صحيفة المثقف
ملحمة المنفى
ملحمة المنفى (1)*
لمْ يقرع ناقوس في الدنيا
إلا بضعة قرعاتْ..
ثمَ يَسود الصمت،
وفي قعر الصمت
تتعالى صيحاتْ..
لا تلغي نذر الويلْ..
من هول السيلْ..
**
ناقوس أخرس،
لا يعكس غير رنين الموت
على الطرقاتْ..
يتماهى، فوق دروب الناس
صهيل الخيل،
المحمومة لا تدري أين هو المخبأ
أين هو الملجأ،
على إيقاع الزفراتْ..
**
مَنْ يقرع ناقوس الأموات؟
من يسمع آهات الاحياء؟
من يدفن تلك الأشلاء؟
في كل مكان في العالم
نسمع شهقاتْ..
**
والموج تعالى
والجوع تمادى
والقهر توالى
يتساءلُ مَنْ هُمْ في القيحِ،
كيف هي الأنباء..؟!
**
إقرعْ ناقوسك يا هذا،
قد يفزع صوت الريح المسمومة..
في قلب المدن المهزومة..
إقرعْ، ناقوسك هذا،
لا أحدَ يسمع،
لا أحدَ يشفع ..
فليخرج مَنْ في القبو ليكسر قيد الإذلال..
ويمحق ذل الأغلال..
لا أحدً يمسح أدران العالم
في محنته،
وصدى الناقوس لا يرجعْ ..
ناقوس يصدأ
ومأذنة تصدأ
ومنابر لا يدخلها نور الشمس،
ترفل بالصخب الأبدي ولا تردع..!!
يذهبُ أحد في مشوار الدرب ولا يرجع..
وأرى جدران العالم تتصدع..
وشرايين في كل مكان تتقطع..
وقلوب في كل مكان تتوجع..
لكني، رغم هياج الموج
وصخب الريح فلن اركع..!!
***
ملحمة المنفى (2)
كنت، وكان الدربُ موحلاً مقفرا
والمكان تملؤه
اشجار الصفصاف،
خذوا حِذركمْ ايها السابله..
رياح تعب السموم أراها مقبله..
أديمي هنا،
وهذا مقامي
نسيت غرامي،
مُذْ دلفنا السراط المستقيم تعبنا ..
وسرنا،
ثم حطت بنا عاصفات الرياح،
واندثرنا ..
خذوا حِذركمْ،
إنها الزوبعة، من تراب مدمى
تفرغ أحشائها،
كلما جاءها الغيم يمضي على عجل..
وفي ساعديه، لامعات الهلال
تحصد الأعناق،
تحصي شاهقات الأجل ..
سلوا الصفصاف والنخل والسنديان
عن مجثم للنحيب ..
ولا من مجيب،
إنها الريح تصفر في دروب المغيب ..
وكأنها في مهرجان
سلوا عاديات الزمان..
عن شمسنا والصباح،
سلوا كيف كانت عليه عيون الملاح..
تصب حنينها حبا قِراح ..
سلوها،
كيف تزدحم العصافير
في بركةٍ من مياه المطر
سلوا عاليات الشجر..
وكيف كانت شحارير ذاك المساء..
تشيع الحنين،
وتبحرنا في رحاب القدر..
***
ملحمة المنفى (3)
أقول لنفسي :
لمْ أكن نصف هلامي الهوى
احتاج كل العمر كي أكتملْ ..
لمْ أكنْ احتملْ،
هماً ولا ضيماً
ولا حتى سهاداً مثلما،
لمْ أكن أحلمُ
في يقظةٍ،
ولا أسبحُ في نهر الهوى كلما،
جاءه السهد وأمسى طوطما ..
كلنا يغفو على أحلامه
كلنا يشدو بأنغامه ..
ولنا في وهدة الصحو كلاماً مبهما ..
**
لمْ أكنْ نصف إلهٍ في رحاب الغيم
همساً ملهما ..
ايها النصف تمهل،
لا تقلْ انكَ كلي الهوى
مثلي تعاني
مثلما كنتُ أعاني
انت في السحر غيوم ماطرات
لك في الهمس سكوتي وصيامي..
ودعابات سلامي وكلامي..
كلها غابت تلاشت،
ثم أبحرنا الى المجهول
كم كنا على الترحال لا نقوى،
انه الصمت تعالى
بيننا كانت مسافات أراها،
بين هدبين قريبين،
وبين الصمت والصخب
تهاوى العالم حتى بات أعمى
لا يرى شيئاً، سوى ذاك الظلام
عتمة في القعر،
ما عادت مواويل اليتامى
في نهار قد تهاوى ..
عندما باتت شموسي وظلامي
قد تساوى،
فيهما الصمت تجلى،
إنه صمت مخيف
هل ترون القبرة ..؟
تنتشي الدفئ،
بشمس الصبح،
بين كثبان وظلٍ وقصبْ ..
هل ترون النورس يلهو
بين غيمات تراكضن
بلا هم ولا حتى تعبْ ..
هل ترون الكائن العقلي
مجبولا على الكره وحقد (العفترة)..
انها، إحدى تلاوين طلاء المسخرة ..
غرق العالم في لجة الموت
فمن ينقذ هذا العالم السفلي
وهل ينفعه،
ضجيج الحرب،
والتقتيل والتدمير،
وحقد المجزرة..؟
***
جودت العاني
...................................
(كان قد اقترح صديقنا وشاعرنا الجميل الساعدي توسيع قصيدتي (منفى في منفى)، ورأى فيها نفساً ملحمياً، حسب تعبيره، فجاءت هذه التأملات من معينين اولهما: الواقع وثانيهما: المشاعر التي يعكسها الواقع.. بإنتظار التوسع في الرصد).