صحيفة المثقف

الحب في زمن الكورونا

جعفر المظفرالمشهد الأول

تحتفظ أغلب العائلات العراقية التي تعيش في فرجينيا الملاصقة لواشنطن العاصمة بعلاقات ود تعبر عن نفسها كالعادة بالتزاور أو بالحرص على إقامة ولائم الأفراح ومجالس الأحزان، أما الزوار الذين يتوافدون على البيوت فهم يدخلون إليها وبأيديهم ماعون طعام أو حلوى يضاف إلى مائدة الدار الرئيسية.

ولآن المعروف عن (كليجة) أم أولادي أنها بطعم ونكهة خاصة لذا صار من عادتها وحتى بطلب من أهل الدار أن تدخل وهي محملة بالذخيرة الحية ولكن من تلك التي ترد الروح لا من التي تأخذها.

**

المشهد الثاني

زوجتي مصابة بداء النظافة، وعلى الرغم من أنها تستعمل النظارات الطبية فإنها، ولسوء حظي قادرة، وبالعين المجردة، على إكتشاف شعرة قد تسقط من رأسي ولو على عدة أمتار لأكون بعدها في موقف لا أحسد عليه، فتصوروا حالي عندما تكتشف سيدة البيت حبات "الشامية" التي تتساقط من الكيس وأنا أتناولها أثناء متابعتي لفلم السهرة.

وحتى لا تحدث كارثة من هذا النوع زودتني سيدة البيت بالتعليمات التي علي واجب إتباعها حين تناول الشامية وحتى تنعدم فرص تسرب ولو حبّة منها إلى أرض المكان الذي أقضي فيه شيخوختي وأتذكر فيه صباي وشبابي، وحتى لا أشمل بقائمة (العدالة والمساءلة) في اليوم الثاني وتكون عقوبتي الحرمان من كيس الشامية المخصص لتلك الليلة.

**

المشهد الثالث

القبو الذي أعيش فيه يشغل مساحة كبيرة من الدار وفيه ما فيه من اللوازم ما يكفيني لقضاء سنوات ما قبل الرحيل، غرفة نوم ومكتبة صغيرة، ومضيف يتسع لأكثر من "درزن" ضيوف، ومكتب يزينه جهاز الكمبيوتر الذي إعتدت أن أقضي أغلب اليوم وأنا أطبع عليه نشرياتي المزعجة، ومكتبة صغيرة بثلاثة طوابق تشغلها بعض كتب وكثير من صور الأبناء والأحفاد.

وقد إعتدت كل صباح أن يكون أول ما أعمله بعد أن (أفتح ريقي) هو أن أفتش عن حبات الشامية التي قد تكون وقعت مني في الليلة السابقة أثناء إندماجي مع فلم السهرة الذي يساعدني على نسيان أخبار الكورونا ويذكرني بالعصر الذي ما قبلها وكيف كان الناس يتبعون قاعدة التقارب والتلاصق الاجتماعي ويعتبرون التباعد الاجتماعي مرضا نفسيا لا يقبل به الأصحاء، فسبحان الذي حوله من مرضٍ إلى علاج.

**

المشهد الرابع

مساء كل أحد جرت العادة أن يأتي الأبناء وزوجاتهم والأحفاد ليتحول القبو إلى حديقة حبٍ زاهية وتفترش أرضه اللعب التي نخزنها لأمسية اللقاء، ثم وبعد أن تُفرش مائدة الطعام يرتفع صوت زوجتي بتهديدها المعتاد لأحفادها : من لا يأكل وجبة العشاء لن يحظى بنصيبه من الكليجة وسيكون نصيبه منها بمقدار ما يتناوله من طعام، ثم وهي تشير إلي تتابع القول : إلا واحدا من الجالسين

عندها ترى الأطفال الذين لا يزال أكبرهم لم يغادر عمر (التأتة) يتسابقون على الطعام لكي يفوز الواحد مهم بالنصيب الأكبر من (ماعون الكليجة) الذي وضع في مكان تناله أبصارهم ولا تقربه أيديهم إلى بعد العشاء.

**

المشهد الخامس

بعد أن ترى (بيبي سارة) الطعام يخرج من خياشيم أحفادها تأمرهم بالكف عنه ثم تُنزِل ماعون (الكليجة) من عليائه إلى حيث يصبح في متناول الأحفاد، وحينها تبدأ المعركة. ولآن من عادة الأطفال أن يملئوا المكان حركة وصياحا وقفزات لذلك يصير المكان برمته مغطى بنثار الكليجة. وحينها وفي أثناء هذا النشاط البركاني للأحفاد،تكون زوجتي حريصة على أن يتابع الأحفاد نشاطهم حتى لو غطى النثار رأس جدهم وحين يصدر صوت يأمر الأحفاد بضرورة إلتزام ضوابط النظافة فإن زوجتي تنهاه لأنها تعتبر نثار الكليجة على أرض القبو وسجادته ومقاعده ورأس زوجها مصدرا لسعادتها، فهو بالإضافة إلى كونه يؤكد على فرح الأطفال وسعادتهم فهو يؤكد أيضا على حلاوة إنتاجها الكليجوي.

**

المشهد السادس

يا ل (بختي) إذن. حبة شامية تتسرب دون إرادتي لكي تختبأ خلف مقعد أو تحت ثنية سجادة فتقوم الدنيا ولا تقعد، لوما وتقريعا وتعليمات، وحتى تهديدا بقطع إمدادي بكيس الشامية لتلك الليلة، أما مع الأحفاد فإن نثار الكليجة الذي يملآ أرض القبو وما فوق المقاعد وما تحتها ويغطي رأس جدهم ولحيته فهو دليل سعادة ومصدر خير.

**

المشهد السابع

مساء كل أحد لم يعد مسموحا للأطفال النزول من سيارات أبائهم بعد أن صدرت الأوامر لنا بالوقوف على مسافة أقلها ثلاثة أمتار وللأطفال البقاء مًكتّفين بأحزمة النجاة.

لقد صارت هذه هي طريقة اللقاء الإسبوعي، بلا جلوس في الأحضان، بلا قبلات، بلا جقلمبات، بلا عصرٍ ولا عض.ْ

أما الأطفال الممنوعين من مغادرة السيارة فصاروا ينظرون إلى الجَدَّيْن بحيرة وتعجب وإستغراب فهم لا يفهمون مطلقا أسباب تغير الأحوال وتبدلها. إن عليهم فقط أن يتبعوا ضوابط الإبتعاد الاجتماعي.

**

المشهد الثامن

يا للهول من يقنع طفلا إعتاد أن يركض إلى أحضان جديه أن هذه الأحضان صارت ممنوعة عليه حتى إشعار آخـر وهذا الإشعار الآخر قد يأتي وقد لا يأتي.

وربما يكون الأخير.

**

المشهد الأخير

ألجأ وحدي إلى القبو. أفتح كيس الشامية حريصا على أن لا تقع منه حبة واحدة، أضع الحبة الأولى قرب فمي ببطأ وأبقيها وأنا ساهم متبحر في البعيد حيث الصمت الحزين ثم حين أضع تلك الحبة في فمي أشعر وكأن طعمها صار مملحا بالدموع.

***

الدكتور جعفر المظفر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم