صحيفة المثقف

من وحى الجائحة

ناجي احمد الصديقمن كان يظن ان العالم بأسره سيدخل فى سبات عميقة ليس نوما هانئا ومريحا وإنما استسلاما محموما داخل الغرف و هجسا متزايدا بين الاسرة ووقوفا قلقا على الردهات، من كان يظن ان ليل اروبا الصخاب ونهار اسيا الجياش وصبح افريقيا الممراع كلها تتحول الى سكون كسكون الموتى وهدوء كهدوء الاشباح، من كان يظن ان رئيسا مثل كونتى يجهش بالبكاء وان ختيارا مثل ترامب تتقاصر قامته  وتتحشرج كلماته امام فيروس لايرى بالعين ولا يمس باليد .. فيروس لم يدوى كطائرات الشبح ولم يدمدم كزخات الرصاص ولم يزمجر كقنابل النابلم.. من كان يظن ان العالم الذى كان يصخب طوال الليل ويعمل طوال النهار أصبح مندسا وراء الجدران خائفا مرعوبا من وطأة المرض وخانعا مستسلما للحظات الموت، من كان يظن أن العالم الذى أنتج حاملات الطائرات وقاذفات القنابل بات ويصرخ علمائه وأطبائه ورؤساءه فى وجه التاريخ وعلى رؤوس الأشهاد  من عدو مجهول لا قبل لهم بمحاربته ولا طاقة لديهم لمقارعته ولا صبر فيهم على مهادنته .. عدو صغير فى حجمه ولكنه كبير فى فعله ... من كان يظن ان التاريخ سيتوقف فجأة  ليوغظ من كان نائما وينبه من كان غافلا ويدغدغ من كان يظن وان الحياة فى القوة وان القوة فى المادة وان التاريخ قد قال كلمته الأخيرة فى سياق الحياة على كوكب الأرض

لسنا فى مجال المحاسبة لان الحساب له يوم  ولسنا فى مقام المماحكة لان اللحظة فارقة والمصير مجهول ولكننا فى مجال التفكر فى المسببات والتدبر فى النتائج

لم نكن نسمع قبل برهة الا أصوات الشر تتناقلها وسائط الإعلام من امريكا الى اروبا الى أسيا الى الشرق الاوسط، الكل يلوح بالقوة والكل يتوعد بالدمار والكل يجاهر بالعداوة .. تجبر الرئيس ترامب كما لم يتجبر رئيسا قبله هدد ايران بالإبادة وتوعد كوريا بالقنبلة النووية وحارب العراق وافغانستان وخطا اكبر الخطوات نجو تهويد القدس اولى القبلتين وثالث الحرمين .. تجبر ناتنياهو وبات يتحدث كمن ملك الارض وروض التاريخ، شن العالم حربا على الإسلام فى المساجد والزوايا والمدارس، اهين الإنسان فى الصين وفى وبورما وفى نيوزلندة مات الناس فى عرض البحر وهم يبحثون عن اللجوء .. امتلآ العالم بالظلم فى كل نواحى الحياة تم ظلم الناس فى سوريا وفى ليبيا وفى اليمن مات الناس من الجوع  ومن الأمراض .. قتل الابريا بالسارين والكلور وقنابل النابلم والفسفور . لم تستطع المنظمات الدولية ولا الإقليمية ولا المحلية التى من لجم العنف ووقف الموت  .. وقفت الأمم المتحدة ومجلس امنها عاجزة مغلولة . ضعفت أصوات الحقوقيين والناشطين ودعاة الحرية والعدالة .. لم يعد فى إسماع الناس غير القوة والحرب والموت والدمار حتى صار الإنسان ليس امنا لا فى وطنه ولا فى مكتبه ولا فى بيته

 ظهور فيروس كورونا حدثا صادما لمختلف دول العالم لم يستثني الدول الغنية والفقيرة، وهو حدث يرجح حصول إرتدادات وتداعيات عديدة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية، فالانتشار المفاجئ للفيروس لم يوازي سرعة انتشاره سوى انتشار الفرضيات حول أسباب نشأته، إذ وصل الأمر إلى حد تبادل الاتهامات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين بشأن المسؤولية عنه، فمنذ الساعات الأولى لانتشاره بدأت الفرضيات تطرح نظرية المؤامرة، بأن الفيروس ليس سوى فيروسا مصنعا في المختبرات كنوع من الأسلحة البيولوجية . اهتز العالم بأركانه الأربعة وفطن الناس أخيرا بأنهم كانو يعيشون كما تعيش السائمة ،كانوا يأكلون ويشربون ويتناسلون دون ان يخطر على بال احد منهم ان هنالك قدرة فوق قدرتهم وحاكما فوق حكامهم وان النظام العالمى الذى يحيون تحت كنفه مهترئ وفاسد .

فطن الناس اخيرا الى ان جائحة كورونا ستقوم بتغيير العالم وان الحياة على كوكب الارض بعد كرونا لن تكون كما كانت قبلها وان متغيرات كبرى ستلحق بعالم ما بعد كورونا وقد تفضى الى زعزعة النظام الدولى الراهن لان ذلك النظام باطره السياسية الفكرية والسياسية والاقتصادية يتعرض لاختبار جديد، ووباء كرونا هو اكبر تلك الاختبارات واشدها وقعا وتأثيرا

لا يمكن استبعاد إمكانية إعادة النظر في النظام الاقتصادي العالمي والسياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتبعة، والتي ارتكزت على اعتبارات مصلحية نفعية بعيدة كل البعد عن الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية، والتوجه للتعامل وفقاً للمبادئ الإنسانية السامية والابتعاد عن الأنانية والاستغلال من قبل الدول الغنية على حساب الشعوب والدول الفقيرة، ولعل ذلك يؤشر في مرحلة لاحقة تراجع العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي حولت الإنسان إلى مجرد سلعة تبادلية في السوق الاستهلاكي العالمي القائم على المنافسة والاحتكار والعقوبات على حساب مصلحة الإنسان والحرية والعيش الكريم.

فيروس كورونا المسجد غير كثيرا من المسلمات وأبطل كثيرا من النظريات وأزاح كثيرا من الغشاوات حتى بات الناس يتحدثون عن ان ما بعده ليس كما قبله وان العالم كله مقبل لا محالة على تغيير جذري فى علاقاته وفى أولوياته وفى مسلماته وان الناس يجب ان يعدو العدة للتفكير من اجل مستقبلهم  ليس كما يفعلون قبله ولكن باجتراع الوسائل التى لم تكن فى حسبانهم من قبل، ولا غرو ان نجد سياسيا مخضرما كهنرى كيسنجر يدوى بصوته لا بصوت غيره ويقول ان  العالم سيتغير بعد كرونا الى الأبد وان على الإدارة الامريكيه التركيز على ثلاثة مجالات رئيسية لمواجهة تداعيات الوباء محليا وعالميا، أولها تعزيز قدرة العالم على مقاومة الأمراض المعدية، وذلك و السعي الحثيث لمعالجة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي جراء تفشي الوباء والتي لم يسبق أن شهدت البشرية مثيلا لها من حيث السرعة وسعة النطاق، وحماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي بصفتها المجال الثالث الذي ينبغي التركيز عليه.

هذه هى القوة التى فوق قوة البشر والقدرة التى فوق قدرتهم والسيطرة المطلقة التى لا تخضع لقانون ولا تعترف بحسابات ولا ترتكن الى تنظير.. هذه قوة الله وقدرته وسيطرته المطلقة وعلى كل الذين يخططون مستقبل البشرية ان يعودوا الى الله من بعد ما راوا بام اعينهم كيف تتدهورت الحياة وتراجع الاقتصاد وتباعد الاصجاب واوى الانسان الى نفسه واستعصم بذاته وامن بان النجاة فى العزلة

ربّما لن يدوم هذا البلاء حتى يكشفه الله عن العالم، لكنّه ينبغي أن يكون درسا وموعظة لنا جميعا، ينبّهنا إلى ضعفنا وقلّة حيلتنا أمام قدرة العليّ العظيم جلّ شأنه؛ فهذا مخلوق مجهريّ أثار الرّعب والذّعر في نفوس سكّان القارات السّبع، كيف لو أراد الله أن يسلّط على البشرية بعضا ممّا سلّطه على الأمم الخالية؟ مهما بلغت البشرية في تقدّمها العلميّ فإنّها ستظلّ ضعيفة أمام قدرة القدير سبحانه.. ومهما تخلّت البشرية عن نصرة المظلوم وسكتت عن الظّالم، فإنّ الجبّار المنتقم قادر على أن ينتقم لعباده ويسقط كلّ باغٍ من العلياء إلى الغبراء.. من واجب البشرية أن تطلب العلم وترتقي في مدارجه وتسبر أغوار الكون، لكنّها لا ينبغي لها أبدا أن تغترّ بما وصلت إليه، فما تعلمه لا يمثّل قطرة ماء في بحر علم العليم الخبير سبحانه.

 

ناجى احمد الصديق الهادى – المحامى - السودان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم