صحيفة المثقف

هل كان ابن خلدون علمانيا؟

محمد الورداشيطرحتُ هذا السؤالَ القديمَ/ الحديثَ لاعتبارين، أولهما أن قارئَ المقدمةِ عامةً، والبابِ الخاصِ بالخلافةِ والملكِ على وجهِ الخصوصِ، لا بدَّ وأنْ يعتقدَ أنَّ ابنَ خلدون يقيمُ فصلا بين السياسةِ والدين. أما الاعتبارُ الثانيُّ، فمردُّهُ إلى الباحثين الذين صنفوا ابنَ خلدون من بين العلمانيين العربِ الأوائلِ علما أنهُ لمْ يكن كذلك، وليستْ ثمةَ صورةٌ واضحةُ المعالمِ، في المقدمة، تثبتُ لنا هذا الزعمَ.

يصعبُ أن نصنفَ ابنَ خلدون في طبقة العلمانيين الأوائل؛ لأن ما ورد في المقدمة من مؤشرات ليس كافيا للقول إنه علمانيٌ أو من دعاةِ العلمانية، وإنما نجده قد بين بعضَ النقاطِ الفاصلة بين الدولة الدينيةِ ودولةِ الملك اللتين تختلفان باختلاف السياسة المعتمدةِ في كلِّ منهما. لقد عرفَ ابنُ خلدون الملكَ قائلا: "الملكُ طبيعيٌّ للإنسان"، وفي مواضعَ ومساقاتٍ أخرى، عرفهُ بكونهِ ضرورةً طبيعيةً للاجتماعِ الإنسانيِّ لما يحتاجهُ الناسُ منْ وازعٍ قاهرٍ يمنعهم منَ التسلطِ على بعضِهمُ البعض. وفي مواضعَ أخرى، نجدهُ يعدهُ ثمرةً طبيعيةً للعصبيةِ التي يقومُ عليها وبواسطتها، لذلك فإن سياستَهُ "تكونُ مفروضةً منَ العقلاءِ وأكابرِ الدولةِ وبصرائِها" (ص216) وهي السياسةُ العقليةُ التي تقومُ على "حملِ الناسِ على مقتضى النظرِ العقليِّ في جلب مصالحهمُ الدنيوية، ودفعِ المضار" (ص217). فالملكُ بهذا، يكون دنيويا بحتا، والدولةُ التي تنبني عليه هي دولةٌ دنيويةٌ؛ لأنها تقومُ على القوانينِ الوضعيةِ البشريةِ، وتراعي المصلحةَ الدنيويةَ لا الأخروية، ومن ثم، فإنها مذمومةٌ، حسب ابن خلدون؛ لأن أمور الدنيا "كلها عبث وباطل" (ص216).

أما الخلافةُ، ف"هي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، ومن هذا التعريف تكون الخلافة منصبا دينيا ودنيويا في الآن؛ أي أنه دنيوي في حماية المصالح الدنيوية- وهنا تشاركُ الملكَ في وظيفته حتى وإن كانت "دينا ليست من السياسة الملكية في شيء" (ص265)- والأخروية، وبهذا تجمع الخلافة بين الدنيوي والديني؛ لأنها "النظر الشرعي في مصالحهم (أي البشر) الأخروية والدينية". ومنه، يمكن القول إن سياستَها دينيةٌ. كما أن الناظر إلى تعريفات ابن خلدون للخلافة، يلاحظ أنه يعطي أسبقية لكلمة "الأخروية" على "الدنيوية"، كما أنه رأى في السياسة الشرعية الدينية منفعة؛ لأنها تهتم بمصلحة الإنسان دنيويا وأخرويا كما أسلفنا. لكن، لمَ تجمع الخلافة بين وظيفة الملك ووظيفتها؟

قبل أن نبحث عن إجابة للسؤال في المقدمة، نستنتج مما سبق أن ابن خلدون فرق بين السياسة العقلية (الدنيوية) والسياسة الدينية الشرعية (الأخروية)، وأكد أن الخلافة تجمع بين سياسة الدنيا والآخرة؛ لأن "أعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره" (ص216). وعودا للسؤال أعلاه، فإننا مطالبون بالعودة إلى الفصل: الأول والثاني والرابع والخامس والسادس من الباب الثالث من الكتاب الأول، لنجد أن الدعوة الدينية لا تقوم إلا بالعصبية (الملك غاية العصبية)، أي أنها تحتاج إلى عصبية قوية لتبليغها ونشرها في المعمورة كلها، وقد تم هذا في ما سمي بالفتوحات الإسلامية. كما أن الدولة تحتاج إلى تبني دعوة دينية؛ لأنها تقوي عصبيتها. فالدعوة الدينية الإسلامية، في بدايتها بمكة، كانت تحتاج إلى من يتبناها ويدافع عنها، لذا كانت الهجرة إلى الحبشة المرة الأولى والثانية ثم إلى المدينة، فكانت ثمرتها البيعة تحت الشجرة، وهنا امتزج الديني بالسياسي، وكان هذا الأخير وسيلة لتحقيق الأول، ف"لما كان الجهاد فيها مشروعا لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعا أو كرها اتخذت فيها الخلافة والملك لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معا" (ص258)، ومنه ف"لا قوام للشريعة إلا بالملك" (ص317). أما الدولة فإنها تحتاج للدين؛ لأنها تبحث عن مشروعية عليا، بمعنى أن كل دولة قامت على العصبية، الدولة الأموية والعباسية...إلخ، تتبنى الدعوة الإسلامية وحماية الشريعة، وصون أركانها وإرغام الرعايا على القيام بها، حتى تضفي مشروعية وتقدم تبريرا لوجودها، وكذا مصداقية على أفعالها.

وبالعودة إلى الفصل الثامن والعشرين (في انقلاب الخلافة إلى الملك)، فإننا سنجد أن الإسلام قد حرم العصبية الجاهلية التي تقوم على التفاخر بالآباء والأجداد. وأما ابن خلدون، فإنه يرى تحريمها إذا كان غرضها التغلب والقهر والاستبداد بالباطل، أما إن "كانت العصبية في الحق وإقامة الشرائع فأمر مطلوب، ولو بطل لبطلت الشرائع؛ إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية" (ص229). وكلما ذهبت العصبية ذهبت الخلافة (الدين)، فالخلافة الإسلامية، مثلا، ذهبت "بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم" (ص235). ولما تنته الخلافة يتحول الأمر إلى ملك صرف، والملك البحت عند ابن خلدون، يجب أن نأخذه بعين الاعتبار؛ لأن الملك البحت هو الملك الصافي من الخلافة، والصافي من الخلافة معناه أن الوازع الديني فيه لم يعد حاضرا بالقوة التي كان عليها  زمن الخلافة، بمعنى أن كفة الدنيوي رجحت على كفة الأخروي، ولعل هذا ما يؤكده التغير في الألقاب من الخليفة وأمير المؤمنين (في الصدر الأول) إلى أسماء بني أمية العروبية الخالية من اللقبين السابقين؛ "لأن العروبية ومنازعها لم تفارقهم حينئذ، ولم يتحول عنهم شعار البداوة إلى الحضارة" (ص255) إلى ألقاب العباسيين التي اختاروها "حجابا لأسمائهم الأعلام(...) وصونا لها عن الابتذال، فتلقبوا بالسفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد...إلخ (ص255)، حتى صارت الأمور بأيدي العجم في المشرق والمغرب، وتعددت الألقاب بين العودة إلى الخليفة وإمارة المسلمين، أو إلى السلطنة (يمكنك العودة إلى الفصل الثاني والثلاثين: في اللقب بأمير المؤمنين).

 وإلى جانب تمييز ابن خلدون بين السياسة العقلية (الملك) والدينية (الخلافة)، فإنه أخرج من هذا التمييز ما سماه بالسياسة المدنية؛ لأن اهتمام هذه الأخيرة هو "ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأسا، ويسمى المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة، والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية" (ص336)، وهذا التعريف يخالف ما هو معلوم في زماننا حول الدولة المدنية، إذ إنها دولة علمانية دستورية لها قوانين مدنية وضعية مصدرها العقل البشري، وكذا الفصل بين الدين والدولة، واحترام الأقليات، وتذويب الديني وحصره في المجال الفردي...إلخ، وهذا ما لم يكن موجودا في عهد ابن خلدون. كما أن هذه السياسة المدنية التي نادى بها أفلاطون والفارابي وآخرون بعدهما بعيدةُ التحققِ، لذلك فإنها ليست نفعية؛ لأن ابن خلدون لما يصنف السياسة هذا التصنيف، فإنه يتعامل من منطلق المصلحة والمنفعة، وهذا أس المقارنة عنده وغايتها، وبهذا تكون السياسة الدينية على رأس الهرم، تليها العقلية، فالمدنية. ومنه، فإن ابن خلدون ينطلق من روح دينية إسلامية في بحثه هذا، ومن ثم، فإنه ليس علمانيا؛ لأنه لم يدعُ إلى فصل السياسي عن الديني، بل العكس، وهذا جوهر الخلافة التي تجمع بينهما.

 

محمد الورداشي

............................

المراجع والمصادر:

مقدمة ابن خلدون، إعداد محمد الشربيني، دار فروس للنشر والتوزيع، القاهرة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم