صحيفة المثقف

العراقيون في المختبر السيكولوجي (2): مظلومية واجتثاث

قاسم حسين صالحيعدّ تأسيس "مجلس الحكم" هو الحدث السيكولوجي الأخطر الذي كرّس رسميا" حالة تعدد الولاءات الى طوائف واديان واعراق وأحزاب وتكتلات على حساب الانتماء الى العراق، وبتأسيه نشأ تحول سيكولوجي جديد لدى العراقيين. فبعد إن أطيح بالدولة (وليس النظام فقط) وافتقدوا الأمان، ودفعهم الخوف الى قوة تحميهم " العشيرة بشكل خاص، اكثر الولاءات تخلفا"، بدأ مجلس الحكم يأخذ في وعيهم أنه الوسيلة الى السلطة.. ثم الدولة. فتقدمت لديهم سيكولوجية " الحاجة الى السيطرة " التي تؤمن لهم بالتبعية " الحاجة الى البقاء " .

وبممارسته السلطة عمليا، اشاع مجلس الحكم ثقافتين هما (ثقافة المظلومية) التي شاعت بين الشيعة والكورد، و(ثقافة الأجتثاث) التي استهدفت من كان محسوبا" على النظام السابق لا سيما في أجهزته العسكرية والأمنية والحزبية والمسؤولين الكبار في الدولة، وغالبيتهم من السّنة.وكلا الثقافتين كانت تقومان على سيكولوجية (الضحية والجلاّد). وقد تجسّدت إرادة انتقام الضحية من الجلاد باستخدام مفردة " الاجثتات " التي تعني القلع من الجذور. وكان الاجتثاث هذا أقرب الى الثأر الجاهلي منه الى التعامل الحضاري أو الشرعي أو المساءلة القانونية .

وعلى وفق المنطق السيكولوجي فأن انتصار " الضحية " على من تعدّه " جلادّها " يدفعها الى التعبير بانفعالية في تضخيم ما أصابها من ظلم، وشرعنة الاقتصاص حتى ممن كان محسوبا" بصفة أو عنوان على الجلاّد. والممارسة المضخّمة لأنماط سلوكية أو طقوسية كان " الجلاّد " قد منعهم منها.فالشيعة ملئوا شوارع المدن والأحياء الشيعية بالمواكب الحسينية وزادوا في اللطم والضرب بالزنجيل، وبالغوا في وسائل التعبير عن أنهم كانوا ضحية . والأكراد ايضا ركزوا في تجسيد ما أصابهم من ظلم، حتى صار الأمر بين الشيعة والكورد أشبع بالمباراة في تصوير ما أصابهما من ظلم .فشاعت " ثقافة الضحية " عبر صحف ومجلات صدرت في حينه بالمئات!. وتولى هذه المهمة مثقفون أو من أخذ دورهم ممن لم تكن لهم علاقة بالثقافة، نجم عنها تهميش الولاء للعراق، وتكريس الولاءات الكبرى: الطائفية والاثنية والدينية.. .، والولاءات الصغرى: حزب أو تكتل أو عضو نافذ في مجلس الحكم، أو شخصية اجتماعية مستقلة ومتمكنة ماديا"، أو مسنودة خارجيا". وكان اكثر تلك الولاءات تخلفا" ظهور ما اصطلحنا على تسميته يومها بــ (شيوخ التحرير) الذي يذكرّنا بــ (شيوخ أم المعارك) .

وفي زمن سلطة (مجلس الحكم) حصل ان انقسم العراقيون الى فريقين: الذين كانوا في الخارج زمن النظام الدكتاتوري، والذين بقوا في الوطن وما غادروه.. وحصل ان نشأت بينهما فجوة نفسية .فمع أن عراقيّ الخارج لم يقوموا هم بإسقاط نظام الحكم بل جيء بهم الى السلطة، مع الاعتراف بدورهم النضالي والتحريضي المشروع وتضحياتهم الكبيرة، إلا انهم أوحوا لعراقيّ الداخل بأنهم أصحاب فضل عليهم بتخليصهم من الدكتاتورية، وانهم يستحقون التمييز عليهم، وانهم ألأحق بتولي المراكز القيادية في السلطة. وكان أن نجم عن شعور الأستعلاء هذا شعور عراقيّ الداخل بالتهميش، نجم عنه ان استخدم في إسناد المسؤوليات المهمة في السلطة على أساس " الخارج مقابل الداخل " لا على أساس الكفاءة والنزاهة، وحصل أن تبوأ مراكز القرار في السلطات العليا والوسطى أشخاص بينهم كثيرون لا يحملون تحصيلا علميا ولا خبرة تخصصية.

وكنت التقيت جميع اعضاء مجلس الحكم، باستثناء المعممين منهم، بوفد يمثل اساتذة جامعة بغداد يوم كنت رئيسا لرابطتهم.. نطالبهم بمساواة استاذة الجامعات العراقية بأقرانهم في دول الخليج، اذ كان راتب التريسي الجامعي يومها بحدود مئة دولار في الشهر!

ومن طريف ما حصل أننا قابلنا الجعفري في بيت بشارع المنصور قريب من حلويات الخاصكي. قالوا لنا في الاستعلامات (لكم نصف ساعة). دخلنا.. قدمت استاذي الراحل الدكتور حسين امين.. تصافحا، ثم انا.. وحين جاء دور الدكتورة ليلى الأعظمي وزميلاتها من قسمي الاجتماع والتربية.. لم يصافحهن بل وضع يده على صدره.

استهل هو الحديث فبدأ من حمورابي.. مضت عشر دقائق وهو مسترسل.. رفعت يدي اليسرى وأصبعي على الساعة ليفهم الأشاره لكنه وصل الى العصر العباسي ويريد ان يكمل.. عندها رفعت يدي مقاطعا وقلت:

- لطفا دكتور.. نحن جئنا من اجل طلب محدد، وحددوا وقتنا بنصف ساعة وحضرتك تتحدث عن تاريخ العراق واستاذ التاريخ دكتور حسين امين موجود، وتتحدث عن المجتمع العراقي ورئيس الجمعية الاجتماعية واستاذات علم الاجتماع موجودين.. ارجوك أدخل بالموضوع.

فاجابني جوابا لطيفا:

- يبدو أنني كنت كحامل التمر الى البصرة!

*

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم