صحيفة المثقف

البحث التاريخي في الفنون المغربية

عواطف الغالي شكل البحث التاريخي بالمغرب أحد مياسم الثقافة المغربية بخصوبة مادته من حيث اتصالها بمختلف مناحي التراث المغربي، وقد أسهمت عدد من البحوث في تكثيف رصيد البحث من حيث التنوع في المعجم التاريخي وفي المضامين. وتتشعب التجارب البحثية لتتقاطع مع مختلف الفنون من مسرح وغناء وفنون أدبية كالشعر والنقد.. مما يمنح هذه الأبحاث أبعادا قيمية ويضمن لها امتدادا في الزمن.

  لقد شكل البحث التاريخي في الفنون بؤرة حيوية لتمرير العديد من الإنتاجات الفكرية والثقافية والفنية، فلامس مجموعة من المكونات التاريخية والظواهر الفنية التي قدمت مشهدا مغربيا متأصلا. وبرزت في التاريخ المغربي بكل مفرداتها الفنية والثقافية وراكمت حمولة قامت على أسس شفهية وكتابية كفن الحكي الذي يضرب بجذوره في التاريخ العريق، ففي التراث الأدبي الذي خلَّفه لنا أسلافُنا قَصص كثير؛ منه الاجتماعي، ومنه الفلسفي، ومنه ما اختص بطابع الإرشاد، ومنه الأدبي، ومنه ما تم تقديمه للتسلية، ومنه الواقعي، ومنه الرمزي، ومنه المسجوع المُجنَّس، ومنه المسترسل، ومنه البسيط المنساب، ومنه الطويل؛ وظل هذا الفن صامدا يتناقل جيلا بعد جيل. وهناك فن المسرح الذي له مقوماته الحضارية وله مفردات مركزة على الجانب الاجتماعي والثقافي. فكان المسرح أداة طيعة لتوصيل المشهد الظاهراتي على المستوى الاجتماعي والثقافي والفكري في تقاطع مع مجموعة من الأجناس الأدبية والفكرية وأنتج أساليب متفردة. وكانت له علاقة بفن الشعر وبفن الغناء، إذ شكلت القصائد الشعرية التي أنتجت بمعية الظواهر الغنائية في مسيرتها الفنية أحد أهم المفردات الأساسية التي تفاعلت مع الإيقاع ومع الأصوات المائزة ومع نفسيات المجتمع المغربي بأساليب ذات خصوصيات مغربية متفردة. ولا شك أن تنوع القصائد الشعرية المغناة سواء في فن الملحون أو في مختلف الفنون الغنائية في التاريخ المغربي، وملامستها لمختلف الجوانب الاجتماعية والثقافية وغيرها قد كان له وقع كبير وقوي في سلب أذهان المجتمع للتفاعل معه بطيب الكلمة ومعجمها العامي ونفحتها الفنية، حيث لعب فيها الإيقاع دورا رئيسا لبلورتها إلى جمال سمعي سرق الأضواء وأشفى غليل العاشقين لهذه الفنون. فكان لتقاطع الخطاب الشعري مع مقومات الفنون الأخرى في التاريخ المغربي ما أغنى التراث المغربي، وكان له أثر كبير في تشكيل خطاب مشترك نحت مسار فني أدبي فريد للكلمة والإيقاع بمنظور فني مغربي تفاعلت معه كل أطياف المجتمع المغربي والعربي. حيث تبلور في مختلف عمليات الأدب والنقد لينتج محورا مواكبا لمسيرة هذه الفنون بكل تفاصيلها الفنية والثقافية والمعرفية، وبكل ما صنعته من مكتسبات فنية وشعرية وغنائية، أسهمت في تكوين رصيد معرفي ونقدي، ما شكل حيزا ثقافيا مهما امتد صيته إلى كل الآفاق، بل وإن ذلك في نطاق تقاطعه مع المجال الأدبي والنقدي قد صنع معجما مغربيا صرفا من المصطلحات الفنية والثقافية والاجتماعية والتراثية، فالباحث في التاريخ يقف على عدد من المصطلحات المغربية الأصيلة والمتجذرة في عمق التراث المغربي وفي عمق الثقافة المغربية الأصيلة.

 وبذلك تتخذ الفنون مسلكا قويما في التاريخ، بالتفاعل من خلال الاستناد إليها لاتخاذ مسار محدد في السلوك والأدب وتوصيل الأفكار. وقد كان للفنون شأن مسلكي في التهذيب والتأثير في النفوس عن طريق الكلمة والأداء والإيقاع، الشيء الذي أسس لوضعيات فنية وتأثيرية لبعث الجمال على مستوى السمع والبصر وتنمية الذوق، وتشكيل القدرة على التفاعل الإيجابي، والارتقاء نحو الآفاق برؤى سديدة وتصورات حكيمة استطاعت أن تترك بصمتها في الثقافة وفي الفن وفي الحس المجتمعي، خاصة وأن مختلف الفنون قد اتصلت بشتى أنواع التراث المغربي سواء ما تعلق منها بالمضامين ذات الصلة بالشؤون الصوفية حيث حضرت مجموعة كبيرة من المصطلحات التي ترتبط بهذا الشأن، وإن على مستوى الإيقاع، وهو أمر تشكل من خلال التقاطع الجوهري بين المكونات الصوفية ومكونات هذه الفنون على مر التاريخ العريق. فعلى مستوى الكلمات حضرت العديد من المعاني ذات الصبغة الصوفية التي تلامس بشكل مباشر ما يعرف بفن الحضرة في شتى تفاصيلها أو الفن الكناوي الذي يحضر من خلال الآلات الموسيقية التي تضرب بجذورها في عمق التاريخ المغربي المجيد. ومما لا شك فيه أن التنوع في الفنون عبر التاريخ، والتنوع في المعاني وفي المصطلحات هو تنوع في القيمة الفنية؛ بل هو تنوع في كل المجالات الحيوية التي عرفها المغرب في تاريخه المجيد. في ارتباط بالتنوع الثقافي العربي والأمازيغي والصحراوي والإفريقي والأندلسي، ما أكسب التاريخ المغربي رونقا وجمالا، برصيد فني عريق.

 

د. عواطف الغالي

جامعة ابن طفيل القنيطرة - المغرب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم