  معالم التعايش السلمي بين اطياف المجتمع  العراقي نتيجة غياب النظام  وانتشار  الفوضى مع غياب الامن، وحرص الكاتب على تقديم صورة مما تعرض له هذا المكان من طمس  معالم التعايش السلمي بين اطياف المجتمع  العراقي نتيجة غياب النظام  وانتشار الفوضى مع غياب الامن، وانقياد المجتمع لسلطة المال وبروز جماعات الضغط  من مافيا العقارات  (فرج الدلال رجل شرير ..ص٢٢٧). وتنقسم الامكنة في الرواية مابين مغلقة (المقهى، والبيت، والفندق، بناية المجلة، مكتب دائرة المتابعة والتعقيب) واُخرى مفتوحة (حي البتاوين، بعض ساحات وشوارع بغداد، مقبرة وادي السلام) .وتتعالق العناصر الروائية فيما بينها وتنمو الأحداث وينهض معمار الرواية  بعدة مستويات منها المستوى الواقعي المألوف (الاجتماعي والسياسي)، ومستوى فنطازي عجائبي معجون بالرعب من خلال (الشسمة المخلوق الخيالي المرعب)، بالاضافة الى المستوى البوليسي  من خلال المطاردات المثيرة لدائرة المتابعة والتعقيب للكائن الفرانكشتايني في شوارع بغداد . ولإضفاء مسحة تجريبية يكشف الكاتب مبناه الميتاسردي في الفصل الثامن عشر بالإعلان  صراحة عن مجريات عملية  التأليف وجمع الآليات الميتا سردية (تدوين وتوثيق الصحفي  محمود السوادي حكايات هادي العتاك عن الشسمة لرواد مقهى عزيز المصري، وما سجلته آلة التسجيل، ووثائق دائرة المتابعة والتعقيب، ورسائل البريد الالكتروني) وتناولها بوعي ذاتي عمد الى فضح لعبته السردية بالتحدث عن الهموم السردية داخل فضاء السرد (كنت مشغولاً بكتابة رواية باسم " الرحلة الغير المؤكدة  والاخيرة " ولم ارغب بتركها لملاحقة قصة ناقصة تحكي عنها هذه التسجيلات لولا انني تلقيت رسالة على البريد الالكتروني..ص٣٢٦) .

رواية فرانكنشتاين في بغداد رصدت ما واجهه العراق في عام ٢٠٠٥ من احتراب طائفي واحداث عنف وتفجيرات شبه يومية وصورت مشاهد حية من حياة العراقين في بغداد، وقدمت لنا نصاً ابداعياً مارست عين السارد فيه وظيفة كاميرا تتقن تسجيل مشاهد تتحرك على شاشة خيال القارئ بتشويق عجيب، وكتبت بطريقة تقطيعية في مشاهد تتسم بالنضج الفني والتماسك البنائي وتبدو لي رواية  فرانكنشتاين  رواية تجريبية وظفت التقنيات السينمائية ببراعة ومكتوبة كي تصبح فيلما سينمائياً، فهل ستغوي المتلقي وهي مجسدة على شاشة السينما بعد غوايتها شاشة مخيلته؟

 

صفاء الصالحي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم