صحيفة المثقف

مفكرون أمريكيون: الولايات المتحدة الأمريكية على محك التفكيك

بكر السباتين.. وتوقعات ألفين توفلر

الدراسات المستقبلية القائمة على الاستشراف الموضوعي، لا تبنى على التمنيات بل على تسخير معطيات الواقع لبناء التوقعات ومدى قربها من المنطق.

والحديث عن مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية يندرج في هذا السياق، وبما أن "أهل مكة أدرى بشعابها" فالمفكر الأمريكي المستقبلي سيكون أكثر مصداقية من غيره في الحديث عن ذلك، نظراً لارتباطه بالمصالح العليا لبلاده، والتي تشكل الدافع باتجاه نقده البناء للواقع الأمريكي. وحتى يكون هذا المفكر موضوعياً، سيأخذ بعين الاعتبار الحقيقة التاريخية التي تقول بأن القمة لا تدوم لأحد في تاريخ الدول والحضارات؛ لذلك، فإن تغيير المستقبل يبدأ بالنقد الإيجابي للواقع ومحاولة تغييره. وفي ذات الإطار وضع علماء "المستقبليات الأميركيين" تصوراتهم لمستقبل بلادهم، حيث يؤكِّدون بأن تفكّك وتهاوي أميركا هما مسألتان حتميتان فلا مناص منهما، وذلك بناء على قوانين وأسباب مؤدّية إلى سقوط الدول والحضارات، وهي "تكهّنات" تنبني على رَصْدِ مختلف العوامِل والأسباب والشروط التي أسقطت دولاً وإمبراطوريات مثل: الرومانية، العثمانية، البريطانية التي غابت عنها الشمس، الاتحاد السوفياتي.. وقياساً على ذلك فإن أميركا لن تكون خارج السياق وليس من المنطق أن تستثنيها قوانين التاريخ الإنساني، وخاصة أن أسباب تقهقرها كامنة في سياساتها الداخلية والخارجية وقد يعجل بالخاتمة رجل مقامر بمواصفات ترامب.

نحن هنا لا نتحدث عن نبوءات مستحيلة تقوم على الرجم بالغيب؛ بل على توقعات وفق ما يتوفر لدى المفكرين من معطيات واقعية وقواعد تقنية للقياس.

ولنبدأ بالمفكر الأمريكي الشهير " ألفين توفلر". فقد كانت دقة توفلر ومنطقيته في التفكير عندما تقرأ له وهو يحكي لك عن مستقبل العالم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا كفيله بأن يجعلك تشعر أنه يحدثك عن شيء يراه بالفعل حاضرًا أمام عينيه.

"آلفين توفلر" الكاتب والمفكر الأمريكي وعالم دراسات المستقبل الذي غيبه الموت في لوس أنجلوس قبل عدة سنوات، والذي أبهر العالم بتوقعاته، حيث تُرجمت كتبه ودراساته إلى أكثر من عشرين لغة حول العالم، وقام بالتدريس لعدة رؤساء دول وحكومات أبرزهم "ميخائيل جورباتشوف" آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي، ورئيس وزراء ماليزيا "مهاتير محمد" وغيرهم الكثير من أبرز قادة وحكام العالم سياسيًا واقتصاديًا.

كان توفلر في أعماله يحلق خارج السرب دوماً سواء في اختياره لموضوعاته أو في الكيفية التي يتناولها بها.. فلفت أنظار العالم وهو يناقش الثورة الرقمية، وثورة الاتصالات، وثورة الشركات، والتطور التكنولوجي، وحقق نجاحات كبيرة عندما عمل نائبا لرئيس تحرير مجلة فورتشن الشهيرة.

ووصفت مؤسسة أكسنتور للاستشارات الإدارية توفلر بأنه ثالث أهم شخص بين رواد الإدارة في الولايات المتحدة عبر التاريخ بعد بيل جيتس وبيتر دراكر، كذلك وصفته الجريدة البريطانية العريقة "فاينانشال تايمز" بإنه "أشهر عالم دراسات مستقبل في العالم". كما صنفته صحيفة "الشعب" اليومية الصينية بين الخمسين أجنبي الذين ساهموا في صياغة الصين الحديثة، كما كان له فضل كبير في تطوير طريقة تفكير رئيس الحكومة الصينية الأسبق زهاو زيانج. كما أعترف بعبقرتيه الملياردير المكسيكي كارلوس سليم الذي ساعده "توفلر" كثيرًا على التوقع بالفرص التجارية المستقبلية والتعرف عليها.

 توقعه بانهيار الاتحاد السوفيتي

في عام 1987 صدر كتابه توفلر الشهير "الموجة الثالثة "Third Wave الذي توقع فيه بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، حيث قدم دلائل علمية وذكيّة تؤيد تصوراته وتدعم بقوة احتمال انهيار وشيك. وهذا ما تحققّ بعدها بثلاث سنوات. لقد انهار الاتحاد السوفيتي فعلا وفق توقعاته. ولكن ما يخيف الأمريكيين ما جاء في نهاية الكتاب، إذ استكمل توفلر توقعاته التي شدد عليها بإصرار، بالقول إنه بعد 25 عاماً على الأقل من انهيار الاتحاد السوفيـتي، على العالم أن ينتظر انهيار الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وتفككّها إلى ولايات مستقلة.

وذهب توفلر إلى أكثر من ذلك، حينما وضع في إطار نظريته المستقبليّة احتمالات عدّة لسيناريوهات الانهيار، منها، أن تبدأ (ثورة السود) وامتدادها إلى كل الولايات. حرائق ومظاهرات، وأعمال شغب وقتل وانهيار أمني ثم انفصال وهكذا، سوف يبدأ الانهيار.. مجرد شرارة واحدة تشعل غضب الملونين، وكأنه تنبأ بسياسة ترامب العنصرية البغيضة أو باجتياح وباء كورونا البلاد. فقد انهار الاتحاد السوفيـتي بالفعل، وها قد مضى ما يقرب من 30 عاماً على ذلك الحدث الكبير. فهل يمكن اعتبار توقعات توفلر عن انهيار الولايات المتحدة أمراً محتملاً؟ وخاصة أنها تقوم على احتمالية تفكك الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة حصول ركود اقتصادي كالذي حصل عام 1921.. هذا لو أخذنا بعين الاعتبار توافق هذه التوقعات مع انتشار وباء كورونا الذي بدأ يترك أثراً سلبياً على الاقتصاد العالمي وربما سيقود أمريكا إلى حالة ركود اقتصادي يعززها وجود الرئيس المتهور وغير الحكيم، ترامب، في ظل رغبات بعض الولايات الأمريكية في الانفصال كما هو حال ولاية كاليفورنيا! وهنا يتجلى التوافق العجيب ما بين توقعات " ألفين توفلر" وواقع الحال، أي أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعاني من الركود الاقتصادي المحتمل، بعد انتشار وباء الكورونا المدمر، واستمرار رئيسها المقامر ترامب في سياساته الدولية الخاطئة بدءاً من ابتزاز دول الخليج العربي، والانحياز ل"إسرائيل" في إطار خيار صفقة القرن المجحف بحق الفلسطينيين، وتصعيده للمواجهة الاقتصادية مع الصين، وإلغاء معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى العام الماضي، حيث مضى عليها ثلاثة عقود، والتي أبرمت بين ريغان وغورباتشوف عام 1986، وجاء قرار الإلغاء من الطرف الأمريكي بذريعة أن روسيا انتهكتها منذ عام 2014 بينما في واقع الأمر بأن القرار الخاطئ جاء للرد على جهود الصين في تطوير ترسانتها النووية.. وهذا سيستهلك الميزانية الأمريكية في سباق جديد للتسلح وعلى حساب التنمية الشاملة، وسوف يهز موقف الدولار عالمياً لصالح اليوان الصيني أو اليورو.. وقد يؤدي كل ذلك إلى انفصال كاليفورنيا عن الاتحاد. ودعونا نتذكر ما قاله بيرنارد غروفمان، خبير العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في إيرفين: "إذا انفصلت كاليفورنيا، قد تتفكك أوصال الولايات المتحدة الأمريكية" وهذا يتوافق مع توقعات توفلر.

كليفورنيا تتنفس الصعداء وتقلق الأمريكيين

تزايدت حدة الاستقطاب السياسي والفكري في الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة. ويرى بعض الباحثين أن الولايات المتحدة تشهد في الوقت الراهن تجاذبات وصراعات فكرية غير مسبوقة، وكأن توقعات "توفلر" تقرع الأبواب، وكان المشككون يصرون على أن كاليفورنيا لا تعتزم الانفصال عن الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل القريب ما لم يطرأ تغير جسيم.. وهذا التغير بدأ يفرض نفسه على الواقع الأمريكي كما تحدثنا عنه أعلاه، تحت عنوان " ما بعد انتشار الكورونا".

ففي وقت سابق، قالت مونيكا توفت، أستاذة السياسات الدولية بكلية فليتشر بجامعة تافتس في مدينة بوسطن، إن هذه المحاولات لاقت تأييداً من فئات عديدة، برر بعضهم ذلك التأييد بأن الحكومة الفيدرالية لم تعد تمثل مصالح كاليفورنيا اقتصاديا، بينما ذكر البعض الآخر أن ولاية بحجم كاليفورنيا لا يمكن تنظيمها بشكل ملائم إلا إذا قُسمت إلى ولايات أصغر. طبعاً هذا القول يأتي خلافاً لما يطالب به الانفصاليون.

وفي وقت سابق، أي قبل استفحال أزمة الكورونا، قال بيرنارد غروفمان: "إن المشهد السياسي في أمريكا يخيم عليه استقطاب حاد لم نشهد له مثيلاً إلا في حقبة ما بعد الحرب الأهلية في التسعينيات من القرن التاسع عشر. إذ لم نر الكونغرس الأمريكي منقسما على نفسه إلى هذا الحد منذ ما يربو على 100 عام".

ويرى أخرون أنه لم يعد هناك سبيل إلى تقريب شقة الخلاف بين ولاية كاليفورنيا وسائر الولايات الأمريكية حول القيم والمبادئ الأساسية التي يؤيدها الطرفان.

فلو انتزعت كاليفورنيا استقلالها المنشود من قبل كثيرين، فهل يتطور الأمر إلى حرب أهلية كما حصل بداية الحرب الأهلية الأمريكية؟

لو تحققت رغبات الانفصاليين في كاليفورنيا، فإن مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية سيكون كارثياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لأن انفصالها سيكبد الخزينة الفدرالية خسائر في إيرادات الضريبية، إذ تسهم هذه الولاية الجنوبية لوحدها بالنصيب الأكبر من الإيرادات الضريبية للولايات المتحدة الأمريكية. فهي أغنى ولاية أمريكية على الإطلاق، ويكفي احتضانها لوادي السليكون، إذ تبلغ الإيرادات السنوية لشركة آبل وحدها 266 مليار دولار.. وعليه فتعد كاليفورنيا لوحدها بمعزل عن الاقتصاد الأمريكي، خامس أكبر اقتصاد في العالم، إذ بلغ الناتج الإجمالي المحلي لهذه الولاية 2.7 تريليون دولار في عام 2017.

وسأنهي مقالي بما ذهب إليه المؤرِّخ وعالِم الأحياء جاريد ديامون الذي قال بكل وضوح إن الحضارات تختفي حين يُدمِّرها أصحابها.

ومن هنا يمكن فهم ما قاله المفكر الأمريكي الرصين نعوم تشومسكي في أن أمريكا مثال للدولة الفاشلة التي تروج للديمقراطية والقيم الإنسانية كالحرية والرحمة، لكنها أكثر الدول إسرافاً في استخدام العنف وإراقة الدماء، وهذا يندرج في إطار النقد البناء.

وهو ما يحدث لأمريكا في عهد المقامر دوناند ترامب.. والصفعات المتوالية ستأتي تباعاً بعد استفحال وباء الكورونا في بلاد العم سام وهو ما لا نتمناه لأحد على هذه الأرض التي تمثل الملاذ الوحيد للبشرية..

 

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم