صحيفة المثقف

9 نيسان 2003 .. العراقيون في المختبر السيكولوجي (1)

قاسم حسين صالحيعتمد علماء النفس على الفئران والكلاب والقردة بأجراء التجارب (القاسية) في المختبرات ليخرجوا بنتائج يعممونها على الطبيعة البشرية.والذي حصل في (9 / 4 / 2003) أن العراق صار بكامل ارضه مختبرا لاجراء تجارب ميدانية فريدة من نوعها على ثلاثين مليون من البشر لو انها اجريت على تلك الحيوانات لانهارت او جنت او ماتت.

في الآتي تحليل سيكوبولتك لما حصل يوثق للتاريخ ويقدم العبرة للقادم من الأجيال،فضلا عن انها تقدم أضافة عراقية لعلم النفس العربي والعالمي.

نظرية اولى في الطبيعة البشرية

كنت تابعت ما حصل للمجتمع العراقي بعد(9 نيسان 2003) فوجدت انه يقدم لنا (نظرية) نفسية عن الطبيعة البشرية نصوغها بالآتي:

"اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى.. شاع الخوف بين الناس وتفرقوا الى مجاميع أو أفراد تتحكم في سلوكهم الحاجة الى البقاء.. فيلجئون الى مصدر قوة أو جماعة تحميهم، ويحصل بينهما ما يشبه العقد، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة ".

كان هذا هي التحوّل السيكولوجي الأول الذي حصل للعراقيين بعيد مزاج الفرح الذي شاع بين معظمهم بالخلاص من الدكتاتورية . وكان فرحهم ذاك معجونا بدهشة أن ما حصل يصعب تصديقه.فللمرة الأولى في تاريخهم يفرح العراقيون بالقضاء على حاكم دمّر وطنهم وأذلّهم وقتل أبناءهم في حروب حمقاء وفي سجون مظلمة وفي الشوارع بوضح النهار.وكان هو الحاكم العراقي الوحيد في تاريخ العراق الذي سجل أعلى الأرقام في ترمّيل النساء وتيتيم ألأطفال،وفي جعل المهندسين خريجي الجامعات يبيعون (اللبلبي) في الشتاء و(الموطه) في الصيف في صنعاء وعمان وهم أبناء أغنى بلد في العالم!.

لم يعلم العراقيون حينها ان الذي سقط ليس نظام صدام حسين فقط انما (الفوضى الخلاّقة) اسقطت الدولة بكاملها،وفي هذا درس سيكولوجي خلاصته أن خيمة الدولة اذا سقطت (حتى اذا كان نظام الحكم فيها دكتاتوريا ) ولا توجد خيمة اخرى تجمع أهل الوطن، فان الناس يصابون بالذعر مدفوعين بـ" الحاجة الى البقاء " فيتفرّقون بين من يلجأ الى عشيرة أو مرجعية دينية، أو تجمع مديني أو سكني، أو تشكيلات سياسية أو كتل بأية صفة كانت.

والذي زاد في مشاعر الخوف بين الناس، وتوزعهم على مرجعيات اجتماعية وقومية ودينية، أن مزاج الفرح بسقوط الدكتاتورية امتزج بمشاعر الألم والمرارة التي تدمي القلب بتعرض بغداد الى النهب والسلب وحرق مؤسسات الدولة بشكل لم تشهد له مثيلا في أحداث تاريخ نهبها التي زادت عن العشرين. وكان أن اتسعت الكارثة بشكل جنوني لدرجة أن الوطن كلّه صار ينهب من قبل أهله!.

وللتاريخ فأن مؤسسات الدولة تعرضت للنهب في 8/ نيسان / 2003 وليس في التاسع منه. ففي صباح ذلك اليوم كانت أربع دبابات أمريكية تربض في الصالحية بجوار تمثال الملك فيصل الأول، وجرى نهب ممتلكات وزارة العدل التي لا يفصلها عن هذه الدبابات سوى رصيف الشارع. .على مرأى و " تشجيع " من الجنود الأمريكان، فيما بدأت الحرائق في بغداد في( 12 نيسان 2003)، إذ شهدت اشتعال النار في الطابق العلوي من بناية البنك المركزي العراقي، وفي الركن الأيسر الأرضي من مبنى وزارة العدل في شارع حيفا، وفي مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى وزارة الإعلام. وكنت أرى من على سطح العمارة التي اسكنها، الحرائق حيثما أدرت وجهي في سماء بغداد.

والعامل السيكولوجي الذي سهّل على العراقيين التخلي عن انتمائهم الى العراق ونهب وطنهم،هو أن النظام السابق ساوى في الانتماء بين العراق ــ الوطن، ورئيس النظام بشعاره: (صدام حسين هو العراق). وثقّف الناس على مدى ربع قرن عبر قنواته الإعلامية ومؤسساته التربوية والكوادر الحزبية بهذه المعادلة التي تختزل وطنا بحضارات عريقة وشعبا بقوميات وتنوعات مختلفة في شخص رجل واحد..وانه عندما سقط رئيس النظام واختبأ في حفرة تحت الأرض،وعرض بمشهد ذلّة كان فيه الضابط الأمريكي يفلّي شعره عن القمّل،انهارت تلك المعادلة نفسيا"، فتوزع الــ " 30 " مليون عراقي الى ما قد يزيد على المليون انتماء.

والدرس السيكولوجي- الاجتماعي - السياسي البليغ هنا هو أن الدكتاتور أو الطاغية اذا أطاحت به قوة خارجية ولم يطح به أهله،فان الناس يفتقدون " البطل " الوطني الذي تطمئن اليه قلوبهم ويمنحهم الشعور بالأمان، فيما يتملكهم الشعور بالخوف وتزايد القلق بعد صحوتهم من فرحة الخلاص من جلادّهم التي جادت بها عليهم القوة الأجنبية، فيتفرقون ويصيرون أمام واقع نفسي جديد، هو:إن الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد، الذي ينهار فيه انتماؤه الذي يوحّده طوعا" أو قسرا" لا بد أن تتصارع فيما بينها على السلطة، حين لم يعد هناك دولة أو نظام.

*

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم