صحيفة المثقف

الأوراق التي صارتْ عَظْمَةً

احمد بلحاج اية وارهامرأيتُنِي الليلةَ الماضيةَ؛ وأنا في سرير السِّنَة واليقظة، شجَرَةً في فراغٍ مُهْول كثيفٍ، وخلاءٍ ماحقٍ، تفرُّ مني أوراقي، وتجتمع في دائرة همْسٍ مُومِضٍ بالشك، لم أعِ منه سوى هذا الخيط الرفيع:

ـ تعالين أيتها الأخوات لنبحث عن جُذورنا، فقد تعبنا من  هذا الصلب المقيت على الأغصان، كلما مرَّت الرياح جلَدتْنا، وعصفتْ بنا.فنحن لن نشعر بالأمان إلا إذا عُدنا إلى الجذور، إذْ حينذاك لن تَعرفنا يدُ الرياح، ولن تُمسك بنا لتُشبِع شهوتها في التطْوِيح.

توزَعْن على جسد الفراغ المُدْقِعِ، كابتاتٍ في دواخلهنَّ رعشةَ الخوف من الآتي، ومن فقدان تقبيلِ الشمس لهنَّ كل صباح، وفقدانِ طراوة النّدَى على خدودهنَّ.لم يُدركن أنهن سيضَعن حياتهن في فم المجهول، وأنهن  قد يفقدن هناك  الغذاءَ الصحي، والاستقرارَ النفسي، والدفءَ الأخَوي .فأَعْلَى يُكسبُ الحياةَ لونا آخر جديدا غير الذي يعطيه لها النظرُ إليها من أسفل،  ويُمدها بقوة الإصغاء إلى  نبض مُكَوناتها السِّرِّي.

فزعت الأوراق إلى هواجسهن، ونسين أنهن جُزء من الشجرة، ففقدن تاريخَهن الطبيعي الذي فيه زمنُ التبرعم، وزمن الإزهار، وزمنُ تبدُّل اللون، وفقدن كذلك ذواكرهن، فلم يستطعن العثورَ على الجذور التي اعتقدْن أنها ستمنحُهُنَّ معنى خاصا بهن، مختلفا عن معنى الشجرة، فأصبحن جميعهن:

(عظْمة ملقاة على قارعة الخلاء

لا أحد ينظر إليها

لا أحد يُحبُّ أو يكره

أو حتى يركلها بطرف قدمه.

لقد نسيها الآخرون

عدا الريح التي تُحرِّكها

بين الفينة والأخرى

أو حيوان أعمى

يرفسها من غير قصْد،

"ربما ظنها الذبابَ المتجمِّعَ على وبَرِه"

وهي لم تنس أحداً.

عظْمة تُفكِّر

وحيدة على قارعة الطريق)*

كيف ستعرف طريق العودة إلى الشجرة التي فرَّت منها؟ وهل  ستسمح لها الشجرة بالسكنى مرة أخرى في أغصانها بعد أن صارت عظْمة؟.نحن البشر الفانين لا نستطيع أن نُعطي جوابا لهذه العظمة عن سؤاليها، و لكننا نقْدِر أن نمنحها نَبعاً تستحم فيه، علَّ كينونتها تعود إليها، وإن كنا نشك في ذلك شكَّ يَقينٍ، لا يقينَ شكٍّ، لأن كل من يسعى خلْفَ أشياءَ خارجيةٍ يفقد كينونتَه،  ومنطقَ حياته، ويدخل في عالَمٍ فارِغٍ  تؤثثه التحولات المفْزِعة ..

 

أحمد بلحاج آية وراهام

................................

* فلذة شعرية من ديوان: (حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة) للشاعر سيف الرحبي، ط1، كتاب( دبي الثقافية)، الإصدار30، منشورات دار الصدى، دبي، نونبر2009، ص:26، 25.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم