صحيفة المثقف

جرينجو

انمار رحمة اللهجرينجو.. يدعونني بهذا الاسم منذ صباي، فصار اسم الشهرة الخاص بي، حتى أنني أتجاهل اسمي الحقيقي في بعض الأحيان. والسبب في تسميتي بهذا الاسم، أنني شاهدت فيلم (حفنة من الدولارات) عشرات المرات، وبدأت أقلد بطل الفيلم (كلينت إيستوود) بشخصية رجل الكاوبوي الشهير، والذي كان يلقبه أعداؤه بــ "جرينجو". وهذا مادفع بي إلى تقمص شخصيته على الدوام. في المدرسة قديماً كان التلاميذ زملائي منشغلون بالدراسة، وأنا منشغل بأخذ ثاراتهم من التلاميذ المتنمّرين، فقد كنت أتبرّع لأيّة عركة تحدث نصرة لأي تلميذ يستنجد بي. وهذا الأمر استمر طوال سنوات حياتي، أي عركة...أي عركة تحدث ، أهرع لها وأحشر نفسي فيها ضارباً من أمامي بشتى أنواع اللكمات والركلات، حتى يصل الأمر في بعض الأحيان إلى العض و وغز الأعين بالأصابع، ولم أسأل ولا مرة واحدة قبل العركة عن صاحب الحق، بل كنت أورط نفسي والسلام.. لقد نذرت نفسي للدفاع عن جبناء المدينة، أولئك الذين لا يجيدون العراك والخصومة والشجار الشرس مع اعدائهم المتنمرين. حتى النساء في حيّنا اللواتي يزعجهن بائع الغاز أو موظف جباية الكهرباء أهرول لنجدتهن، بل حتى الشجارات العائلية التي تحدث بين المرأة وزوجها، حين أسمع اسمي يُنادى به من شرفة أو من داخل محل أو في شارع (جرينجو.. جرينجو)، أجدني مندفعاً كالنمر باتجاه الصوت، والخوض في المعركة بلا تردد.. ولو جلس أحدهم لحساب عدد العركات التي شاركت فيها، منذ طفولتي للآن، سَيتيه في حسابها وتذكرها كما تتيه قطرة الماء في مجرى نهر جارف.. على أية حال تلك السمعة صنعت لي الكثير الكثير من الأعداء والأصدقاء. الأعداء المتنمّرين الذين ذاقوا على يدي مرارة الضربات العنيفة، والأصدقاء الجبناء والضعفاء الذين لم يكونوا ذوي بأس للرد على من يتنمّر عليهم ويؤذيهم.. إلى هنا الأمر كان جيداً.. حتى فاتحني صاحبُ صالة مراهنات، ذلك الرجل اللعين ذو البدلة الفاخرة والأسنان المذهبة، الذي كان يجمع الرهانات في لعبة الملاكمة الشعبية في المدينة. قال لي ذات مرة بعد أن عثر عليّ كما يعثر الصياد على حيوان ضال:

- اسمع يا جرينجو.. لقد عرضت عليك سابقاً اللعب في صالتي وجمع الرهان عليك، ولكنك رفضت في كل مرة، لكنني اليوم لدي عرض لك لن تستطيع رفضه.. لدي عرض سنجني منه مالاً وفيراً بلا شك، أضعاف ما سيجنيه أي ملاكم وغد في صالتي

- أي عرض..؟

- ( اضرب جرينجو).. هذا هو مشروعي المقبل..

- اضرب جرينجو..؟!. ماذا يعني هذا ؟

- سأدعك تفهم بشكل أفضل.. أنت قوي يا جرينجو، ولم تخسر في حياتك عركة واحدة، تخيل عدد اللذين يريدون ضربك ولكن لا يستطيعون؟!.. إذا سمحنا لهم بضربك سيكون الأمر مذهلاً، وأنت ستستلم مني أجراً عالياً على هذه المهمة بالطبع، بعد كل نزال يحدث، ستترك الحبل مرتخياً لخصمك، يضربك كيفما يشاء، وبهذا تخيل الجمهور الذي سيأتي للصالة للمشاهدة، بل عدد الذين سيدفعون المال مقابل توجيه لكمة لك.. تخيل معي الشهرة والمال اللذين ستجنيهما مقابل هذا الفعل البسيط وستصبح نجماً لامعاً يا جرينجو.

في البدء لم أكن مقتنعاً بالفكرة.. كيف يُضرب(جرينجو) القوي بطل المدينة؟!. وكلما فكرت بالأمر قفزت صورة (كلينت إيستوود) إلى رأسي وتلك الحركات الرشيقة المليئة بالفحولة، فيصيبني الحزن والضجر. أنا بحاجة إلى المال حقاً، وهذا العمل بالرغم من سخافته، إلا أنه سيدرّ عليّ مالاً وفيراً، لهذا توصلت إلى نتيجة هي أنني بعد أن أكسب مبلغاً كافياً من المال، أغادر المدينة نهائياً، كي لا تلاحقني وصمة العار التي تكبلني بها هذه المهنة.

***

حين بدأ الحفل، نشر وكيل الرهانات قبله إعلاناً عن حلبة مفتوحة.. مع جرينجو.. من يدخل الحلبة يدفع، ومن يجلس في الصالة يدفع، وهناك رهانات أخرى جانبية حول مدى صبري على لكمات من يدخل الحلبة معي.. دخلت ساعتها ولم أستطع رؤية الجمهور من شدة الإضاءة، وكاميرات الهواتف التي صارت تهطل أضواء فلاشاتها على عينيّ، والتصفير والتصفيق الذي دخل كزجاج مطحون في أذنيّ. في الحقيقة لم أتفاجأ كثيراً بمن سيدخل الحلبة معي، لقد عرفتُ هذا منذ اللحظة الأولى. هناك قائمة طويلة بمن ضربتهم قديماً من أعدائي، المتنمرين في المدرسة والشارع والعمل، وقفوا بالدور لدفع الأجرة، وتوجيه اللكمات والركلات إلى وجهي وصدري وبطني.. يوماً بعد يوم، وشهر بعد شهر، انتهيت تقريباً من جميع الاعداء الغاضبين مني، والذي اشفوا غلّهم بإهانتي أمام جمهور تنوع بين مشاهد وعدو وصديق.. عرفت أنهم انتهوا لأن أي شخص ينزل معي في الحلبة لضربي، كان يوبخني ويذكرني بالماضي، بالعركة التي أوجعته ضرباً فيها. أما لاحقاً فقد تطور الأمر.. التطور بالطبع كان يصبُّ في مصلحتي المادية، حيث كانت الأموال تنهمر في جيبي كالمطر. إضافة لهذا أنني شيئاً فشيئاً صرتُ أتعود هذه اللعبة السخيفة. لكن هذا ليس كل شيء، أعني أن هناك أمراً تطور من ناحية الأشخاص الذين صاروا يرتادون الصالة لضربي. لم يكن آخرهم تاجر خسر في صفقة كبيرة، فجاء إلى الصالة لتفريغ غضبه على بدني بلكمات موجعة. وآخر لاعب (كونغ فو) جاء ليضربني مقابل دفعه للمال لصاحب الصالة السعيد بهذا الإنجاز، وحين سأله بعض الحاضرين عن سبب ضربه لي وهو لاعب فنون قتالية، أجاب ( في الحقيقة الضرب في مباريات الفنون القتالية وفق قوانين قد أخسر فيها إذا أخطأت.. أما الأمر هنا لذيذ.. أشعر أنني أضرب الشخص هنا بالفعل، لا كما يحصل معي في المباريات هناك).. سمعت هذا من بعض الحاضرين، وهم يهنئوني على خسارتي أمامه..!. كم هو مضحك..؟!. لم أربح نزالاً واحداً في عملي هذا وبإرادتي الكاملة. كلها خسارات وآلام و أوجاع تغزو روحي وبدني، ومع هذا كان أهل المدينة معجبين بهذه الخسارات وأبدوا ارتياحهم، ولم يهمهم ما أعانيه من وجع أليم!.

***

يوماً بعد يوم.. بدني متاح لجميع الضربات.. يفرغون غضبهم على وجه جرينجو.. تأخر إعلان رحيلي عن المدينة والكف عن هذه المهنة المهينة والمؤلمة. حتى حدث الشيء الذي لم أستطع تحمل ثقله وألمه. الشيء الذي كانت ضربته أشد من جميع الضربات التي تلقيتها في حياتي. حين رأيت شخصاً صعد إلى حلبة الصالة، أعرفه جيداً، زميل كان معي في المدرسة قديماً، كان الزميل جباناً وكنت أدافع عنه دائماً في الماضي. وحين سألته مباشرة ونحن واقفان تحت الضوء المسلط على الحلبة من فوق ( لا أصدق.. حتى أنت؟!). أجاب بلسان مرتعش وقد عصر قبضة كفه واضعاً الكف الأخرى أمام وجهه لحمايته(نعم يا جرينجو.. ارجوك دعني أضربك.. لم أضرب أحداً في حياتي وأشتهي تجربة هذا الإحساس.. أرجوك يا جرينجو لقد دفعت مبلغاً كبيراً).. كانت القاعة تعج بالصراخ والتشجيع له، وأنا واقف أمامه كالتمثال صامتاً، فظن أن وقفتي تلك إشارة له بضربي، ولم يكن يعلم أنني كنت أعتصر بداخلي حزناً وألماً.. ثم لكمني على وجهي، فتراجعت إلى الوراء، ثم عاد إلى الخلف وأندفع بقوة وركلني بقدمه على صدري، فوقعت على الأرض، وعجت القاعة بالتصفيق له.. في الأيام التالية هرع جميع جبناء المدينة إلى الصالة. كلهم يريدون ضربي، وحجتهم هي ذاتها التي قالها لي زميل الدراسة الضعيف الذي كنت أدافع عنه حين يتنّمرون عليه في المدرسة. (دعنا نضربك يا جرينجو.. لم نضرب أحداً في حياتنا.. نشتهي تجربة هذا الإحساس). لقد كانوا أغلبهم من الجبناء الذين كنت أدافع عنهم.. في النهاية لم أستطع منعهم ولم أتحمل سخافة هذه المهنة فقررت الرحيل. وعند إعلاني هذا لصاحب الصالة تشاجر معي منفرداً بي في غرفته صارخاً (جرينجو.. يجب إكمال عملك.. أي شخص يأتي عليك تحمل لكماته، جباناً كان أو شجاعاً، تاجراً أو موظفاً أو صباغ أحذية.. لا يهم.. هذا هو الاتفاق لا تنسَ..). كان صاحب الصالة يتكلم، ولكنني لم أنتبه بعد جملته الأخيرة إلى صوته، لقد عم الصمت فجأة، ولم أميز سوى حركات كفيه اللتين امتلأتا بالخواتم الثمينة، ورائحة عطره الذي دوخني شذى رائحته الفائح، وتلك السيجارة الرفيعة الطويلة الموضوعة في مشرب ذهبي. لم أتمالك نفسي وقتها، أمسكته من ياقته، وطالعت بشكل واضح الخوف الذي فاض في بئري عينيه اللامعتين، ثم سرت قوة وقشعريرة مكبوتة في ذراعي، فبدأت ألكم وجهه عدة لكمات، وركلته في كل جهة في بدنه، ثم أخذت برأسه ووضعته في حجري واكملت اللكمات التي أمطرتها عليه كحجر ثقيل، حتى فقد الوعي وهذا ما ظننت، فتركته على الأرض سابحاً بدمه.. ولم أدر أنه قد فارق الحياة إلا حين أمسك بي الشرطة في منزلي، وها أنا ذا أمامك أعترف بالقصة كاملةً يا سيادة المحقق..

ضرب محقق الشرطة جرس الباب فدخل الحارس، أشار المحقق إليه بأخذ جرينجو إلى الحبس لحين ترحيله إلى المحكمة لاحقاً.. لكنه قبل هذا قال المحقق:

 - هل تعرف ياجرينجو؟.. أنا أيضاً كنت معك في المدرسة نفسها، لكنني في صف آخر، وكنت أراك وأرى قوتك وكنت أحسدك.. كنّا نتمنى ضربك بالفعل لأنك كنت الأقوى بيننا

ابتسم جرينجو بتعب متمتماً:

 - حقق أمنيتك الآن إذا أحببتَ، فأنا مكبل بالأصفاد وسجين عندك

ضحك الضابط وقال : لا.. لقد ضُرِبتَ بما يكفي. أتمنى أن لا يصدر بحقك حكمٌ قاس من المحكمة.. كالإعدام مثلاً..

ضحك جرينجو وقال قبل أن يعطي للمحقق ظهره ويغادر الغرفة:

- طز

***

أنمار رحمة الله

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم