صحيفة المثقف

تفكيرٌ في الدِّين (7)

مجدي ابراهيمإنْ يكن القرآن مطلوباً لذاته، فما هى الخاصَّة الذاتية له؟ وقد أشرنا غير مرة فيما تقدَّم إلى أطراف من الذاتية الخاصّة للقرآن، وفيما يلي تفاصيل مقصودة تبيّن دلالة المعنى الذي نرمي إليه حين نقرِّر أن للقرآن ذاتيته الخاصَّة.

ذكرنا "الإيحاء" مراراً، وذكرنا "الحضور"، وذكرنا "الفهم"، وذكرنا "المضمون"، وذكرنا "النبع الصافي": تلك الحلاوة وتلك الطلاوة في أطيب معنى وأكرم جوار. ولم نذكر هذه الكلمات ونحن نخبط  فيها خبط عشواء على غير هدى ولا بصيرة، ولكننا ذكرناها مفاتيحَ؛ ليكون القرآن فيها مطلوباً من حيث ذاتيته الخاصَّة - كما قلنا - لا من حيث ذاتية غيره وخصوصيَّة سواه.

ذاتية القرآن خاصّة به وحده لا تتعدى سواه، تنفردُ به وحده لتحقق مزاياه وتُفْرِدهُ عن غيره من أجناس الكلام. ومن ضمن الذاتية القرآنية أن فهمه ليس كفهم أي كلام آخر، ولكنه الفهم الذي يحتاج إلى حضور ما بعده ولا قبله حضور: حضور في رحاب الحق تعالى، كيف أضفى على كلامه خصائص الذاتية التي لا يرقى إليها كلام البشر، ذلك لأننا مطالبون بأن يكون القرآن عند فهمه مطلب حضور لا مطلب غفلة، إذْ تتضمَّن شرائط الحضور فلسفة الانتباه لمعاني القرآن على الصفة التي تبدو بين كلماته وألفاظه مطويَّة ولكنها دالة؛ دالة على طريق الله، يسلكه الحاضرون في رحابه، بعد أن يتبيَّنوا معالم الطريق.

ولستُ أعني بفلسفة الانتباه هنا تلك الفلسفة النظرية التي يخوض فيها العقل ويعوم ولا يخرج منها بشيء أبداً ولكنني أعني بها العقل المشروط على شرط القرآن لا على شرط العقل نفسه في الاستقلال كما سبقت الإشارة إليه فيما تقدّم.

على أننا قبل أن نبادر بشرح الذاتية الخاصَّة للقرآن، علينا أن نحدَّد هنا مفهوم الحضور.. ما هو؟ فمن المؤكد أن حضور الأشخاص (القارئ، التالي، الذاكر) قد لا يُعبِّر في الحقيقة عن الواقع المقرَّر الموجود فيما ينبغي أن تكون عليه القراءة أو التلاوة أو الذكر، ولكنه يُعبرِّ في الغالب عن درجة ضعيفة من درجات هذا الواقع مع قلة القدرة في حضوره، ومع ضعف الدرجة الحاضرة، وإنْ كانت تمضى بالمطلق إلى تحديد العدد وترتيب الدرجات: تحديد العدد في: كم مرة قرأت القرآن على عادة التأهَّب وديدن الحضور؟ وترتيب الدرجات في: أن درجتك تتوقف عند آخر آية تقرأها.

ليس كل حضور هو في الحقيقة يعني الوجود، فقد يكون المرء موجوداً لكنه ليس بحاضر في الواقع ولا في الحقيقة: الحضور بالجسم ليس دليلاً على الوجود. والقراءة باللسان ليست شاهدة على حضور الجنان (أي القلب)، هى صورة في الغالب بلا معنى.

معنى الحضور الحقيقي أن يخلو المرء من ذلك التَّرهل الدائم في الفكر والشعور والإحساس، أن يخلو من ذلك الكسل الروحي، أن يخلو ممّا من شأنه ألا تعبِّر عنه نظراته وقسماته، فضلاً عن بواطنه وخوافيه؛ أعني ألا يخلو من "الصدق" الذي تظهر منه على الجوارح علامات وآثار. فكل ترهُّل إنما هو في الحقيقة انعكاس يكشف عن "غيبة الفهم"؛ بمقدار ما يكشف عن ذلك "الكسل الروحي" الغريب الذي تعانيه الذوات الفردَّية على الأصعدة الوجودية الحياتية؛ مما من شأنه كذلك أن يُسْفِر عن خمود الحقيقة الخفيَّة الباطنة، وشمول اللطيفة الجوَّانيَّة لكل ما تحمله من صور مطموسة لذوات غائبة، ليست حاضرة بحال من الأحوال.

الذاتية الخاصّة للقرآن هى ذاتية تشريع للحياة العالمة، التي هى أيضاً خضوع لقانون أسمى من قوانين البشر، وما لقوانين البشر هذه؛ تكييف مع واقع الحياة، ولا تنبيه لمعالجة هذا الواقع ما لم يكن خضوعها لهذا القانون الأعلى شرطاً ضرورياً لفهم القرآن على الوجه الذي يكون فيه الفهم مُخْرجَاً لمنهج يسلك صاحبه سبيل العمل النافع بمقتضى الفهم.

وقد يضل الضالون عن هذا القانون ويستبدلون به قوانين كثيرة من عندياتهم يصطنعونها لترضي أهواءهم المستورة ونزعاتهم الخفيَّة في التطلع إلى مفاتن الدنيا، والنيل من زخرفها بقدر المستطاع، زاعمين أن معرفة القرآن وفق هذا القانون تقف حائلاً منيعاً ضد ما يطمحون.

وإنه لطموح أرعن، عاجز وبليد، لا يوفر لهم معرفة ما، بأدنى فهم لقانون الوجود والحياة، فإنّ في هذا القانون سيطرة على المنافع بمقدار ما فيه شجبٌ للمضار، وفيه كذلك تفتيحٌ واستبيان لما وراء استحضار القانون الأعلى، بالوجه الذي يمكِّن الإنسان من استخلاص أهدافه واستفهام مراميه: إنه بالحق والصدق لقانون الوجود تحيى به الإنسانية وتنصلح على صفاتها المثلى وأهدافها الرشيدة.

شرط هذا القانون الاستغراق فيه؛ وشرط الاستغراق فيه معرفة قانونه؛ ومعرفة قانونه لا تتأتى إلا بقرأته قراءة كاشفة، نافعة وعاملة؛ وأنا أعني بالاستغراق هنا: اكتشاف "حالة" من التوحٌّد بين القارئ والنّص المقروء؛ حالة علوية مُرادة ومقصودة لذاتها في ذاتها، حتى إذا ما استغرق القارئ في عالم النص استغراقاً تاماً، في غزارة وعمق، وعلى ديدن الحضور وعادة التأهب؛ تكشَّفت له هذه "الحالة"، استعداداً واستغراقاً.

وقد عبَّرَ القدماء عن ضرورة وجود مثل هذه الحالة بلغتهم الخاصة، فكان أن قال "ابن عربي" في طريقته لتمثل القرآن وفهمه على المعنى الذي يقدمه على غيره، ويُؤخِّر غيره - إنْ وجد - عنه:

" وَنَسلكْ طريقة في فهم الكلمة الواردة، وذلك بأن نفرِّغ قلوبنا من النَّظر الفكري، ونجلس مع الله على بساط الأدب والمراقبة والتهيؤ لقبول ما يرد علينا منه حتى يكون الحق يتولى تعليمنا على الكشف والتحقيق..".

هذا شرط الفتوح في القرآن: التخلي عن الدعوى الفكرية والعقلية، والجلوس مع الله مجالس الأدب والمراقبة لا مجالس الغفلة والادّعاء.

وقال "السَّهْرَوَرْدِى":" أقرأ الكتاب بوجد وطرب وفكر. وأقرأ القرآن كأنه نزل في شأنك"؛ وهو معنى كبير ضخم لا يمكن تغافله ولا حذفه بجرَّة قلم خبيثة تريد أن تطعن في مثل هذه التجارب الروحية النادرة مع القرآن؛ لتتوجه إلى عباد الله بقشور سطحية خاوية وقاحلة لا ينتفع بها أحد.

"أقرأ الكتاب بوجد وطرَب وفكر. وأقرأ القرآن كأنه نَزَلَ في شأنك"

عبارة معجونة بعجين التجربة الفاعلة، كاشفة عن معدنها الأصيل في التلقي العلوي، ممزوجة بروح صاحبها وبكل خلجة من خلجاته، وبكل جارحة ظاهرة وباطنة كانت تنبض فيه؛ فإنّ الوجد الذي ذكره هنا لهو العاطفة في أعلى ما تصيبه من مدارك الشعور ومناشط الوجدان. والطربُ حالة صارخة أسمى من ذلك وأرقى تتلقى فعل العاطفة فيما تصيبه من مُدْرَك الشعور وفيما تتلقاه من وعي الوجدان.

أما الفكر .. وما أدراك ما الفكر؟ حدِّث كما شئت عنه ولا حرج؛ لكنه هنا ليس هو المعقول النظري أبداً، ولن يكون، هو مرتقى آخر من فعل العناية الإلهية المختارة لكيفية التفكٌّر دوماً في ملكوت القرآن، ثم ماذا؟

ثم إذا أنت قصدت ذلك وأردته، ومضيت به صادقاً إلى "وحدة القصد" بالمباشرة؛ فأنت أنت القرآن، ولا شيء غيرك؛ كأنه نزل في شأنك؛ سرعان ما تتواجد في طرب علوي ولذة روحانية، فالوجد والطرب والفكر؛ خصائص للذاتية الخاصّة للقرآن، وشروط قويمة للإدراك تعرفها "الحالة" الروحية، ويتكشَّفَها المُتحقق بها، وتكون كالطلاسم المبهمات لمن لا يدرك لها معنى ولا تحقيقاً.

تقودنا عبارة "السَّهْرَوَرْدِى" الكاشفة إلى نصِّ كان شَرَطَه "الزَرْكَشِي" في "برهانه" حيث قال:" أصل الوقوف على معاني القرآن التدبُّر والتفكُّر. واعْلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقية، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كِبْرِ أو هوى، أو حب دنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو معتمداً على قول مفسِّر ليس عنده إلا علم الظاهر، أو يكون راجعاَ إلى معقوله، وهذه كلها حُجُب وموانع، وبعضها آكد من بعض...".

عبقرية التدين الرشيد:

ولم تكن فلسفة الرشد والانتباه إلا اليقظة الموصولة بعبقرية التدين الرشيد، وهو هنا مصدر الحضور في القرآن: تأمل قوله تعالى:" إنّ الذين اتّقوا إذا مَسَّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا فإذا هم مُبْصِرون"؛ فماذا أنت واجد؟ تجد ها هنا مصدر الوعي الملهم والحضور الفاعل. وها هنا بحق تكمن "عبقرية التديّن الرشيد": منبعها ومصدرها في ذلك الحضور؛ لكأنما الجانب الغامض (= الباطن) في الإنسان هو موطن العبقرية فيه، لكن بأي معنى من المعاني يحتمله هذا "الغموض"؛ ليجيء معبراً عن ذلك الحضور؟

لا شك إننا هنا لا نعني عدم الوضوح، ولا نعني قلة الإدراك للأشياء، ولا نعني غياب الحقائق والمفاهيم؛ فكل هذا وغيره يعني لدينا "الغموض" الذي يقود الإنسان إلى الخلط والاضطراب، وأباطيل الخَطْل الغارق في الجهالة العمياء.

إننا نعني بالجانب الغامض هو كل ما هو "باطن" في الإنسان، مستتر غير ظاهر، خفيُّ غائر في الأعماق التي لا تُرى، ثم إنه - من بعد ذلك - مشروط بشروطه التي تتولاه وترعاه وترقبه في كل حال. وعلى هذا الجانب الغامض العميق تربو عبقرية التدين وتزيد، بمقدار ما تزداد في الإنسان وتربو أغواره الداخلية، عمقاً وغموضاً واستتاراً غير مكشوف لكل إنسان، ولا لأي إنسان. ومن هنا كانت عبقريته. ومن هنا، جاء صنيعه الخارق للعادة يعتادها الناس مِمَّن يعملون ويحسنون أو لا يحسنون.

وعبقرية التَّديُّن جزءٌ لا يتجزأ من عبقرية التَّوجُّه نحو الغيب المجهول، الأصلُ فيها "الانتباه" اليقظ، والتركيز المفرط والإخلاص الشديد للرؤية يراها الرائي حين يرى، فينزوي في رؤياه مدركاً لأغوار ما يرى في باطنه وخفاياه، فلا يتزحزح قيد أنملة عَمَّا كان قد أدركه، ولو لاقى في سبيله المنون. ومن أجل هذا؛ لا نستغرب أوصاف العلماء الغربيين للعبقرية حين وصفوها بحق بـ "الانتباه" وشدة التيقظ؛ لكأنهم جندوا أنفسهم للبحث في مزايا النوابغ والعظماء، فلم يجدوا وصفاً للعبقرية أدق ولا أصوب غير "اليقظة والانتباه".

غير أننا نبحث في تراثنا المهجور! ذلك الذي أصبح اليوم مهجوراً بحكم الإهمال، فنجد اليقظة ضد الغفلة، والغفلة إنما هى سَهْمٌ من سهام الشيطان، توجب الاستعاذة بالله، بل هى في قانون الأولياء والعارفين ذنبٌ كبيرٌ يستلزم "التوبة"، ويقتضي الإنابة والرجوع فوراً وبغير تباطؤ أو تسويف.

فقد كان رواد العارفين وأقطابهم يتوبون عن الغفلات؛ لأنها في نظرهم من الكبائر، ولما كانت كل كبيرة من الكبائر تمليها غفلة عن الحق يرمي بها الشيطان أو ترمي بها النفس في بواطن صاحبها، صارت بالضرورة حجاباً عن الحق ضد اليقظة والتنبُّه، أي ضد الانتباه. والمحجوبون عن الله بالغفلات كثيرون، والموصولون بغير حجاب هم المتنَبِّهون المتيقظون لا لشيء إلا لأنهم هم المتقون، أي هم الحاضرون دوماً في رحاب المعيّة الإلهية.

هكذا تعلموا دوماً من أسرار القرآن؛ إذْ يصعد الكتاب العزيز في طراز رفيع وعال من المعاني يجِبُّ بآية واحدة من سورة الأعراف (201) كل ما كتبه الغربيون في معنى العبقرية من حيث كونها يقظة وتنبُّهاً، ولا تزيد.

وعبقرية التدين الرشيد على وجه الخصوص تضمُّها الآية الكريمة:" إنَّ الَّذِيِنَ اتَّقُوا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكروُا فإذا هُمْ مُبْصِرُون"؛ إنها لقمة العبقرية الرفيعة يضفيها القرآن على المتقين. فلتلحظ (أولاً) "التقوى" بمثابة الأصل الأصيل الذي يشترط توافره لاستقبال البصيرة الواعية والانتباه الحاد والحضور الشديد. ولتلحظ (ثانياً) رمز الغفلة وهو مسُّ الشيطان أو طائف منه، ثم تلاحظ (ثالثاً) "فعل التذكرة"؛ وهى الحركة الفجائية التي يحكمها الأصل الأصيل تنطلق منه فلا تعود إلا بالبصيرة؛ لكأنها القنطرة التي يتمُّ خلالها العبور حقيقةً من الأصل والمصدر إلى قمة العبقرية (البصيرة) لكن هذه الحركة ليست حركة ذهنية وكفى، بمقدار ما هى حركة كيان واع بكل ما يملك من إمكانيات وقدرات، هى حركة إنسان بكليته الإدراكية، حتى إذا ما كانت ها هنا غفلة أعقبها عند المتقين تذكرة، والتذكرة أولى مراحل الانتباه اليقظ الفعال في الحركة الفجائية التي تقاوم جذبة الغفلة من فورها؛ إذْ لا يكتمل التنبُّه إلا بالبصيرة.

ثم تأتي الملاحظة الأخيرة في كلمة (مُبْصِرُون)؛ ليكتمل الانتباه ويرشد إلى أن الرؤية هنا ليست رؤية بصرية عيانية، رؤية مُقلة وجارحة؛ بمقدار ما هى رؤية قلبية وازعها الأوحد فيما يبدو من سياق الآية ذاتيٌ خاص يقصرها النسق الإلهي على طراز خاص هم أولئك الذين اتقوا، لا كل إنسان ولا أي إنسان، وإنما هو إنسان خاص متفرِّد بأصل مشروط بالتقوى، والتقوى أمرُ باطن لا يطلع عليه؛ لأنها علاقة خاصة مخصوصة بين العبد وخالقه، فهى بحق ذلك الجزء الغامض غير المكشوف لكل إنسان ولا لأي إنسان. أي نعم ! هى السريرة الباطنة التي تحكم عمل العلاقة بين العبد والرب. وعلى هذا الغموض المستتر المبطون تقوم عبقرية التديُّن في كل قوة روحيّة تتصل بأسباب السماء، ولا شرط لقيامها في البداية غير إماتة الجانب "المظلم" في الإنسان، أعني جانب الغفلة وما يتولّد عنه من عوائق أخلاقية بغيضة وآفات شهوانية شرهة ورذائل حيوانية خسيسة، وعلائق من الأمراض والخبائث يضج تحت وطئتها الإنسان ويَسْوَدُّ بها وجه المجتمع - ظاهره وباطنه - في عصور ندعوها بعصور التقدّم والاستنارة مجازاً لا حقيقة !

وعليه؛ فإذا نحن قلنا إن هناك فلسفة للرشد والانتباه على شرطها القرآني وفي إطاره، لم نكن نعنى بها أو نتصور فيها غير الحضور كمعنى وكمفهوم يقوم بهذا الشرط ولا يتعداه.

على أن إجماع أئمة التفسير على شرط "حضور القلب" في قراءة القرآن؛ لهو بالبديهة يُعطي الدلالة الواضحة والمباشرة حين نقول: إن قيام الخاصَّة الذاتية في القرآن تعني أن تقوم به قياماً مُجْمَلَاً، وَأَنْ تريده وحده وأن يأخذك بالكلية, وبالمجموع؛ إذْ أن مَا يُحَقق "الخاصَّة الذاتية" للقرآن في أعلى ما تُتَوَّج به تلك الخاصَّة الذاتية من كمال للفرد وللمجموع الإنساني حين يتحقق القانون الأعلى على أرض الواقع هو أن يكون مُرادُ القرآن لذاته لا لشيء آخر غير ذاته؛ كعرض زائل من عوارض الدنيا أو كصفة مخصوصة من صفات الحياة: أنْ تريده وحده، ولا تريد أن تفهم منه ما عساك تتصنَّع به على عباد الله، أو يكون عندك زلفى للأخريين من العباد، فإنه لا يفهم كلام الله إلا برضا من الله، ولا يرضى الله عن عبد غافل غير حاضر؛ لا هِمَّة في ضميره ولا جمع في طواياه؛ لأنْ يؤدي فريضة الحضور. على أن المراد من فهم القرآن أن تريده وحده؛ هو عينه المراد من الخاصة الذاتية له، وفي تلك الخاصة الذاتية بشرى ورحمة:" فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك هداهم الله؛ وأولئك هم أولو الألباب".

فإذا وصفهم - سبحانه - بأنهم أولو الألباب؛ كان هذا الوصف وصفاً على المدح العاقل لفهم، من جانبهم، للخاصة الذاتية في استماع القول وإتباع أحسنه؛ فهو من جهة حدَّد الإطار النظري في كلمة "استماع القول"، ومن جهة أخرى؛ قرن النظر بالتطبيق توخِّياً للفاعلية العملية (المعاملة)، أي جَعْل القول مناط العلم أولاً؛ ثم العمل والسلوك في المسارعة إلى محاب الله وتجَنُّب مساخطه. هذه إرادةُ مُغيِّرة تأتي كما لو كانت لبنة جذرية وأساسية تشكِّل ذاتية القرآن الخاصة، إذْ تستحقُ الوصف بالهدى مدحاً غير منقوص ووصفاً بالعقل الذي هو اللب. وذلك ضربٌ لا شك فيه من الاعتقاد السَّاري في فهم القرآن على الصفة المَخْصُوصَة بذاته لا بسواه؛ ولذاته لا لغيره؛ من أجل ماذا؟ من أجل "إرادة التغيير".

ومن دلالة الحضور أنه قوةُ في العقل يتولد عنها ذكاءُ الذهن؛ فيقوى الفهمُ ويستبينُ فيه اليقين؛ ويصفو- من ثَّم - مع استبانة اليقين؛ يصفو الذكر مع قوة الفكر في آي القرآن. وهذه الخاصَّةُ الذاتية التي تترتب على الحضور {لأنها بالقطع من موروثات الممارسة ومن ثمار المعاناة في ممارسة الحضور دوماً وفي غير سَهَيَان} من شأنها أن تتغلغل في عمق داخلي "جُوَّانيِّ" يراها من يطبقها، لا بتعلم ولا باكتساب؛ بل بهزَّةٍ لدٌنيَّةٍ مُفَاضة فيضاً من عند الله: فيضٌ في فضل، وفضلٌ من فيض:"قل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليفرحوا هو خيرُ مما يجمعون".

وهل معنى ذلك ألا تعلُّم وألا اكتساب؟ لا ليس هذا هو المقصود؛ وإنما المقصود هو أن يكون التعلم بداية معرفة بأولوَّيتها على غيرها، وأن يجيء الاكتساب شروعاً في التطبيق لذاته لا لغيره، أي شروعاً في تحويل النفس من مكانها الذي اعتادت أن تقف عنده ولا تتجاوزه؛ ليجيء "التحويل" دليلاً على وضوح السبيل من طريق فهم القرآن.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم