صحيفة المثقف

تفكيرٌ في الدين (2)

مجدي ابراهيممن تلك الوقفة التي وقفناها حول تراثنا الفكري الإسلامي، من حيث كونه اتجاهات ومدارس لها مناهجها المختلفة وطرائقها المتباينة في التكوين الفكري والتشكل المعرفي والـتَّوجُّه في التخريج؛ نعودُ لنلحظ من ناحية المنهج, وفق ما رأينا في السابق ما يمكننا ملاحظته والتعويل على هدمه ونقضه.

فهنالك العقليون الذين اعتمدوا اليقين البرهاني منهجاً في الوصول إلى الحقيقة. وهنالك الذوقيون الذين اختصوا بمنهج الذوق القلبي الوجداني في كشفها؛ أعني الآثار النظرية والعملية للأحكام الشرعية من ناحية مدلولاتها في قلوب المتعبِّدين بها.

وهنا يكون الذوق الروحي هو الدعامة الأساسية في كشف الحقيقة بمنهج مغاير تماماً عن منهج العقل والبرهان. وقد قصر الفقه مجال اهتمامه على ظاهر الأحكام الشرعية العملية فيما يتصل بالعادات والمعاملات، أعني الفروع منها على الخصوص؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والبيوع والزروع. أمّا علم العقائد أو "الفقه الأكبر"؛ كما سَمَّاه أبو حنيفة النعمان؛ فهو الذي يختصُّ بالأحكام الشرعيَّة الاعتقادية الأصولية كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه.

وممَّا هو جديرٌ بالملاحظة أنه - أي علم الكلام - مع شرف موضوعه وجلالة قدره، كان استخدم منهج الجدل والخطابة فأثار مشكلات موقوتة بزمانها ومكانها لا تصلح للاستمرار ومعاودة النظر فيها مع تجدد الأحداث وتعاقب الأزمنة وتطور العصور والتأمل في حركة الأجيال، فأنشأ أزمة في الفكر الديني الإسلامي من حيث كان يريد تلاشيها، وأورث الأجيال مجموعة من المشكلات الجدلية، كانت في غنى عن التفكير فيها، لو أنها انصرفت عنها مُتَحَرِّرة إلى ما هو أهم منها، بدلاً من صرف النظر إلى شواغل الجدل العقيم فى ظل العقائد الموروثة.

فإذا كان منهم مجتهدون أوقفوا نشاطهم الفكري على فهم "النص الديني"؛ فقد كان منهم خبيثون ذوو مآرب وضيعة، مقلدون غاية التقليد للحكام والأنظمة السياسية، شاركوا في غياب الحرية قديماً وحديثاً، وحاولوا إخضاع هذا "النَّص المقدس" نفسه لوجهة النظر يريدون أن ينتصروا لها؛ لتؤيد من ثمَّ عروش هؤلاء الحكام وبقاءهم دوماً في السلطة، تماماً كما حدث من شيوع الجبرية وتأييد حكَّام بني أمية لمذهب الجبر تدعيماً لبقائهم في الحكم، وكما مضى زمن الخليفة المأمون من تبنيِّه للفكر الاعتزالي واضطهاده لأئمة الفقه والدين الذين لم يقولوا كما أراد لهم أن يقولوا بفكرة خلق القرآن؛ وكما جرى في ملحمة "الحلاَّج" وتآمر الوزراء والقضاةُ والمستشارين السرِّيين والإفتاء بشرعية الحكم بإعدامه؛ لأنه مبتدع خارج عن سنة الدين! وهكذا إلى كثير من الأمثلة الصارخة للآثار السيئة التي أفسدت السياسة فيها حكمة الدين؛ فلم يعد "المقدس" على أيديهم مقدَّساً ولا تمكن منهم تقديسه من قلوبهم أن يتورَّعوا في إخضاعه قيد أنملة إلى السلطة الدنيوية.

ولم يكن ابن رشد مخطئاً، بل كان صريحاً وواضحاً في هذه الجزئية، حين راح ينعى على علماء الكلام تأملهم فى الكون تأملاً عقلياً، بيد أنه مقيد بالنصوص الدينية، لكن بحسب ما اقتضته تأويلاتهم المنحرفة، حتى تخلل هذه الشريعة الكثير من الأهواء الفاسدة والاعتقادات الباطلة من جرَّاء من ينسب نفسه إلى الحكمة؛ فعلماء الكلام، هم الذين أوجدوا التناقضات فى المعنى الظاهري للنصوص الدينية، وهم الذين أظهروا الخلافات فيما بينهم، حين انقسموا على أنفسهم شيعاً وأحزاباً، فكادوا يشوهون الحقيقة بأدلتهم الجدلية، وهم الذين اخترعوا تأويلات مختلفة للنصوص الدينية، وهم أعداء الدين على الحقيقة.

ثم كان من جهة أخرى أحد أهم أسباب الأزمة في الفكر الديني الإسلامي؛ أعني أزمة فكر من حيث هو فكر، وليست أزمة دين من حيث هو دين : فَهْمٌ غير صحيح للدين. ومعنى الفهم غير الصحيح للدين، إنتاج صراع على المستوى الفكري يوشك أن يتخذ شكله الواقعي فيتشكّل على الصعيدين الاجتماعي والسياسي:

صراع بين مَن يفهم وبين مَن لا يفهم؛ أو بين مَن يفهم ويجمد على ما يفهم. تلك كانت اشكاليات عويصة على مستوى الأيديولوجي تشكل أزمة كبيرة تكشف عن حدة الصراع الذي تقف وراؤه مجموعة من الأسباب ليست هينة ولا هى بميسورة التناول، وأهمها على الإطلاق "فقدان الحرية". ناهيك عن قلة عناية الفرق الإسلامية بمشكلة التبعة الخلقية والحرية الفردية، بل وقلة العناية بالمباحث الخلقية على وجه العموم؛ وهناك من الباحثين من أصدر فى هذه النقطة أحكاماً عامة يجانبها الصواب فقال:" فمن الغريب حقاً أننا لا نكاد نجد في الفكر العربي قديمه وحديثه بحثاً واحداً فى الأخلاق، إذا استثنينا كتابيّ "يحيي بن عدي" و"مسكويه" في "تهذيب الأخلاق", اللذين نسجا فيهما على منوال أرسطو والرواقيين من فلاسفة اليونان".

وإذْ نختلف مع وجهة النظر هذه، في اعتبارها الفكر العربي كله، قديمه وحديثه، يخلو من بحوث أخلاقية؛ لأنها وجهة نظر تعميمية ليست بالمُنْصفة, ركزت على الحياة العقلية فقط وأهملت جانب الزهد والتصوف في الحياة الروحيّة وهو جانب تكمن فيه الأخلاق حقيقة؛ فنحن من جهة أخرى نرى أن مثل هذا الجمود العقلي وراؤه غيبة فكريّة أسْفَرَتْ عن أزمة في الفكر الديني كانت؛ ولازالت، مُحَقَقَةً بالفعل. وأنه هو "ابن رشد"، فيلسوف العقلانية المطلق في الإسلام هو الذي قال: "درجة الفهم : تختلف من جهة العمق في معرفة الشيء الواحد نفسه".

أُرْجِئُ الحديث هنا عن عبارة ابن رشد لحين استكمال الفكرة التي أنا بصددها، وسأعود إليها بعد حين، والفكرة هى أن السياسة كانت في الأغلب الأعم لها أكبر الأثر في تشكيل الأزمات المتعاقبة فى الفكر الديني الإسلامي؛ ولا تزال!

ومن أسف أنها لا تزال ! فكما كانت للسياسة (قديماً) في الأغلب الأعم أكبر الأثر في جعل كثير من المفكرين والسَّاسَة وولاة الأمر يحتكمون إليها بحيث تكون هى نقطة الانطلاق، كانت كذلك (حديثاً) عاملاً مهماً وفعَّالاً في تشكُّل أزمة الفكر الديني في الإسلام، وفقدان الحرية من ثمَّ في جميع المستويات فيه وغيبتها عنه؛ إذْ ليس أوضح من هذا العامل عند أقرب نظرة عارضة في الطريق، فإن تعدُّد "المواقف" لا توحدُّها، وتشكُّلها في الواقع الإسلامي، إنما هو لعُبة سياسة بعيدة في الحقيقة عن حكمة الدين.

فمنذ "الفتنة الكبرى"؛ كما سمَّاها طه حسين، والسياسة تلعب دوراً خطيراً في توجُّهَات الفكر الإسلامي، بل هى في الغالب توجُّهه الأول والأخير؛ وهى هى عينُها خالقة الأزمات فيه بمواقفها المتعدِّدة وأيديولوجياتها المتباينة، وإخضاع الدين لهذه "المواقف" ولتلك الأيديولوجيات؛ فلنقف من أجل ذلك مرة ثانية وقفة طويلة بيانيَّة وفارقة عند أزمة الفكر الديني؛ كما وقفنا في السابق، لنضعها تحت مبضع التشخيص والتحليل كيما نحدِّد بواعثها ومنطلقاتها في الثقافة العربية ووضع الضوابط التي بدونها يختلط الحابل بالنابل ثم نعود بعدها أدراجنا إلى حديث السياسة: فِعْلُهَا في هذه المسألة بالمباشرة والتجريب.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم