صحيفة المثقف

أبو يوسف الكندي وتحليل الترددي

محمد كريم ابراهيمأبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (801-873م) الملقب بأبو فلاسفة العرب، يعد واحد من أوائل فلاسفة المسلمين والعراقيين. ولد في مدينة الكوفة الذي كان والده والياً فيها، وتلقى تعليمه الأبتدائي هناك، ثم أرتحل إلى بغداد ليكمل مسيرته العلمية في زمن خليفة المأمون. نتيجة فطنته وعكفه على قراءة كتب الفلسفية والعلمية، عينه المأمون مشرفاً إلى جانب الخوارزمي في بيت الحكمة على كتابة وترجمة كتب الأجنبية إلى العربية. ثم أوكله خليفة المعتصم في زمن خلافته معلماً لابنه أحمد.

كان للكندي دوراً كبيراً في ترجمة كتب فلسفية القديمة في بيت الحكمة، ولاسيما كتب الفلسفية الأغريقية لمشاهير فلاسفتهم، كأفلاطون وأرسطو. وهو بذلك العمل، لقب بالمعلم الثاني لمكانته العالية في الفلسفة، ولتوسيعه فسلفة ارسطو الملقب بالمعلم الاول. وكان تابعاً لمدرسة المشائية التي أوجدها أرسطو.

أشتهر ابن الكندي بنباهته في علم الفلك الذي ساهم باكتشاف نجوم ووضع نظريات فيه. وأخترع الكندي مقياساً لمعرفة مدى فعالية الدواء على المرضى من خلال أطوار القمر، وهو أول من أدخل علم الرياضيات الى الطب والعلوم الاحيائية. وقدم الكندي كتاباً عن أسس الطب والذي أصبح كتاباً أساسياً تابعاً في كل دول الأوربية آنذاك. وفي مجال الكيمياء، وصف الكندي طريقة تقطير العطور، وأخترع أكثر من 107 نوع من العطور. أما في علم الطقس، قام الكندي بتفسير ظواهر الجوية كالرياح وظاهرة المد والجزر. ثم قدم ابن الكندي للأسلام كثير من النصوص يشرح فيه أصول الدين والفقه.

ساهم الكندي كثيراً في نظرية الموسيقى ووضع قواعد جوهرية له، وهو يعد من أوائل علماء العرب الدراسين للموسيقى والعلاج الموسيقي، وهو أول من أدخل كلمة "موسيقى" إلى اللغة العربية، ومنها أنتقلت إلى الفارسية والتركية. من أجل كل تلك المعارف والإنجازات في مختلف العلوم والفنون، يستحق ابن الكندي لقب الفيلسوف من غير مجاملةً أو تمديح.

كتبَ الكندي ما لا يقل عن 260 كتاباً ورسالة في مختلف المجالات العلمية والفلسفية والدينية، منها كتاب الحث على تعلم الفلسفة، ورسالة في أن لا تنال الفلسفة إلا بعلم الرياضيات، ورسالة في أنواع الحجارة وأنواع السيوف والحديد، ومقالات عديدية عن حساب الهندسي والشفاء من السموم. لكن أهم من تلك الكتب ورسائل هو مخطوطته عن علم التشفير، التي وجدت في أرشيفات العثمانية معنونة ب(مخطوطة في فك رسائل التشفير). هذا العمل الإبداعي من الكندي هو العلم أساسي الذي يجعله مشهوراُ في عالمنا اليوم.

علم التشفير أو ما يسمى بعلم التعمية : هو علم يدرس النصوص بأنواعه وذلك لغرض تشفيره وجعله غير مفهوماً لبعض أشخاص غير مرغوب لهم بمعرفة محتوى تلك النصوص (تعمية العدو)، وجعل تلك نصوص خاصة فقط لمن يملكون المفتاح أو المعلومات في كيفية أرجاع ذلك النص المشفر إلى أصله. يستخدم علم التشفير في تقنيات الألكترونية وذلك لغرض تشفير معلومات هامة مثل الباسوردات وارقام السرية للحسابات البنكية، أو لإنشاء محادثات آمنة بين الأشخاص المتحدثين في الأنترنت.

أما علم تحليل المشفر أو أستخراج المعمى: فهو علم يهتم بدراسة نصوص المشفرة ومحاولة فكها وفهم محتواه من خلال أجراء تقنيات أحصائية ورياضياتية عليها للحصول على مفتاح أو معلومات كافية لإرجاع النص إلى أصله المفهوم. وهو علم مقابل لعلم التشفير واثنانهما يكملان الآخر، فالأول يشفر من أجل الأخفاء، والآخر يحاول فك الشفرة من أجل الإظهار. يستخدم علم تحليل المشفر في عمليات عسكرية والإجرامية لمحاولة فك الرموز الغامضة من رسائل المشفرة التي تتداول بين قيادات العسكرية أو نصوص المشفرة بين المجرمين والمافيات.

وجد ابن الكندي أول طريقة لأستخراج المعمى أو فك شفرة النصوص المشفرة، وهو بذلك أعطي شرف السبق للعرب في قيامهم بفك شفرة النصوص. يعتبر ابن الكندي اليوم واضع ومؤسس الأول لعلم التعمية والتحليل.

كانت الشفرات القديمة تستخدم طريقتي الأستبدال وتحويل الترتيب. طريقة الأستبدال هي تبديل حروف نصوص الاصلية إلى حروف أخرى في الأبجدية ؛ مثلاً، يمكننا القيام بتشفير النص الآتي :

علي سوف يقوم بالهجوم اليوم.

إلى

غمأ شيق أكين تبموحين بمأين

قمنا بأستبدال حروف الاصلية في النص إلى الحروف التي يليها في الابجدية، كما نرى تغير النص وتحول حروف الياء فيها إلى ألف، وحروف الألف إلى باء، وهكذا.

وأن أردنا إعادة النص إلى أصله غير المشفر، فما علينا سوى القيام بأستبدال الحروف في النص المشفر بحروف التي تسبقها في الأبجدية، فنقوم بتبديل الحرف (غ) في أول الكلمة إلى (ع) وإلى أخره حتى يعود النص مفهوماً للقارئ. وهذه المعلومة التي علمت فيها أن النص مستبدل بحروف التي يليها في الابجدية تسمى بالمفتاح، لأن في معرفتها ينجلي الأمر للمحلل في كيفية أرجاع النص إلى اصله. والمفتاح ممكن أن يكون مختلفاً عما أعطيناه في المثال هنا، فمن الممكن أن يستبدل الحروف الأصلية في النص إلى حروف الذي يبعد عنه بستة أحرف في الأبجدية، كتبديل حرف (أ) ب(د) وهكذا.

بدأ ابن الكندي بدراسة النصوص غير المشفرة أولاً، واستنتج بأن هناك حروفاً يتكرر استعمالها بشكل شائع عند تكوين الجمل، مثلاُ في لغة العربية يتكرر حرفي (أ، ل) كثيراً للغاية، بينما وجود حرفي (ض،ظ) نادر في النص، مما دفع الكندي إلى أستنتاج تقنية يقدر من خلاله فك شفرة النصوص التقليدية ومعرفة مفاتيح المستخدمة فيه.

هذه التقنية يعرف اليوم بتحليل الترددي: وهي تقنية يقوم بها المحلل (الراغب في فك شفرة) بإستخراج الرموز أكثر تكراراً في النص المشفر، ومحاولة أستبدال تلك الحروف بحروف أكثر تكراراً في لغة العدو. فبذلك عاجلاً أم آجلاً، سوف يكتشف المحلل مفتاح الذي يفك نص المشفر. ولا يقتصر هذه التقنية على الحروف فقط، بل يمكن تحليل نصوص المشفرة بالبحث عن الكلمات أكثر شيوعاً في اللغة. وفي وقت ابن الكندي، كانت الكلمات أكثر تنقلاً في رسائل المشفرة هي كلمات ذات صلة بالدين (الله، إسلام، مسلم...والخ) وكانت أغلبية الرسائل تفتتح بالبسملة وتحتوي على أقل آية قرآنية واحدة أو حديث نبوي واحد، مما يسهل أمر فك الشفرات للمطلع على ثقافة الإسلامية والعالم بأسلوب المتبع في كتابة الرسائل.

يعتمد التحليل الترددي على بعض شروط مقيدة التي لا يمكن أجراء العملية من دونهم : أولاً،يلزم أن يكون المحلل ذكياً وذات نباغة في أستخراج الأنماط من النصوص، فضلاً عليه، يجب أن يكون مطلعاً على ثقافة العدو وأن يتوقع موضوع الرسالة حتى لو لم يقرأ محتواه، مثلاً يجب أن يستنبط المحلل أن الرسائل المشفرة في الحروب هي بالعادة تكون أوامر عسكرية وليست رسائل حب.

ثانياً، يتطلب أن يتوافر هناك نصوص مشفرة كافية لتحليل والأستخراج الكلمات الشائعة منها، وإلا سوف تخرج النتائج خاطئة وبعيدة عن الأصل.

ثالثاً، يجب أن يكون النص مشفرة بشفرات الاستبدال. اي يجب أن يكون حروف النص مستبدلة بحروف أخرى في الأبجدية، وليست مشفرة بتقنيات تشفيرية أخرى. وهذه واحدة من قوانين عالم شانون الواضع نظرية المعلومات "المحلل يجب أن يعرف النظام".

ورابعاُ، يجب أن يكون عند المحلل وقتاً كافياً لفك الشفرة في الوقت المناسب، تصبح الرسائل العسكرية أو الأوامرية بلا فائدة إذا حللت في الوقت لاحق، فحواشي الرسالة لا تفيد المحلل في اي شيء بعد ذلك. وهذا الشرط أدى إلى شفرة العدو نصوصه بعدة شفرات متتالية حتى يصعب على المحلل تحليله في الوقت المناسب. مثلاً يقوم المشفر بتشفير النص الأصلي ثم إعادة تشفير النص المشفر الأول ثم أعادة تشفير النص المشفر الثاني وهكذا.

وجد ابن الكندي طريقة المثالية في تحليل وفك شفرة النصوص الكلاسيكية. وأستخدم هذه التقنية بعده بشكل واسع في عدة حروب ولاسيما في حربين العالمين في أوربا، إلا أنهم لم يستمدوه من كتب ابن الكندي، بل طوروا أفكار ابن الكندي بعد ترجمة كتبه، وأتي بعده عدة علماء بعده ليضعوا شفرات أخرى يصعب على تقنية تحليل الترددي فكها.

لا يستخدم اليوم شفرات الاستبدالية أو كلاسيكية في ميادين الألكترونية لسهولة وسرعة الحواسيب في فك شفرتها بالتحليل الترددي أو حتى بتجربة العشوائية للحروف. فالعالم يعتمد الآن على شفرة الأعداد الأولية في تشفير الألكتروني، وهذه التقنية يكون صعباً للغاية على الحاسوب تفككيها بسرعة.

بغض النظر عن ذلك، فأن أكتشافات ابي يوسف الكندي كانت فتيلة لتنوير علم التشفير وما لاحقها. أُحرض القارئ على أستخدام تلك الشفرات وتحليلها كلعبة لأختبار ذكاء وفطنة بين الأصدقاء والعوائل، أو حتى استعماله في تشفير كلمات السر عند كتابته على الورق، فهي فعالة جداً ضد غير المضطلعين بها.

 

محمد كريم إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم