صحيفة المثقف

الحائط البشري

عمار حميدفي المستشفى عندما ولدت، اخبر الأطباء والداي انني مصاب بحالة لم يعهدوها من قبل فقد لاحظوا بعد ولادتي مباشرة انني لم أكن أبكي او اصرخ ولم يصدر عني اي رد فعل على الاطلاق، كان وجهي ينم عن  جمودٍ يشبه جمود وجه تمثال حجري بعينينِ مفتوحتان نحو السقف  وعندما تفحصوا اشاراتي الحيوية وجدوا ان كل شيء على ما يرام الا انعدام ظهور التعابير على وجهي فقط  ولكن مع مرور الايام والشهور اكتشف والداي بالإضافة الى عدم ظهور التعابير على وجهي انني أبكم ولا استطيع التواصل مع المحيطين فتضاعف الحزن في قلب والدي الا ان والدتي لم تستسلم وعند وصولي الى مرحلة الصبا بدأت بإعطائي بطاقات رسم عليها تعابير للوجه وعلمتني ان استخدمها كلما اردت التعبير عن شيء ما وترافق ذلك مع الصعوبة في تعلم لغة الإشارة لأنها تتطلب اظهار التعابير على الوجه وهو شيء لا أملكه، واطلق علي الاولاد في شارعنا اسم (الحائط البشري) لأنني كنت كذلك فكانوا يقولون عني اننا عندما نتكلم معك فأنت لا تفرق عن الحائط في شيء، في الواقع لم تكن تصدر مني حمرة خجل او مسحة حزن او نفس غاضب لا شيء فإذا اردت ان اعبر عن اعجابي عن امر ما لأحد ابرزت له بطاقة رسم عليها وجهٌ باسم وان اردت التعبير عن حزني كنت ارفع بطاقة تحمل ذلك التعبير مستعينا بلغة الاشارة معها، وأما الناس فكانت ترتاب من شكل عيوني وانا اسير مع والدي في السوق حيث يبدوان اشبه بعيون سمكة ترقد داخل ثلاجة لكنني مع الوقت كنت ارتدي نظارةً شمسية لأبعاد نظرات الفضول التي كانت تلاحقني وتعودت على غلق جفوني وقت النوم بالشريط اللاصق كما كانت تفعل لي ذلك والدتي حتى بات أمرا مستساغا.

مرّت السنوات وكبرت حتى اصبحت شاباً منطويا على نفسي  بعد ان تعثرت في دراستي بسبب وجهي الساكن ورفض المحيطين لي وآثرت الانعزال ووجدت المتعة في قلة التواصل مع العالم الذي لم أعر اي اهتمام له، حتى طرقت عاطفة الحب باب قلبي من خلال ابنة الجيران وطالبة الفنون التشكيلية حيث كانت تأتي لزيارتنا مع والدتها،  مع خجلي الكبير وبداية أولى لحظات الصدفة التي تلاقيني معها لم تكن لتخشى شكلي المريب ثم تطورت علاقتي معها الى أعجاب ثم حب متبادل واستطعنا ان نتجاوز عائق اللغة بالإشارة والكتابة معا فكانت تخبرني أنني على عكس الكثير من البشر لديهم وجوه تملؤها التعابير لكن قلوبهم جامدة مثل الحجارة وتخبرني ايضا : أنك بالرغم من موت التعابير على وجهك الا انني استطيع الاحساس بقلبك ونبضاته، فأجيبها ان نقاء روحكِ يسمح لك بالنظر خلف جدران الوجوه واختراق حجب المظاهر وجمودها حتى وصولها الى كوامن النفس وما تجيش به من عواطف.

 عشت معها اجمل أوقات حياتي وكانت تلون لي بطاقاتي التي استخدمها في التعبير عن دواخل نفسي ورسمنا معاً على البطاقات العديد من مشاعر النفس البشرية واكتشفت معها انني استطيع ان أرسم بشكل مدهش فقط ان آمنت بجمال الألوان والسعادة التي تمنحها لمن يحبها كما قالت، لأول مرة في حياتي البائسة أشعر انني افقد الاهتمام بجمود وجهي والإحساس بمتعة المشاعر بالأصغاء الى قلبي وبهجة ما تجود به أفكاري نحوها.

ولكن حكما قاطعا من القدر رفض أن يستمر بمنحي هذا الكم من المشاعر السعيدة عندما اخبرتني ذات يوم أنها مصابة بذلك المرض اللعين وانه يقبع داخل تجويف رأسها وقد تطور الى مرحلة كبيرة ولن يمهلها الا اياما معدودات، جنَّ جنوني لذلك وعدت الى غرفتي محطماً لوحاتي وكل ما يقع أمامي و صوت نحيبها وهي تهرول مبتعدة لازال يلاحقني، تكسّر زجاج النوافذ، نَزَفت يداي وتورَّمتا كما نزفت روحي وقلبي لكن هذا الوجه اللعين يرفض ان يصرخ ألما وبكاء.

بعد ذلك رفضت حقيقة انها فارقت الحياة ورفضت معها كل شيء، الطعام، الشراب ولم أسمح لأحد ان يدخل الغرفة بعد أن اغلقت الباب على نفسي مع حطام اللوحات والألوان المتناثرة ماسكا بين يدي صور الوجوه التي رسمتها لي، ليس في داخلي ما أشعر به سوى شعور الاشتياق اليها وفكرة من صور التعابير.

بعد ان مضى على  رحيلها اكثر من عام وبالرغم من انه اعتاد وجودي هنا كل يوم، كان حارس المقبرة يمر بجانبي مرتعدا من منظري الغريب جالسا بالقرب من قبرها وقد رسمت وشما لن يزول ابدا على كل وجهي بشكل تعبير حزين وبين يدي سكينة حادة فتحت بها جرحا يقطر دما ويمتد من اسفل عينيّ العاجزتين عن ذرف الدموع حتى فمي العاجز عن الكلام.

***

عمار حميد مهدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم