صحيفة المثقف

اليسار العالمي وانطلاقة الثورة الفلسطينية.. تجارب فردية ملهمة

بكر السباتينمن هو الشهيد النيكاراغوي الأممي باتريك أرغويلو وإلى أين تمتد هذه السلسلة التي قضى أفرادها نحبهم من أجل فلسطين!

يتساءل كثيرون حول موت اليسار العالمي إزاء موقفه من القضية الفلسطينية.. وللإنصاف فشعلة اليسار إن انطفأت نسبياً في ظل السياسات الدولية المتقلبة التي تراهن على الموقف الأمريكي الداعم للاحتلال الإسرائيلي، فإن تاريخه النضالي ظل ملهماً في السياق التاريخي منذ انطلاقة منظمة التحرير الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي التي أنيطت بها مهمة تحرير الأرض والإنسان وترسيخ الهوية الوطنية وتحديد ملامح الشخصية الفلسطينية بأبعادها المعنوية والقانونية، المنظمة التي ضمت تحت جناحيها الحركات الفلسطينية المناضلة بكل أطيافها. وما دمنا نتحدث في سياق هذا المقال عن إسهامات اليسار في النضال الفلسطيني من منطلق إنساني، فإننا سنخص بالذكر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ودورها في تأليب اليسار العالمي على الاحتلال الإسرائيلي، وموقفها السياسي الثابت من اتفاقية أوسلو، ودعمها لخيار المقاومة على صعيد المواقف الرسمية، بعيداً عن تفاصيل منظومتها الفكرية الماركسية المتأرجحة بين الماوية الصينية الفلاحية واللينينة العمالية السوفيتية.

 نريد أن نتحدث بعفوية عن تعويم القضية الفلسطينية إنسانياً في عقل اليسار العالمي، حينما حمل "البندقية" متماهياً مع القضية الفلسطينية إلى درجة التمازج بالدم كما حدث في العقدين السادس والسابع من القرن المنصرم.. هنا نتحدث عن علاقات اشتباكية فردية خرجت من عباءة اليسار بكل التفاصيل انطلاقاً من تجربة جيفارا الأممية التي ظلت إلى الآن على تماس إيجابي مع حقوق الشعب الفلسطيني المستهدفة من قبل مؤامرة صفقة القرن.

يقول المناضل الأرجنتيني الأممي أرنستو تشي غيفارا:

"أينما وُجِد الظلم فذلك هو موطني"، وطبّق غيفارا هذه المقولة حرفياً وعملياً، فجنسيته الأرجنتينية لم تمنعه من المشاركة في الثورة الكوبية، ثم التحريض على ثورة الكونغو "كينشاسا"، إلى أن اعتُقِل في بوليفيا وأُعدِم هُناك.

ولم يمنع إعدامه بطريقة وحشية تمدد فكرته ومقولته التي أصبحت منهجا عالميا في تعاطي اليسار العالمي مع الثورات أينما وجدت وفي المركز منها الثورة الفلسطينية. والمعروف بأن تفاعل اليسار في أمريكا الوسطى مع القضية الفلسطينية من خلال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانت له مخرجات إيجابية تفاعلية متبادلة، فمقابل مشاركته للنضال الفلسطيني على صعيد فردي أو من خلال الدعم السياسي، كانت هناك مساندة فلسطينية يسارية للثورات في دول يتواجد فيها حضور فلسطيني متميز مثل هندوراس والسلفادور وتشيلي والأرغواي ونكرراغوا، ربما لاعتبارات إنسانية وأيدلوجية، أو بسبب التواجد الفلسطيني الفاعل في القارة اللاتينية بحيث وصل إلى سدة الحكم في بعض الدول قيادات سياسية يسارية واقتصادية ذات أصول فلسطينية..  وخاصة "الجبهة الساندينية لتحرير الوطن" التي شارك فيها بعض القادة من أصول فلسطينية بفاعلية واقتدار.. والتي أطاحت بالدكتاتور المدعوم من أمريكا، أناستازيو سوموزا دي بايل في 1979 منهين بذلك حكم سلالة سوموزا، وأسسوا حكومة ثورية بدلا منها. بحيث امتد الحكم الثوري من 1979 إلى 1990.. وهذا يعني بأن بداية حكمهم صادف بداية العدوان الإسرائيلي الأول على لبنان بقيادة شارون.. حيث أنهيت قواعد اليسار العالمي في لبنان مع خروج الثورة الفلسطينية من بيروت عام 1982 بعد احتلال لبنان من قبل الجيش الإسرائيلي وتشرذم اليسار اللبناني الذي كان يشكل الحليف الأقوى لمنظمة التحرير الفلسطينية في إطار القوات الفلسطينية المشتركة.

وفي سياق موقف اليسار العالمي تجاه القضية الفلسطينية نستذكر الكلمة التي ألقاها مندوب فيتنام وأوردها حنا ميخائيل أبو عمر في مجلة شؤون فلسطينية في عام 1973؛ إذ يصف مندوب فيتنام العلاقة قائلا:

"إنه لشرف عظيم لنا أن نكون بينكم أيها الثوار الفلسطينيون الغالون علينا والذين نعتبركم أشقاء لنا ورفاق سلاح في خندق واحد في نضال مشترك. على الرغم من أن فيتنام وفلسطين تبعدان كثيراً عن بعضهما البعض من الناحية الجغرافية فتقع الواحدة في الشرق الأقصى والأخرى في الشرق الأوسط، إلا أن المسافة لا تهمنا مطلقاً ونشعر دائماً أننا قريبون من بعض إذ نناضل من أجل القضية نفسها ألا وهي الاستقلال والحرية وضد عدو واحد الذي هو الإمبرياليون الأميركيون المعتدون وخدمهم في تل أبيب كما في سايغون. إن دعمنا بدون تحفظ للنضال العادل الذي يخوضه الشعب العربي الفلسطيني ضد الإمبرياليين والصهاينة الإسرائيليين المعتدين هو بالنسبة لنا مسألة مبدأ ثوري".

ومن هنا يمكن فهم العلاقة بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ممثل اليسار الفلسطيني الرئيسي، وكل من الجيش الأحمر الياباني والجيش الإيرلندي السري.

والجدير بالذكر أن الشهيد وديع حداد كان من أكبر الملهمين لليسار العالمي الثوري، ناهيك عن كونه أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والذي يصفه رفاقه برائد "العنف الثوري" في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وفي مذكراته قائمة بأسماء فدائيين قدموا من أميركا اللاتينية وضحوا بحياتهم من أجل الالتحاق والقتال في صفوف الثورة الفلسطينية تحت المبدأ الذي أشار إليه القائد الثوري الملهم أرنستو تشي غيفارا.. ومنهم على سبيل المثال، النيكاراغوي الأممي باتريك أرغويلو الذي استشهد في أثناء عملية اختطاف طائرة "العال" الإسرائيلية التي كانت متجهة من لندن إلى تل أبيب، في سبتمبر 1970. كذلك المناضل الأممي الفنزويلي إيليتش سانشيز، المعروف بـ "كارلوس الثعلب". ولد كارلوس في أسرة فنزويلية ثرية ودرس المرحلة الجامعية في موسكو  عاش فترة من صباه في لندن قبل انتقاله إلى لبنان، مدفوعاً بتعاطفه الشديد مع الشعب الفلسطيني وقضيته وانضمامه هناك إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

وكان قد قاد عدداً من عمليات العنف الثوريّ في أوروبا في فترة السبعينيات، تحت قيادة وديع حداد، بدءاً من محاولة اغتيال جوزيف سييف، رئيس محلات "ماركس أند سبنسر"، لكونه صهيونياً داعماً للاحتلال الإسرائيلي، وصولاً إلى احتجاز وزراء النفط في الدول الأعضاء في منظمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط (أوبك) في السبعينات الماضية عام 1975 أثناء اجتماع لهم في فيينا والذي احتجز خلاله هو وخمسة آخرون 70 شخصاً بينهم 11 وزيراً للنفط واختطافهم تحت تهديد السلاح ونقلهم إلى الجزائر، علاوة على ارتكابه عمليات قتل أخرى عدة في أماكن مختلفة من العالم ومن ضمنها مجموعة ارتكبها في فرنسا التي تمكنت شرطتها السرية من إلقاء القبض عليه بالتعاون مع الحكومة السودانية ونقلته إلى فرنسا حيث جرت محاكمته بتهمة قتل شرطيين فرنسيين عام 1975م وحكم عليه بالمؤبد.

 يضاف إلى قائمة وديع حداد، العديد من أسماء مَنْ تدربوا في معسكرات الفدائيين في الأردن ولبنان، وكانوا يعرفون ب "السوبر يسار" وهم ممن ساهموا في تشكيل أنوية اليسار في بلدانهم.. مثل فرانكو فونتانا والمعروف باسم جوزيف إبراهيم، وهو مقاتل إيطالي ينحدر من بولونيا الإيطالية، انضم لصفوف المقاومة الفلسطينية في مخيمات لبنان في سبعينيات القرن الماضي، وانتمى إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وكان متخصصاً في قصف الكاتيوشا. توفي عام 2015 في لبنان، وعند محاولة نقله إلى بلده الأصلي فوجئوا بوجود وصية له بدفنه في فلسطين، فإن تعذر ذلك، طلب دفنه في إحدى مخيمات الشتات، وهو ما حصل فعلا، حيث دفن في مقبرة شهداء مخيم شاتيلا. وقد زرت المقام إبان زيارة قمت بها مع وفد من منظمات حقوق الإنسان إلى حارة حريك جنوب بيروت إبان حرب تموز عام 2006.

ولا ننسى أيضاً تسويوشي، أوكودايرا، وياسويوكي ياسودا، وكوزو، أوكاموتو، وهم مقاتلون يابانيون من منظمة الجيش الأحمر الياباني، حيث نفذوا عملية مطار اللد النوعية عام 1972 وقتلوا وجرحوا العشرات، وكانت العملية مشتركة مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقادها إعلامياً الشهيد غسان كنفاني. وكان الناجي الوحيد من العملية هو "أوكاماتو" الذي أطلق سراحه في تبادل الأسرى عام 1985 والذي اختار العيش في مخيمات لبنان.

وهناك أيضاً بادر ماينهوف، وأولريكا ماينهوف وهي من أعضاء الجيش الأحمر الألماني الذين ساهموا مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بخطف عدد من الطائرات في أوروبا للمطالبة بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرائيلي في سبعينيات القرن الماضي.

ولعل الموقف اليساري قد تجاوز الدور التشابكي في إطار الكفاح المسلح، نحو استغلال الفن في سياق الوعي وتوضيح جوهر القضية الفلسطينية وأنسنتها، وتجلى ذلك في أهم التجارب اليسارية المتمثلة بتجربة رسام الكاريكاتير العالمي كارلوس لاتوف، البرازيلي من أصل لبناني.. وكان فناناً مناضلًا من خلال رسوماته التعبيرية، ويذكرني هذا الفنان المناضل بالفنان الفلسطيني العالمي ناجي العلي الذي تعرض للاغتيال في لندن والذي تفرق دمه على خصومه.. ولم يكن هذا التشابه متجلياً في التقنية والأسلوب، حيث اعتمد ناجي العلي على الفطرية التعبيرية جامعاً بين النقد الاجتماعي والسياسي في إطاره الثوري، بل في اعتماد القضية الفلسطينية كمصدر إلهام لرسوماته التي اتخذت بعدها الإنساني، حيث يرتبط عدد كبير من رسوم لاتوف بالصراع العربي الإسرائيلي حيث انصب اهتمامه به، بعد أن زار المنطقة في أواخر 1990.. ولم يحظى بزيارة بيروت في أتون الصراع المباشر مع العدو الإسرائيلي الذي حسم أمره عام 1982.. وقد أثارت تلك الرسوم موجة انتقادات عالمية لانتهاجها لغة التحريض ضد اليهود الصهاينة في إطار الحركة العالمية لمقاومة العولمة. وفي سلسلة "كلنا فلسطينيون"، تمكن هذا الفنان العالمي الفذ من أنسنة القضية الفلسطينية من خلال مناغمة الوجع الفلسطيني مع قضايا الإنسان في كل زمان ومكان. وكان الشهيد غسان كنفاني أحد أكبر ملهمي اليسار في العالم قد فتح بوابة الأنسنة والحوار المفتوح مع الآخر حتى نيل الحقوق المشروعة، من خلال رواية "عائد إلى حيفا" التي ربما تكون في نصها عملاً أدبياً روائياً، إلا أنها تحمل في طياتها تجربة جرح غائر لوطن مسلوب، وعذاب إنسان عانى قهراً وظلماً وحرماناً وتشرداً، إلا أنه دائماً وأبداً يحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في الوجدان. فبطلا الرواية سعيد س. وزوجته صفية العائدان إلى مدينتهما حيفا التي تركا فيها طفلهما منذ عشرين سنة تحت ضغط الحرب، يكتشفان بأن ابنهما قد شب في عائلة يهودية، والذي وضعته الظروف بين خيارات إنسانية صعبة بين أم فلسطينية أرغمت على تركه، وأخرى يهودية اعتنت به وربته فاختار الثانية. فيكتشفان أن "الإنسان في نهاية المطاف قضية"، وأن فلسطين ليست استعادة ذكريات، بل هي صناعة للمستقبل بكل تفاصيله وتناقضاته.. وهي من أشكال أنسنة القضية الفلسطينية، لذلك وبالعودة إلى الفنان كارلوس لاتوف، والذي ربما يكون قد تأثر بالتجربة الكنفانية، من خلال إظهاره العديد من الجماعات المضطهدة الشهيرة، بما في ذلك اليهود في غيتو وارسو، أو السود من جنوب إفريقيا خلال الفصل العنصري، والأميركيين الأصليين، والتبتيين في الصين، فيعرف الواحد منهم عن نفسه في سياق رسوماته المؤثرة، قائلاً: "أنا فلسطيني " وذلك في محاولة منه لتوضيح أن معاناة الفلسطينيين هي نفس معاناة المضطهدين في جميع أنحاء العالم عبر التاريخ. ولطوف رسم أيضاً سلسلة من الرسوم الكاريكاتورية التي تصور رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون، ورئيس الولايات المتحدة جورج دبليو بوش، والرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بالإضافة إلى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، من بين غيرهم من السياسيين، وحوشاً ونازيين.

وللتذكير، فإن القضية الفلسطينية قبل معاهدة أوسلو المرفوضة جماهيريا، كانت ملهمة لليسار العالمي، وبدا في سياق ذلك أن بوسع الشهيدين غسان كنفاني ووديع حداد أن يستقطبا اليسار العالمي لتعزيز الموقف النضالي الفلسطيني بجدارة واقتدار خلافاً لما هو الحال عليه اليوم في ظل يسار عالمي متراخي، وفاقد لبوصلته.

 اليوم يحاول من بقي على قيد الحياة من هؤلاء الأبطال أن يحفزوا على النضال من خلال الحديث عن تجربتهم النضالية العظيمة.. وأذكر في سياق ذلك المناضلة الفلسطينية ليلى خالد وقد شاركتنا منتصف العام الماضي ندوة ثقافية نظمتها دار الندوة تحت التأسيس بالتنسيق مع دارة آل أبو بكر تحت عنوان “راية المقاومة من جيل إلى جيل” بإدارة د سمير أيوب في مقر الدارة الكائن في الجاردنز، بمشاركة نخبة من المناضلات والمناضلين منهم الأسرى السابقين: الراحة تريزا هلسة، نواف الزرو وليلى خالد ورسمية أبو عودة، وكانت لي مشاركة بالإضافة للدكتور محمد سمحان.. وهذا يدل على أن انخفاض صوت اليسار لا يعني دفن التجارب النضالية الحية في الرماد دون استخلاص العبر منها وإخراج العقل العربي من غيبوبة الاستلاب.. لأن الفينيق الفلسطيني يستمد حياته بعد أن ينفض الرماد عنها، من تلك التجارب العظيمة التي صنعها مناضلون حقيقيون شرفاء في إطار سلسلة قضى أفرادها نحبهم من أجل فلسطين!

 

بكر السباتين..

13 أبريل 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم