صحيفة المثقف

السلالم الحِجاجية وأثرها في تلقي قصيدة النثر

مثنى كاظم صادق مجموعة يطعنون الهواء برماح من خشب مثالاً

السلالم الحجاجية لها الأثر الفاعل في تلقي قصيدة النثر بمعنى أن قصيدة النثر تضم جملاً شعرية متدرجة تصل بنا إلى نتيجة ما، وأن هذه الجمل تقوم مع بعضها على تدرج تراتبي حججي، غايته استمالة المتلقي نحو ما يريده الشاعر، وأن هذا التدرج بدءاً من العنوان بِعَدِّه عتبةً أو سُلَّمةً وصولا إلى النتيجة (الجملة الشعرية النهائية) يتم عن طريق هذه السلالم التدرج ضمن الأطروحة التي تمسك بالنص الشعري المراد إقناعنا به، هذه الأطروحة التي يتبناها الشاعر مؤيداً أو معارضاً، يروم من خلالها إقناع المتلقي بها؛ لذا يعمد الشاعر المبدع كريم جخيور بشكل مباشر أو غير مباشر على مجموعة من الآليات السُلَّمية الحِجاجية غايتها ترتيبية للدفاع عن النتيجة.

مجموعة (يطعنون الهواء برماح من خشب) مجموعة شعرية له، ستكون مثالاً تطبيقياً لهذا الإجراء النقدي . يُعَّرف السلم الحجاجي على أنه علاقة تراتبية للحجج ومتتابعة توجه إلى المتلقي للتأثير عليه وجدانياً أو عقلياً، يعد العنوان السُلَّمة الأولى , فهو عتبة للدخول إلى النص، وبه يتأثر المتلقي؛ لأن العنوان هو الماسك الأساس للنص، ولاسيما إذا كان يحمل قوة توجيهية ودلالات رمزية موحية في مجملها، هي عوامل مساعدة للتدرج الذي يأتي بعده . عنوان المجموعة كما سبق هو (يطعنون الهواء برماح من خشب) فالعنوان بحسب سُلَّميتهُ التركيبية يشير إلى الطعن أي الضرب بقوة بفعل جمعي، ولكن هذه القوة الجمعية للطعن أتت في الفراغ (الهواء) وليست في جسم مادي محسوس، وأن أداة الطعن أو أدوات الطعن هي الطرف الثاني للعنوان وهي (الرماح) التي ربطت برابط حجاجي مع فعل الطعن بوساطة حرف الجر الباء، الذي دل على الواسطة ضمن مكونات هذا السلاح (من خشب) توكيداً عبر هذا الرابط بوصفه واسطة، فالقوة الحجاجية للعنوان إذن تحدد بالنتيجة الضمنية، وهي عدم الوصول إلى فعل الموت أو الجرح أو التلاشي، وعدم تحقق المراد؛ لأن الهواء بالنتيجة ليس كائناً حياً محسوساً، وتأسيساً على ذلك، فإن من الملاحظ أن عنوان المجموعة، لم يأتِ عنواناً لإحدى قصائدها؛ مما جعله مهيمناً على القصائد كلها ضابطاً لها، يتوالد معها من خلال إنتاج نفسه بالبنية المستمرة للزمن في المضارع (يطعنون) الذي شكل صورة مشهدية ذات طابع حركي تمثيلي مع الرماح، وما بينهما الضحية (الهواء) المطعون، ويمكن أن نتأول (الهواء) بشفافيته ونقائه وجماله وخفته وقدرته على بث الحياة في الوجود هم الضحايا الذين تحدث عنهم الشاعر في قصائده (الجد / الأيام / الشهيد / الوطن / المواطن .... إلخ) وبالنتيجة فإن عنوان المجموعة يقع ضمن بنية تطارح النصوص، وتتعالق معها، فهو العتبة أو السُلَّمة الأولى للقصائد، ومنه تتفرع السلالم الحجاجية لهذه القصائد باتجاهات شتى. يوظف الشاعر في قصائده أداة النفي (لا) و (لم) بشكل لافت ضمن تدرج قصائده، وغايته إقناع المتلقي من خلال تركيزه على دالات شعرية محددة، والاتجاه به - المتلقي - نحو حضور أنا الشاعر بتفاصيلها اليومية، وإحساسها اليومي بالوجود. تتمثل سُلَّمية النفي عن الشاعر ضمن تكوينات متدرجة، تؤدي إلى النتيجة التي يريد من المتلقي أن يقتنع بها ففي قصيدته مسبحة الأيام يفتتح الشاعر قصيدته بـ (لا أريدها) وهي صيغة نفي مستمرة لزمنين هما حاضر / مستقبل مُشكلةً سُلَّمةً صاعدةً إلى ما بعدها، يعزز ذلك ضمير الغائب (الهاء)، مع أن الشاعر يتجه ويراعي أن تكون عباراته مكثفة مختزلة؛ لكي لا يقع في التداعي متخذاً من تكرار (لا أريدها) توكيداً لفظياً؛ لإثبات هذا النفي، وبالنتيجة يتجه بالمتلقي ضمن سلمية النفي، لنفي خطاب الإرادة وحقيقتها التي يقيم بها للمتلقي حججه بصيغة التشبيه (لا أريدها أن تنفرط كحبات الرمان) الدالة على التبعثر لمحتوى هذه الفاكهة التي تعطي نتيجة سالبة، وهي التفرق بعد التجمع . إن تكرار لفظة (لا أريدها) المكررة أقامت علاقة حجاجية بين الحجة السابقة، والحجة اللاحقة وترابطت مع مابعدها؛ لأن عاملية النفي الحجاجي يمكن إدراكها في هذه القصيدة في النهاية؛ فالشاعر يريد من متلقيه أن يتوجه نحو النتيجة بسرعة، فبعد ثلاث سلالم حجاجية منفية (لا أريدها.. / لا أريدها.. / لا أحب..) تأتي قيمة مضافة إليها، وهي قيمة الإثبات (أريدها) للوصول إلى النتيجة التي يريدها الشاعر وهي (أيامي... أيامي التي أحب) وقد ينشأ من النفي نتيجة ضمنية تكون مؤثرة في المتلقي من خلال رؤية أخرى في مستوى الحيز المنطقي الذي يطرحه الشاعر في تصديره للنفي في بداية قصائده؛ لتحديد النتيجة وتقييدها برؤياه؛ لكي لا يجعل المتلقي يكد ويتعب في معرفة النتيجة كما في قصيدة (حرب):

1460 يطعنون الهواء (لم يبقَ من الحرب / سوى صورة باردة / مطعونة بشريط أسود / على الجدار) يوظف الشاعر النفي والاستثناء سلمة تقيد وتحصر وتؤكد نتيجة واحدة ضمنية وهي (الموت) ضمن معادل موضوعي (الحرب = الموت) فالموت نتيجة حتمية غير مصرح بها ترشحت عن طريق صورة الضحية الموشحة بشريط أسود علقت على جدار البيت للتذكر والحزن على ألم الفقدان بثنائية غير ضدية هي الحرب / الموت؛ مما عمق حجاجية المأساة فنبه عليها الشاعر بهذه السلمية (النفي والاستثناء) بالقصر والحصر. إن حضور النفي في هذه القصائد أعطى قوة تأثيرية في المتلقي بوصف النفي عاملاً حجاجياً يثبت الأمور المختلف عليها، ولاسيما رؤيا الشاعر للوجود كما في قصيدة (ثنائية الوجود): (كما أنه لا سفينة بلا بحر / فلا بحر دونما غرقى / ولا بحر دونما شاطئ / حتى لو كان بعيداً / وكما أنه لا منازل للقمر/ دونما تعاقب الليل والنهار/ فلا حضور / بلا غياب ولا حلم دون عقل / فالمجانين لا يحلمون / وكما أنه / لا سماء بلا أرض / فلا قبلة / بلا شفتين وكما أنه / لا حدائق بلا عصافير / فلا دفء دونما سرير/ وكما أنه / لا حياة بلا حب / فلا حب).. إن المستوى التركيبي للقصيدة برز فيه عدة سلالم حجاجية اتخذ كل منها نتيجة خاصة به، وقد فصلت هذه السلالم بالرابط الحجاجي (كما أنه) الذي يتلوه النفي بـ (لا) بشكل مركز، ولما كانت الوجهة الحجاجية ترتبط بالتركيب اللغوي؛ لذا كان للسلالم الحجاجية دوراً فاعلاً في النص، فقد شكل الرابط (كما أنه) سلمة تقدم الحجة ثم تتدرج بها إلى سلمة أخرى وصولا إلى السلمة الأخيرة التي تظهر النتيجة (لا حب) موظفاً - الشاعر - نفي الثنائيات المتصاحبة؛ لتوكيد احتياجهما معاً !! مما أدى إلى استمرارية النص وانسجامه وإسهامه بالتدرج والاتساع وترشيح عدة نتائج جانبية وصولا إلى النتيجة الجامعة . إن هذه التراتبية السلمية، عكست قيمتها بالتعالقات الثنائية التي حققت التجانس التداولي لما هو مألوف في الحياة ومتعارف على وجوده بما يكمله، وتأسيساً على ذلك زاد المعنى وتقرر لدى المتلقي وأثر فيه، فقد شكل النفي بالأداة (لا) بعداً حجاجياً اتجه صوب التعليل والتفسير بالربط بين المتلازمين لدعم النتائج النهائية؛ لكي يزيد من إثبات النتائج. يوظف الشاعر أيضاً السلالم القولية، ويتمظهر بالأقوال التي تصدر من المرسل كما في قصيدة (أعياد مؤجلة): (لم نطمئن يوماً / إلى أعيادنا / نقول عيد الشجرة / ونرمي رأسها بالحجر/ نقول عيد الأم / ونطفئ قلبها / بالمنافي والهجر / ونكتب عن عيد الأب / ونحن نتثائب من شدة اليتم / لم نكن مطمئنين إلى أعيادنا / نترك الحب وحيداً ونحتفي بالدببة / بليدة وملونة / نقول عيد المعلم ونطفر من سياج المدرسة / فرحين بقفزتنا / نحتفي بعيد الجيش / ونحن نعبُ الكؤوس فرحاً / بالهروب منه) يؤكد الشاعر في هذه القصيدة بأن هذه الأعياد التي نتقولها هي أعياد مجروحة منا !! وقد رصد هذه الجروح وشخصها اجتماعياً، ففي سلالمه القولية تناقضات هذه الأعياد التي ما عادت أعياداً؛ لأنها تشوهت؛ ليحمل المتلقي على الاعتقاد بهذه التشوهات؛ بغية ترميمها وأعادت إنتاجها  أعياداً حقيقية، محولاً بذلك سلمية القول المكرر إلى لازمة نصية في القصيدة لتعداد هذه الأعياد (عيد الشجرة / عيد الأم / عيد الأب / عيد الحب / عيد المعلم / عيد الجيش) ومن الملاحظ أن السلم القولي بذكر الأعياد قد هيمن عليه الفعل المضارع (نقول) بمركزية عالية، ولاسيما أن (نون المضارع) ذات مرجعية قولية للجماعة التي تحتفي بالعيد قولاً ولا تحققه عملاً؛ مما جعل الشاعر في محل الاعتراض على ذلك من أجل استمالة المتلقي والتأثير فيه، إن عملية تحذير الشاعر لظواهر سلبية تلازم الأعياد جاءت من أجل التحريض على التخلص سلبياتها واقتلاعها، ومن الواضح أن الشاعر قد عمل تقابلات ضدية بين هذه الأعياد، وما يترشح ضدها مقارناً بينها كأعياد إنسانية جميلة، وبين ما يشينها من سلوكيات، وكأني به ينعى على الناس أفعالهم ضدها، ومن هنا جاء حرص الشاعر على ترتيب سلمه القولي بالشكل الذي يخدم نتيجته ودعواه، وبالنتيجة يمكن عد الأقوال ذات أثر عميق في تقوية النص؛ لأنه يؤدي وظيفة تداولية حجاجية تقيد وجهة نظر في المتعارف عليه وتقويم واقعه. ويمكن أن نخلص إلى جملة من النتائج عن قراءة هذه المجموعة منها :

1- عنوان المجموعة هي السلمة الكبرى التي اتخذت منها القصائد مرقاة لها؛ للوصول إلى النتائج المختلفة بحسب ما طرحه الشاعر من قضايا في كل قصيدة.

2- إن السلالم الحجاجية في هذه المجموعة قامت على أساس الهدم والبناء؛ لأن هذه القصائد تطرح قضايا متعددة ويريد الشاعر أن يثبتها .

3- يعمد الشاعر إلى تبادل الحجج من أجل إثبات رأيه الشخصي أو الشعري.

4- التكرار في مجمل قصائد المجموعة جاء لإبراز الحجة وإظهار نتائجها.

5- حجاجية النفي لا تدرك إلا إذا أدركنا ما يريده الشاعر من نتيجة نهائية.

6- الشاعر منذ بداية قصائده  يحفز المتلقي ويستثيره لما سيأتي من اجل التواصل والمتابعة بغية التأثير فيه وإقناعه بالنتيجة .

 

د. مثنى كاظم صادق

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم