صحيفة المثقف

بعض اساطير مدينة ضاعت

محمد حسين النجمكثيرة هي مفردات الرعب التي تلقيناها في الصغر. نعرف الان بان هدفها لم يكن الرعب ذاته، ولكن محددات تتلائم مع عقليتنا الطفولية . يصعب على الطفل ان يفهم مآلات تصرفه الا حين يقع فيها، وليس كل ما يقع فيه محمود العواقب . قد يتعلم من الوقوع كيف يقف، ولكن ان يقع من شاهق لا يبقي مجالا لتعليم . كيف يعلم ان حياته مرهونة، احيانا، بما يعمل ويتصرف وهو المجبول على حب الاستطلاع؟ وهكذا ففي منعرجات المياسم التي تخترق البساتين  كان  هناك دائما (طنطل)، يترصد الصغار ليلا، فلا بد من البقاء في البيت، كما ان هناك (ابو صولمه)، وهو كائن حصري في مدينتنا (الفاو) تلك التي في اقصى جنوب الوطن، يسكن شواطيء شطنا (شط العرب) يختطف الصغار الذين يجرؤون على السباحة فيه بعيدا عن الكبار، واذ ان بيوت اهلنا غالبا ما تنفتح باتجاه البساتين دونما سياج، فلابد ان ينغرس في لا وعي نسائنا منذ طفولتهن تلك (الكرطة) التي تهتبل اغفال الام لتخطف رضيعها  وتفترسه . كان الظلام والسواد بكل ما يحمله من غموض صفة لكائناتنا . فابوصولمه، مثلا، كائن نهاري، الا انه يستعصي على المعرفة، فهو اسود لا تستبين ملامحه . .

الا ان اكثر ما انغرز في لاوعينا الطفولي هو الجن، هذا الموجود الذي  باتت القصص والروايات تتشكل حول ممارساته، وافعاله، واندفع المخيال الاجتماعي ليرسم صورا واحداثا ووقائع يفرزها لاوعي، يراهم في كل ما هو مجهول وغامض ومظلم، وتكفلت الجن بتوفير الاسباب والعلل لكل ما لا نعرف سببه، بل وجمد عقلنا ان يحاول استبيان تلك الاسباب .

كان جاري راغبا في شراء بيت يجاور بيته، ويريده بثمن بخس، فهل يضيق عليه ذلك ولديه العصا السحرية (الجن)، البيت معروض للبيع، فهو فارغ اذن، وهو ملاصق لبيته فامكانية العمل متوفرة، ولاتظنن ان بيوتنا كانت محكمة، كما صار لاحقا من احكام  نتيجة الكثير من المساويء الاجتماعية، كانت الطمأنينة تسود، فلا يعبأ  الناس بتحكيم بيوتهم، دون ان يمنع هذا بعض ظواهر سلبية لابد ان تظهر كما هو حال صاحبنا . الذي حصل ان المارين بالشارع امام البيت غالبا ما ترميهم حجارة قادمة منه، الجميع يعلم ان البيت فارغ، فمن اين هذه الحجارة؟

اجتمع القوم امام البيت لكي يفهموا الامر، الا ان راسبا عميقا في لاوعيهم، شيبا وشبانا،  يجعلهم يترددون، ولم لا، اليس الجن حقيقة صدح بها القرآن؟

اعتاد الجن، في مخيلتهم، ان لا يتواجد الا ليلا وهو ما يمنحه السطوة، كما ان الانارة مطفاة في داخل البيت، فمن الجريء الذي يقتحمه؟ وهو ما جعل صاحبنا البطل القادر لوحده ان يقتحم المخاطر ويكشف السر!!!

دخل صاحبنا البيت، وظل مدة ليحكم سرد الحكاية، ثم خرج، ولكن ليس منتصرا . تاخرت في الداخل فخفنا عليك، قال له المنتظرون، صفق بيديه وهو يقول مبتئسا، مع الاسف فشلت في مسكه .

هل رايته ؟ نعم، حاولت خداعه، اقتربت منه وانا احدثه، وفي اللحظة التي اوشكت مسكه، اختفى . ثم ردد محوقلا هؤلاء الجن اذكياء، ومحتالين، الا ترانا نسمي كثير الشغب والحركة جني؟

لم يكن بحاجة الى دليل على ما قال، فيكفي انه استثار كل ما يختزنه وعيهم من صور واشكال لهذا الكائن، الا يكفي هذا دليلا ؟ انهار ثمن البيت فمن يجرؤ على شرائه؟ ولم يجرؤ على ذلك الا صاحبنا .

واذ نحن في زمن (كورونا) ومجرمها المفترض (الخفاش)، فان لمدينتي حكاية تعزز فيها التزامنا المنازل ليلا، وما كان في خلدنا يوما، بعد ان كبرنا، انه سيوسع نشاطه فيرغمنا على التزامها نهارا ايضا، فهذا الحيوان الذي ينام نهارا ويمارس نشاطه ليلا، احق ان يسمى في مدينتي (سحير الليل)، فالوطواط لا يليق به، وكذلك الخفاش . لا ادري لماذا (سحير) الليل، ربما تم تصحيفها من (سهير) التي تدل على السهر، واذ ان مدينتي لاتعرف (الرادار) بعد، ولا تعرف امكانيات هذا الحيوان بتفادي الاصطدام وهي تراه منطلقا كالسهم باتجاه ما امامه وسرعان ما ينحرف عنه، فهذا يعني امكانية الاصطدام، وكل اصطدام هين الا حين تكون امامه، فهو يميل الى الوجه عادة، فحين تعترضه فسوف يلتصق بوجهك، وهل يلتصق؟ نعم، وهنا يكون الحذر . فحين تخرج ليلا ويلتصق بوجهك فلن تستطيع التخلص منه الا بمرآة ذهب . لم نعتد ان نرى مرآة ذهب، فكيف السبيل للحصول عليها ؟ لاسبيل وعليه لازم بيتك ليلا . غالبا ما اقلقنا الخفاش بهذه الممارسة حين يخرج اباؤنا ليلا في امر ما ولا نطمئن حتى يعودون، واذ كثرما يخرجون ليلا، فلابد انه يخشاهم، فلا يعترض سبيلهم، يبدو انه مخصص لنا نحن الصغار . ارعبنا الخفاش في طفولتنا، ليلا، ثم ارعبنا (فايروس) يتخذه مطية، ان نحجر انفسنا في منازلنا، نهارا وليلا .

 

د . محمد حسين النجم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم