صحيفة المثقف

أدب اللجوء في نصوص القاصّة السورية أمان السيد

عبير خالد يحيىفي مجموعتها القصصية (نزلاء المنام)

"الكتابة حالة إنسانية تشعر بها دون أن توزّع صراخك على جيرانك" عبارة منسوبة لكاتب سعودي هو (عبده الخال)، أوردتها إحدى المجموعات الأدبية على الفيسبوك كإستبيان للرأي، هل توافقه أم تخالفه الرأي؟! وقفت عند الجملة مستغربة! كيف يمكن للأدب أن يكون منعزلًا ومتضائلًا إلى الحد الذي يبقيه حالة إنسانية لا تتجاوز عتبة الشعور! كيف لا يكون صرخة مصيرها أن يتردد صداها ولو في الخلاء؟!

إن كان القلم سلاحًا كيف لا يُسمَع رصاصه؟! وإن لم يكن فلماذا يُلاحَق بعض من يحملونه؟!

كيف تكون الكتابة صوتًا صامتًا وفيها آهات المعذّبين، ونواح الثكالى، وآلام المذبوحين، وكوابيس المحكومين، وغربة اللاجئين، وذعر الأطفال، في أوطان توحّش فيها الموت باطشًا بحياة من فيها؟! وهل يستطيع الكاتب أن يكتب ذلك كتابة صامتة؟! على الأقل الكاتبة السورية أمان السيد لم تستطع أن تكتب هاته الكتابة الصامتة.

السيرة الذاتية للكاتبة:

 أمان السيد

سورية الوطن، مقيمة في أستراليا.

أستاذة لغة عربية، قاصة، وشاعرة، وصحافية.

من أعمالها: تدريس اللغة العربية بين سورية، والإمارات، وأستراليا خلال مسيرة حياتها المهنية.

حاصلة على دبلوم في التأهيل التربوي من جامعة دمشق عام 1982، وإجازة في اللغة العربية من جامعة تشرين في اللاذقية عام 1980.

سبق لها أن عملت في إعداد وتقديم برنامج في إذاعة " صوت الوطن العربي الكبير" في ليبيا بين عامي 1983- 1984.

عضو في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات.

تتنوّع كتاباتها بين المقالات، والدراسات الأدبية، والشعر، والقصص القصيرة، وهي تنشر في المجلات، والصحف العربية، والإماراتية، والأسترالية، والمواقع الألكترونية المختلفة، منها: دبي الثقافية، والصّدى، وجريدة الرؤية، والخليج، والاتحاد في دولة الإمارات، والتلغراف، وصحيفة المثقف والمستقبل في أستراليا.

في أثناء إقامتها في الإمارات العربية المتحدة خصّص لها عمود في جريدة "الرؤية" في دبي حمل عنوان " نوافذ بحرية".

 لها أكثر من حوار أدبي، ولقاء تلفزيوني، وإذاعي ما بين المجلات العربية، والقنوات الفضائية في الإمارات، وإذاعة مونت كارلو في فرنسا.

 شاركت، وتشارك في الملتقيات الثقافية والأدبية ما بين الإمارات وأستراليا.

تصنف حتى اليوم أول أديبة سورية تقيم أمسية شعرية في أستراليا، وكان مقرّها قاعة بلدية "كانتبيري/ لاكمبا" في سيدني عام 2016 وقد حملت الأمسية عنوان" غابات الفرلق" رتلت فيها الأديبة قصائد لوطنها المنكوب، ولمدينتها الساحلية.

 فازت بالمركز الأول عن قصتها "عيون تنشد الأمان" كتقدير من مؤسسة "كلمة" في القاهرة، والقصة منشورة ضمن مجموعتها القصصية " ذكورة المنافي".

كرّمت بدرع تقدري" كأفضل أديبة وقاصة سورية لعام 2010" ضمن مسابقة أقامتها مؤسسة "كلمة" في القاهرة، حملت عنوان "جائزة نجيب محفوظ للقصة القصيرة"، كما ذكر اسم الكاتبة ضمن ديوان خاص يحمل آثار عدد من المبدعين العرب المشاركين.

كرّمت عن " دائرة الثقافة والإعلام" في الشارقة ضمن إصدارات "كتاب الرافد" عن مؤلفها السردي

"أبعد من القيامة".

كرمت عن جريدة "الرؤية" في دبي ضمن حشد كبير عن مقالتها الأولى التي نشرت في الجريدة، والتي حملت عنوان " نمنمات إنسانية".

إصداراتها في السرد:

" قدري أن أولد أنثى" صدر عن في القاهرة/ الناشر شمس للنشر والتوزيع عام 2008

 "سيراميك" صدر في القاهرة عن مؤسسة الكلمة عام 2010

"ذكورة المنافي" صدر في سورية/ اللاذقية عن دار الحوار للنشر والتوزيع عام 2011

" أبعد من القيامة" صدر ضمن " كتاب الرافد" عن حكومة الشارقة دائرة الثقافة والإعلام عام 2014

"نزلاء المنام" صدر في طرابلس/ لبنان عن دار جروس برس ناشرون عام 2019

للكاتبة قيد النشر:

ديوان شعري، وعمل روائي

التبئير الفكري:

بعد قراءتي - وأكثر من مرة- لهذه المجموعة القصصية (نزلاء المنام) وجدت المجموعة مزيجًا لقصص بمضامين مختلفة، استطعت تصنيف القصص وفقًا للمضامين في ثلاث مجموعات:

1- نصوص مضمونها اللجوء هي: أمينة المجنونة- الجثة- تعويذات- سبورت كلاب- وصية الجسد، العازف- أتساقطُ - سبق أن دخلت جلدي- شيء ما في الصورة - نزف الدمى- خيوط اللعبة- في متاهة- الوفاء- خيمة لا تعرف النوم – دمية الحافلة- المقبرة الفرنسية- سر الحذاء- شوارب في سوق المدينة- كيدون الأرمن – حارس الماهونجي- نزيل "بينكي"- صلاة دائرية- ستة عشر تمثالًا حجريًّا- اللجوء ما قبل الأخير.

2- نصوص رمزية: ماؤه المقدس- الرأس- عودة الرأس- شغف- جوعان- أوّل المعزّين.

3- نصوص سريالية هي: المرأة رقم 6- مكابرة- عقربا الساعة الخامسة

لذا يكون الجنس الأدبي لهذه المجموعة مشتركًا، أدب اللجوء والأدب الرمزي والسريالية، قد أتعرّض لبعض النصوص الرمزية التي تحمل أعمدة رمزية وقرائن تصب في مضمون اللجوء، لكن لن أتكلم عن النصوص السريالية، وسأكتفي بما سأورده عن نص المرأة رقم 6: الذي بدأته الكاتبة برمزية وأعطته رموزًا ثلاث: المرأة رقم6 – الغراب- شجرة " يوكالبيتوس" والتي حدّدت مكانية الحدث القلق، من خلال متابعتي لحركة تلك الرموز في الحبكة بقي النص مغلقًا حدّ السريالية، متأرجحًا بين الرمزية المغلقة والسريالية، إذ أن الكاتبة بقيت تستل رمزًا من رمز آخر، وتبني أحداثًا متقطعة عديمة النهاية وكأنها تقذف حجرًا في الظلمة، فلم تعط شيئًا لمتلقٍّ ينتظر قضية إنسانية يقدّمها الأدب من منطلق أن الأدب عرّاب للمجتمع.

نتكلّم عن أدب اللجوء، عن الصراع المرير الذي ينهش صدور اللاجئين (السوريين ) ويؤرق نومهم، اللجوء الذي كان القرار القسري والحتمي للنجاة بحياتهم من حرب استعرت في بلدهم سوريا فتحوّل من بلد حاضن للعديد من اللاجئين الذين توافدوا إليه من زمن التغريبة الفلسطينية، على مرّ سنوات القرن الماضي، وإلى أوائل القرن الحالي، لينقلب الحال، ويغدو وطنًا يلفظ أبناءه إلى الأقاصي، من بقي فيه سُجِن منفيًّا في حصاره، ومن غادره سُجِن في كوابيسه وغربته، ومن توسّط بين المكانين عاش في خيمة تشرّده وشقائه، عبر أدب اللجوء إذًا تأخذنا الكاتبة، في مجموعتها لنقف على أدب معاصر حديث، أخذ مكانه المميّز، في السنوات القليلة السابقة، وتحديدًا قبل حوالي سبع سنوات، أدب انفرد به أدباء سوريون تحديدًا بتجربة خاصة، وإن كانت تتشابه في أعمدتها الرئيسة مع باقي التغريبات السابقة، إلّا أنها في التجربة السورية – على المستوى الثقافي- وبمعطياتها الاجتماعية والسياسية، فتحت المجال فسيحًا أمام سيل جارف من الكتابات الأدبية – سردًا وشعرًا- أغنت المكتبة العربية وحتى العالمية، بكتابات تميّزت بقيمتها الفنية والجمالية، لفتت اهتمام النقّاد، إذ تبلورت السمات الخاصة لهذا الأدب من خلال الروايات والقصص، بالإضافة إلى الشعر، وكلّها وثّقت الكارثة التي حلّت بهم شعبًا وأرضًا.

و أدب اللجوء، يختلف عن أدب المهجر، ويقترب من أدب المنفى، بفروقات يمكننا رصدها من خلال الوقوف على التعاريف والمصطلحات والسمات الأدبية لكل نوع من الأنواع السردية الأدبية تلك.

إغناء:

أدب المهجر:

هو الأدب الذي أنتجه الأدباء العرب في بلاد المهجر(أمريكا الشمالية والجنوبية)، الذين أجبرتهم الظروف الاقتصادية والمعيشية القاسية في بلادهم على الهجرة، وأطلق على هؤلاء الأدباء مصطلح أدباء المهجر، وانتشر هذا الأدب وصار له مدرسة أدبية خاصة تدعى مدرسة المهجر، التي نشأت من مجموعة من الروابط الأدبية وكان الأشهر والأكثر استمرارًا فيها الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية، وإن من أهم أدباء المهجر إيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران، وكان هذا الأدب بمعظمه شعرًا.

أدب المنفى:

وهو أدبان: النفي في المكان، والنفي عن المكان، ولعل رواية (في المنفى ) للجورج سالم هي الرواية الوحيدة في الأدب السوري التي تقارب وضع المنفى في المكان، وليس عن المكان، والنفي في المكان تغلب عليه مشاعر الحصار والتضييق والرهبة والعزلة الشاملة، أما النفي عن المكان فيحتاج إلى ذاكرة استرجاعية تستطيع أن تعيد خلق الأمكنة المفقودة، فطبيعة النفي هي التي سوف ترسم، بطريقة ما، مخيلة المكان، شكل حضوره في النص الإبداعي، في الغالب فإن النفي في المكان يظهره بغيضًا وعدوًّا، أمّا النفي عن المكان فيقدّمه في صورة الفردوس (العربي الجديد – أدب المنفى: مطرودون ومشتاقون – يوسف عبدلكي / سوريا – 6 نوفمبر 2015 )

أدب اللجوء:

هو فرع قاس انفصل عن أدب المهجر بسبب الضغط المسلّط عليه بثقل الغربة وخسارة الوطن. وأدب اللجوء ليس مشروطًا بأن يكون خارج البلد، على عكس المهجر الذي تأسس في الخارج، إن اللاجئ يمكن أن يكون في حدود بلده بأن يخرج من بيته ويلتجئ إلى منطقة أو محافظة أخرى بحثًا عن الأمان والرزق، وهذا هو اللجوء الداخلي، وهناك اللجوء الخارجي خارج حدود الوطن في بلد أجنبي أو في مخيمات على تخوم الوطن. وهنا يقترب من أدب المنفى.

وبالنظر لتقارب مفهومي النفي واللجوء، مع ملاحظة أن النفي قد يعود بزوال المسبب، لكن اللاجئ قد لا يعود، وذريعتنا، اللاجئون الفلسطينيون الذين مات الكثيرون منهم دون أن يعودوا إلى وطنهم، ووطنهم لا يزال يتآكل يومًا بعد يوم، لذلك يعتبر أدب اللجوء أقسى من أدب النفي باحتمالية انعدام الأمل بالعودة، ويوازيه بالحرمان من الوطن وضغط الغربة.

الثيمة العامة للكاتبة:

 الأديبة أمان السيد تكتب باستراتيجية وطنية، إنسانية، ولكنها تشاؤمية pessimist، فقد استخدمت (الغراب) كرمز عام لمجموعة من النصوص، وسنجد أن مضمون أدب اللجوء هو تشاؤمي بالمجمل، بضغط الغربة وخسران الوطن، ولكنها ثقبت استراتيجيتها الإنسانية بنص سريالي لكون السريالية هامش للأدب وليس أدبًا حقيقيًّا، والسبب أن السريالية غموض مظلم، لا يسند استراتيجيتها الإنسانية والوطنية المتوافقة مع المبدأ الذرائعي الأدب عرّاب المجتمع، والذي اتخذته الكاتبة مسلكًا في توضيح معاناتها ومعاناة شعبها الوطنية والإنسانية.

مواضيعها كلّها متناصة بذات المفهوم، تشير لمبدأ واحد وهو الظلم الذي أنتج النفي عن الوطن. وذريعتي في هذا المنطلق أن الحدث هو محرّك للاتجاه السردي الذي يشير نحو نتائج سلبية أو إيجابية تحدث في المجتمع، ديباجته الحياة وأحداثها، وانعكاساته ما يحدث للكاتب والقارئ، فهو بذلك يكون ثلاثي التكوين: أحداث الحياة- تجربة الكاتب الخاصة- تجارب الآخرين، فلا نص غير متأثر بآخر أو مؤثر بآخر، لذلك نجد أن مواضيعها جميعها يتوحّد فيها المضمون (الظلم)، فقط تختلف عن بعضها بانعكاساته على الناس الذين اختارتهم الكابتة أبطالًا لقصصها، حيث انتقتهم من فئات وطبقات اجتماعية متعددة.

الخلفية الأخلاقية:

بدافع استراتيجية الكاتبة الوطنية، فهي بالتأكيد أخلاقية، لأن الوطن جوهرة لا يمكن التفريط فيها، والظلم ضغط قاس أخرجها من عنق زجاجة الوطن نحو اللجوء، واللجوء أقسى غاية للظلم، لأنه يشكّل حرمانًا كاملًا من الوطن وأنسة الحياة فيه، فالكاتبة أصوليًّا بعيدة عن العرقية والعنصرية والطائفية والمذهبية، مستهجنة لكل الانتهاكات التي تخترق المنظومة الأخلاقية، ولا تقبل فيها أية مبررات مساقة بضغط الظروف مهما ثقلت.

ومن هذه البؤرة الثابتة، أنطلق لدراسة هذه المجموعة ودراسة التجربة الأدبية للكاتبة عبر المستويات الذرائعية التالية، والبداية من:

1- المستوى البصري:

الغلاف الأمامي:

أول عتبة بصرية، يكفي النظر إليها لنقف على حجم الصراع اللوني والشكلي القائم فوق صفحة يُفترض أنها كانت بيضاء، لوحة فنية جمعت العديد من الرسومات بريشة الفنانة التشكيلية عتاب حريب، لوحة جامعة لمعركة انتصر فيها الخوف والمرض والموت، بالدلالات اللونية الأزرق والأصفر والأحمر، لوحات فنية كثيرة، لوجوه فقدت معالمها، إلا وجهًا واحدًا لامرأة اتسعت عيناها، والتحمت شفتاها، واستطالت رقبها، واستحال اللون فيها أزرقًا ليعلن الخوفُ انتصارَه، وصورة لأنف ينزف، وصورة لطفلين في القماط أو الكفن، وصورة لوجه امرأة أكلها الحزن، وملامح وجوه تركها أصحابها في مقابر جماعية صفراء حمراء زرقاء، صورة لطفلين تعفّر وجهيهما برماد الحرب والحرمان، لوحات احتلّت طوليًّا ثلثي الغلاف، و بينما الثلث الحر مصبوغ باللون الصفر، تمدّد عليه اسم الكاتبة (أمان السيد) ، وتحته العنوان (نزلاء المنام) ونوع العمل (قصص قصيرة) كلّها باللون الأسود .

الغلاف الخلفي: أيضًا باللّون الأصفر، بثلاث فقرات وشهادات لأدباء باحثين عرب معروفين: وديع سعادة، رغيد النحاس، وغسان علم الدين، في هذا العمل (نزلاء المنام) وبالتجربة السردية للقاصّة أمان السيد بالعموم.

اختيار الغلاف اختيار موفق جدًّا، متوائمًا مع الصراع الدرامي لقصص المجموعة.

العنوان: نزلاء المنام

 جملة اسمية مبتدأ نكرة، مضاف ومضاف إليه.

نزلاء: اسم وهو جمع نزيل، والنزيل هو الضيف- المشارك في المنزل أو الوطن، ونزيل الفندق: المقيم فيه، نزلاء المشفى: المرضى المقيمون بالمستشفى، نزيل السجن: السجين.،.

المنام: اسم مكان من نام/ موضع النوم، ومنام: نوم ، حُلْم .

 التعريفات القاموسية تحدّد المعنى السيميائي للعنوان (نزلاء المنام)، فهو يشير إلى المقيمين أو الضيوف الذين يتشاركون ذات المكان بإقامة دائمة أو مؤقتة، يحدّد طبيعة هذه الإقامة المكان المضيف، وهو إمّا موضع النوم أو الحُلم.

أما المعنى الذرائعي للعنوان فيحيل إلى أؤلئك الأشخاص المنفيّين (في المكان وعن المكان) الذين ينتابهم ذات الحلم أو الكابوس اليومي، عن حياتهم المذعورة، والشعور الدائم بالحصار والتشرّد، والرغبة المحمومة بالكلام عن أصل النكبة، ونتائجها الكارثية على كلّ المستويات، والعجز عن فعل ذلك تحت ضغط الخوف والتهديد، وعدم القدرة على استيعاب ما حدث وما يحدث، فتكون المنامات هي المنفذ الذي تتفجّر من خلاله خرّاجات دواخلهم، علّها تطرح قيحها، تتعافى، تندمل، وتتماثل للشفاء.

العتبة الداخلية: ومضة سردية شاءت الكاتبة أن تقدّم بها مجموعتها:

من يطفئ تلك المصابيح،

مَن يعبثُ بالضوء حولي؟

أوقدوا المصابيحَ،

أريد أن أنام.

وهي مكوّن نصّي مكثّف، فيه مفارقة، وهو متسلسل من العنوان، وكأن العنوان والإهداء نص قصير مكثّف، بنهاية مباغتة، تبدأ بالتساؤل عمن يطفئ المصابيح(الحقيقة) ومن يعبث بها، ثم تطلب إيقادها، لأن المُؤرَّق يريدُ أن ينام! متى كان ضوء المصباح مؤهبًا للنوم...؟! مفارقة أكثر من رائعة!

ثم العتبة الداخلية الثانية: الإهداء:

لابنتها همسة: رقّة متناهية خفّفت بها من حدّة التوتّر الذي انتاب المتلقي من العتبات الخارجية:

" همسة"

وحيدتي،

زغب الأحاسيسِ،

وخَدرُها الجميل .

ثم لأخيها أيمن: تعيدنا فيه إلى الموطن، وكأنها تدخل بنا إلى متن العمل الأدبي:

" أيمن"، أخي..

غرسُ أمي، وأبي

في الأرض البعيدة

التي لملمتنا.

ثم إلى " غسان": وأحسبه زوجًا غيّبه الموت، تنهي به خلاصة تجربتها كنهاية مفتوحة تحتمل أوجهًا عديدة:

" غسان" آخر الأصفياء،

سأحمل معي وجهَك المُحتضَنَ براحتيك،

وعينيك المطبقتين تصلّيان، وأنا أستبيح أمامك حروفي.

 

 

العمل يقع في 117 صفحة توزعت عليها 36 قصة قصيرة متفاوتة الطول، بعضها لا يتعدّى الصفحة الواحدة، وبعضها ينبسط على أكثر من10 صفحات، المنظر العام للصفحة مرتب ومنسّق تنسيقًا ممتازًا من حيث الهوامش والفقرات، أدوات الترقيم منضبطة، لم أعثر على أي خطأ نحوي أو إملائي، الألفاظ بليغة ومنتقاة انتقاءً مدروسًا بحيث لا يجد المتلقي كلمة واحدة غير موظّفة في خدمة النص، والكاتبة تعتمد على نظام المتوالية العددية في تنضيد الألفاظ لفهم المعاني، بمعنى أن هناك علاقة حسابية بالاطراد بين الألفاظ لإدراك المعاني، فلا يمكن أن نفهم النصوص إلّا من خلال هذه الفرضية الحسابية، هي تعتمد على هذا النظام التسلسلي حتى في ترتيب القصص، لذلك حرصت الكاتبة على ترتيبها وفق تسلسل ، استهلال – نهاية وما بينهما العديد من القصص تبدو وكأنها حبكًا فرعية تصب في مجرى الحبكة الأساسية لما يشبه الرواية، لم يخرجها عن ذلك سوى بعض النصوص التي كانت أقرب إلى القصص القصيرة جدًّا، فقد بدأت الكاتبة المجموعة بقصة (ماؤه المقدس) لتحكي قصة الموت والجريمة الأولى، بطلها أول حفّار قبور (الغراب) وقاتل على ظهر البسيطة:

الغراب الذي أخذه الحماس أمام الإثم، راح يواري سوءة أخيه أثر وعي استنهضه فجأة ......

 لتسلسل بعدها القصص التي تتالت بالتناص على طول الفترة الزمنية للحياة التي ما زالت مستمرة وستبقى حتى قيام الساعة، وأنهتها الكاتبة بنص (اللجوء ما قبل الأخير) انفراجًا ونهاية مفتوحة ومدوّرة على البداية التشاؤمية، وتلك سمة رئيسية نجدها مهيمنة على أدب اللجوء بالمجمل، فما من بارقة أمل تلوح في أفق الواقع، ابتدأت بالغراب وانتهت بالسلحفاة التي تعيش عمرًا طويلًا في سباقها مع أهدافها، وتدخل في سبات طويل متكرّر ورتيب، وعلى رأسها الصغير بصغر رأس الدبوس، والذي لا تخرجه إلا لمَمًا، نضع آمالنا بحريّة صعبة المنال، إن لم تكن مستحيلة، إذ كيف لرأس دبوس أن يبقر بطن ابن آوى؟!:

... وكأنه بذلك يريد أن يكون شاهدًا قويًّا على الحرية التي نتشبث بها معًا، فيصير له سطح كظهر السلحفاة، ورأس أشبه بذيل دبوس أصهب جميل، ربما أراد ان يكون الدفقة الناصعة التي تقبّل الحياة، أو السلاح الذي سيبقر بطن ابن آوى ليرويَ حكاية لجوء قد لا تكون الأخيرة .

2- المستوى اللساني:

هذا المستوى يبحث في البنية اللغوية للنصوص، ويكشف عن:

- الثقافة الأدبية الشاملة للكاتب:

 أعني بها الألفاظ المهنية والعلمية والتاريخية والسياسية وغيرها، التي تشكّل مدّخرًا ثقافيًّا عند الكاتب، نلمس فيها مدى قدرة الكاتبة على توظيف تلك المكتسبات الثقافية في مضمار عملها الأدبي، وتشهد على مصداقية التصاقها الثقافي بمجتمعها، ومقدرتها الإبداعية في الإفادة من ذلك، استطعت أن أقتنص من المجموعة ألفاظًا مهنية تخصّ الكاتبة كمدرّسة للغة العربية، منها:

- عربيّتي تتشبّث بضدّي المستجد هنا

- أغدو عينين تتوسطان تاء تعقد ذراعيها لتطويني في بهو تتناثر فيه فيه مناضد عاجية أجالسها.

- يتحوّل النادي إلى سبورة بيضاء حيث كانت تسرح كفي دهرًا طويلًا، وأنا أشرح لطلابي الدروس.

وألفاظ أخرى تعكس ثقافتها الأدبية والفنية:

- قد سقت إلي الحالة فكرة سترتدي حدثًا جديدًا بين حروفي.

- كان يهبط عليّ نقطة تسبح في نون متشظية، فيأتيني رامبو، وديستويفسكي، والتبريزي، وشوبان، وجو داسان، ومولانا الصوفي في مزيج من الرحيق والغوص.

استخدمت ألفاظًا أجنبية متداولة في مجتمعنا من غير تعريب، ووضعتها ضمن أقواس للإشارة إلى غرابتها:

 (سبورت كلاب)، (البوكر ماشين)، (الابرجيني)، (راديو ترانزيستور)، (فانيلا) ...

وأوردت أمثالًا شعبية: (الفاضي بيعمل قاضي) .

 - البنية اللغوية من مفردات وتراكيب وسياق:

انتقت الكاتبة ألفاظًا ومفردات بليغة، وصاغتها بتراكيب وجمل مترابطة ومتماسكة، أحسنت استخدام أدوات الربط، من غير ترهل، كما أجادت وضعها في سياقاتها اللغوية النحوية السليمة.

 - البنية الإشارية (الدلالة والمفهوم):

تلقي الكاتبة دلالات، وتترك للقارئ أن يبحث عن مدلولاتها، وتساعده في ذلك، من خلال توجيهه باتجاهها، في البداية تكون المدلولات كثيرة وعامة، ثم تبدأ الكاتبة بتوجيه عناية القارئ نحو مدلولات محددة مسوّرة بالمفهوم الذي قصدته:

في نص (وصية جسد): تتحدّث الكاتبة عن حالة علينا إدراكها من خلال الدلالات التي تلقيها الكاتبة:

والدلالات هي ما أشرت تحته بخط:

حالة تعتريني كل عشر سنوات، أشعر بأني أعلّق سفينة بعنقي، أسحبها نحو اليابسة....

المدلول هنا: تقدّم الإنسان بالعمر

ولكم أن تطلقوا العنان هنا، وتستحضروا كل ما شاهدتموه، وشهِدتموه من الفواجع في حياتكم، أو من تلك التي ابتكرتها أخيلتكم في بواطنكم، وأنتم تتابعون مستثارين عمليات الإعدام تلك....

المدلول: التجارب الحياة القاسية.

إذًا ، فالعملية أسخف مما يدور في أذهانكم، أن أسحب جسدي الذي تحوّل إلى السفينة الضخمة نفسها، وراح يتعثّر وهو يحاول السير فوق اليابسة، ومما أدهشني في سيري ليست المشقة التي كنت قد هيّأت نفسي خلال السنوات التي كانت تنتابني فيها تلك الحالة

المدلول: هرم الجسد فوق ساحة الحياة، ولكن أن الرقاب جميعها التي كانت تحمل تلك الرؤوس كانت مطأطئة بوجوهها ناحية الرمل

المدلول: الرهبة من الموت القهري .

وبما أني كنت رثّ القلب فقد كنت أتوقف لأوجّهها نحو السماء...

المدلول: التقوّي بالإيمان

بل يعنيني أن أصل إلى المحيط بهذا الجسد السفينة، وأن أتركه هناك لينتحر. لقد أخبرني أن هذا هو مطلبه الأخير، فكيف أمتنع عن تلبيته، وهو الذي به خدمت حياتي، أليس من اللائق أن أكرمه في وصية غالية

كهذه؟

المدلول: توق الجسد الهرم المنهك للموت.

كل هذه المدلولات، والتي يمكن أن تكون غير محدودة عن حالة الجسد ضمن الزمن، سوّرتها الكاتبة بمفهوم: الموت كنهاية حتمية لجسد أنهكته الحياة، وهنا حددت طريقة الموت بالانتحار، فالحالة هي رغبة بالانتحار.

- البنية الجمالية ومتعلقاتها البلاغية – علم البديع وعلم البيان

استخدمت الكاتبة الاستعارات والتشابيه والكناية، ورسمت بها الكثير من الصور الجمالية.

3- المدخل السلوكي Behaviorism Theory:

التساؤلات التي طرحتها الكاتبة في النصوص كمحفزات، وأخفت إجاباتها بالتضمير والتضمين، وتركت للمتلقي فرصة البحث عن إجاباتها، تنوعت التساؤلات بين التساؤلات التهكمية الاستنكارية، كالسؤال الذي طرحته البطلة على شاب (شبّيح) في قصة (تعويذات): تساؤل يلقي الضوء على سلوك شاذ يتبعه بعض الشباب (الشبيحة) الذين يلجؤون إلى وشم جلودهم بعبارات أو رسومات أوحتى أسماء، وهو سلوك مقزّز، غريب على مجتمعاتنا المحافظة والتي تؤمن بالطهارة، وبأن الوشم نجاسة، فتلاحقه بطلة القصة بسؤال تهكّمي:

- ما الذي دفع بك يا " علي" إلى أن تنقش الاسم على جلدك بهذا الشكل الدامي، ألعلك خشيت أن يسقط عنك سهوًا، أو لعلك خشيت عقابًا إلهيًّا إن لم تقم بذلك؟!

أيضًا تساؤل وجودي، في نص(الوفاء)، تطرحه الصحفية وهي تستمع لعاهرتين تشكوان قلّة الموارد المالية في ظلّ الأزمة التي شلّت نشاطهما، وتتبعان شكواهما بالاتكال على الله وطلب الفرج والرزق منه، تتساءل هل هو ذات الله للمؤمنين والعصاة، للفقراء والأغنياء، للضعفاء والمتجبرين؟! سؤال يضمر اختلاف البشر في اعتقادهم بالله، كلُّ يلوذ به ويختلف بعبادته، وتخبئ إجابتها خلف حروفها لنجد أنها تقرّ أنه الخالق ذاته، ولكن عباده متفاوتون، بين فلاح يزرع خيرًا أو شرًّا، وحاصد يجني رزقه أو رزق غيره، وحاكم يستبد أو يعدل:

الله الذي كان ماثلًا بشدة في حديث النسوة الثلاث، ما رأيه بما يجري، وهل هو الله نفسه الذي أركع، وأصلي له كل ليلة؟ هل يكون للفقراء، والمحتاجين، والمنبوذين ربّ آخر غير الذي لأولئك المتجبرين والمستغلين؟!

4- المستوى الحركي في التحليل Dynamic Level:

أدرس هذا المستوى بعص عناصر البناء الفني والبناء الجمالي للقصص، ونبدأ ب:

- البناء الفني وعناصره:

العنصر الأول: العنوان:

وقفنا مطولًا على العنوان الرئيسي للمجموعة، أما بالنسبة للعناوين النصوص فكانت متنوّعة، بعضها عن الجسد مجزّءًا، حاكت فيها الكاتبة وضع التشرذم والتشتّت الذي يعيشه اللاجئ متشظّيا، غريبًا حتى عن أجزاء جسده، نذكر من هذه العناوين(الرأس- الجثة- وصية الجسد- عودة الجسد- سبق أن دخلت في جلدي)، بعضها أسماء أماكن جرت فيها أحداث القصة، (سبورت كلاب – المقبرة الفرنسية – خيمة لا تعرف النوم – دمية الحافلة، ضيوف الشرفة، نزيل " بينكي"، في متاهة، شوارب في سوق المدينة، كيدون الأرمن)، عناوين لجمادات (شيء ما في الصورة- نزف الدمى – خيوط اللعبة- - سر الحذاء- ستة عشر تمثالًا حجريًّا)، وعناوين بأسماء أبطالها(أمينة المجنونة- العازف)، عناوين من لفظة مفردة نكرة أو معرفة تصف حالة (تعويذات – شغف- الوفاء – مكابرة – جوعان، أتساقط )، عناوين جملة اسمية (ماؤه المقدس- أوراد يومية – أول المعزين- صلاة دائرية – اللجوء ما قبل الأخير).

هل كانت الكاتبة موفقة في اختيار العناوين، نعم، إلى حد جيد، فقد اختارت عناوين قصيرة، ومعظمها تشكل دلالة لا تنفصل عن متن النص.

العنصر الثاني: الاستهلال:

إن الاستهلال الجيد هو القاعدة العريضة التي يبدأ منها نسج خيط التشويق بعد أن يعقد عقدة البداية على مسمار العنوان، وهو الذي سيحدّد مقدر الكاتب الإبداعية ومهارته كنسّاج ونصّاص محترف يدرك أسرار صنعته، تستهل الكاتبة قصصها وكأنها تلقي طعمًا، مفردة خفيفة، يتبعها تعريف أو إخبار عنها، يتلقفها المتلقي ويتتبّع خيط النسج بعدها، عبر الجملة الفعلية التي تبدأ منها الأحداث، يؤكّد يوسف الشاروني على أهمية التشويق وضرورة أن يعرف الكاتب بأبطال قصته: "وعلى القاص أن يعرّف بشخصياته في المقدمة، وبعض ملامحهم وصفاتهم، وذلك بطريقة فنية تثير اهتمام ومشاعر القارئ وتدفعه إلى متابعة قراءة النص، ولا تعدو المعلومات التي يقدّمها القاصّ في مقدمة قصته، بل تكون مجرد أضواء خافتة تنير الطريق إلى مخبوءات النص الذي سيكتشفه القارئ كلّما تقدّم في القراءة......) وهو استهلال ملاحظ في العديد من قصص هذه المجموعة، منها مستهل نص(الوفاء)، تستحضر فيها البطلة جارة لها هي إحدى الشخصيات الرئيسية:

هي جارة بواكير الصبا، شعر ناعم، أنف إغريقي دقيق، وعينان واسعتان.... ص 53

استخدمت استهلال مكاني في نص (المقبرة الفرنسية)، لأنها ستعتمد تقنية التدوير، أي تدوير النهاية على البداية:

الزاوية نفسها التي نتأت منذ دهر من رصيف متسخ يواجه المقبرة ....ص 76

وهناك استهلال حدَثي وقولي وزماني.....

العنصر الثالث: مواضيع القصص وزمكانيّتها:

كما أشرت سابقًا، لقد سلسلت الكاتبة قصصها بحيث تبدو وكأنها رواية، ثبّتت فيها قصة البداية (ماؤه المقدس) وقصة النهاية (اللجوء ما قبل الأخير) وما بينهما قصص متن، مع تكامل أركان كلّ قصة، بشكل مستقل، بعد قصة البداية، تأتي قصة (أمينة المجنونة ) كأول قصة متن، بطلتها أمينة المرأة الصهباء المجنونة التي كانت تسكن في مدينة الحفة التابعة لمحافظة اللاذقية، في فترة أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، سردت الكاتبة قصتها بأسلوب الحكاية، حكاية مجنون البلدة التقليدية، تحكي ما يتناقله الأهالي عن أسباب جنونها، تسهب في وصف مظهرها، جسدها وملابسها الغريبة، التي تضع عليها صورة لزعيم عربي لم تسمّه الكاتبة بالاسم، لكن واضح جدًّا أنها الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) الذي كان يتمتّع بجماهيرية كبيرة كزعيم عربي قومي كبير في تلك الحقبة التاريخية، وفي تلك المنطقة تحديدًا، وكانت أمينة تحمل راديو ترانزيستور تتابع من خلاله خطاباته الحماسية، لحظة التنوير في تلك الحكاية جاءت بها الكاتبة في النهاية، فيما قاله الأهالي حين موتها قرب السد وهي تحتضن الصورة و الراديو:

إنها مجنونة، والمجانين أحرار في أن يصلوا بمشاعرهم إلى من يحبّون، ويهوون مهما علت بهم المناصب، والكراسي.

من هنا تبدأ قصديّة الكاتبة، بنقلنا عبر الزمكانية من الأزل إلى الماضي القريب، لتبدأ قصة الشعوب في العبودية للزعامات، وكيف وُلِد مفهوم الحرية، مجنونًا مشوّهًا.

في قصة (الرأس) تتحرّك الزمكانية متسارعة لتصل إلى الزمن الحالي، قصة رمزية تجريدية، فالرأس الذي يحمل كلّ الأفكار الموروثة والمكتسبة، يدخل لعبة القتل التكنولوجي، كيف لا وهو أشبه بالكرة التي تركلها الأرجل، وتوجّهها كيف تشاء، كحال الأدمغة التي لا يملك أصحابها حق الثبات، مغسولة قسرًا بمقتضى المصالح المتغيّرة، فكيف لا تستحق ميتة مبتكرة؟ الموت نحرًا ككبش فداء، شهادة جديرة بها الأفكار المتناحرة التي أنهكتها الركلات:

أشعر بالرأس يحدّق بي وهو ينزلق، لم تكن النظرة حقدًا، أو تضرّعًا، أو استنكارًا، كان يشكرني، لأنني استطعت أن أبتكر له ميتة مُترفة لا يحصل عليها مخلوق عادي.

في قصة (الجثة) تحرّك الكاتبة الزمكانية إلى قلب الفجيعة الإنسانية، تدلّل على حجم الجريمة المقزّزة التي تجعل من أعضاء الجثث تجارة يتاجر بها تجّار الحروب، ابتداء من تجّار السلاح إلى تجّار المسالخ، حدث هذا في البلد، امتلأت السجون بالمعتقلين، وقُتِلَ المعتقلون، ومثّل بجثثهم، وسُرقت أعضاءهم النبيلة، ومارس الجزّارون مع جثثهم الرذيلة بحرّية لم يجرؤوا على الهتاف بها يومًا، بينما بقيت حناجر الجثث تطلق أنينها.

في منتصف النهار كانت الجثة قد تحوّلت إلى طبل مجوّف بعد أن جرّفت من الأحشاء جميعها، لكن الخفق والأنين اللذين يصدران منها لم يتوقفا...

ثم في (تعويذات - وصية الجسد) تقترب الكاتبة بكاميرتها من التفاصيل، تفاصيل المشهد السردي، وتفاصيل الشخصيات، فصار للشخصيات أسماء، وتوصيفات، اقتربنا من شخصية الشبّيح، هي الشخصية التي طفت بوضوح على سطح مشهد الأحداث في بداية الأزمة، كذلك الشخصيات التي قضت غرقًا وهي تفرّ من نار الأرض والسماء، مع اشتداد أحداث الصراع.

في قصص تالية، تتغيّر الزمكانية، ليغدو المكان بلد اللجوء، والزمان هو الحاضر الحالي، تخفّ فيه حدّة الانفعالات، لتنظر الكاتبة بدهشة واستغراب إلى عالم جديد، تحاول أن تعرّفنا عليه بشيء من المرح، بروح جديدة تحاول أن تعيش الحياة كما ينبغي، ولكن هيهات، ما تكاد تفعل ذلك حتى تغدو الأماكن مزارات للغربة والذكريات التي تعود بها إلى الوطن وما يشبهه من بلدان تزفر آلامها، فقصة (العازف) تبدأ هكذا، مرحة ممتلئة بالحياة،

دو ري مي فا صولا سي، أخيرًا هدأ العزف الذي أوقعني أسير نغماته منذ أن سكنتُ في هذه الشقة قبل شهور حملت ثقل دهر....

جارٌ عازف، ونظرة إلى الحديقة المقابلة الممتلئة بالنوارس والببغاوات والطائر المقزّز(أبو منجل) ، تثير في نفس البطلة مشاهد للوحة فنية متحرّكة، لتباغتها الصورة النقيض، في عوالم تحتضر بكوارثها الفكرية والتاريخية، لتسترجع تاريخ رحلة العبيد من الأبريجينيين:

يستحثّني إلى ذلك الاستمتاع بالتصافي فيما أشهد من مخلوقات، وأقارنها بعالم يَصِم من عُلويته طائرًا بالمقزّز، ويحكم على ثائر للحق بالقتل، وعلى شاعر بالإعدام، وعلى امرأة بالسبي، وعلى من يخالفه في معتقده الديني بالحرق.

وهكذا.. تنتقل الكاتبة من العام إلى الخاص، لتعود إلى الرأس الذي قطعته في قصة سابقة، (عودة الرأس)، قصة رمزية، تحكي الكاتبة عبرها قصة العبودية العربية ومتطلباتها للعيش بأمان، إذ لا يكفي أن يكون الرأس مقطوعًا خاويًا من الأفكار حتى ينعم صاحبه بالاطمئنان، بل لا بدّ من قطع اللسان أيضًا حتى يضمن العيش وسط القطيع، تحت أمرة البطش:

وبعدما مارستُ عبوديّتي بإتقان، غلبني النوم، لأجدني، أعوم وسط ألسنة لا حصر لها زُرعت فوق بحيرة صافية تشبّ منها تماسيح مخيفة، كُنتُ مُلاحقًا منهما معًا، وأنا ما ازال أصرخ: ألسنة مقطوعة، رؤوسها مطمئنة!.

في قصة (أتساقط)، أيضًا الزمكانية هي بلد اللجوء بالزمن الحالي، ورصد مفهوم المأوى للاجئ، وما يشوبه من إحساس بالغربة ينغّص عليه فرحه بلقياه، وخصوصًا إذا كان اللاجئ كاتبًا يحيا بالكتابة، لا بدّ له من أن يتجاوز الضباب الذي يحجب عينيه عما يكتب، عليه أن يتجاوز كل ما رأته عيناه من أهوال في رحلة لجوئه، ليتمكّن من رؤية ما يراه غيره فقط، فهل يستطيع؟!

...ولن أستطيع بعدها أن أغرق فيما لا يراه غيري، ولا أن أهتف للشمس حين تضمحل من حياتي، ولا أن أشتكي من الشتاء وما يثيره فيّ من الشجون، ولا من السجون، ولا من الديكتاتور الذي استبدّ بروح ما أكتب، ولن تستثيرني العواصف الثلجية وهي تدفن الفارّين في خيام متهتّكة لا تعني النّظارة،ولا جماهير المتفرّجين، ولا السقوف وهي تتهاوى فوق رؤوس الغافلين....

على هذا النحو تمضي بنا الكاتبة، لا تستطيع أن تتجاوز في مواضيع قصصها كوابيس نزلاء المنام، فلا يكاد الحلم يبدأ حتى يتحوّل إلى كابوس يقض مضجع صاحبه.

في معظم القصص يختلط الواقع باللاواقع، وما الواقع إلا خطوة واحدة يكمل اللاواقع مشوارها بخطوات عديدة ينتهي بصدمة الوعي، تجسّد ذلك جليًّا في قصّة (المتاهة)، التي بدأت بحدث واقعي لكاتبة تنتظر حكم موظفة بالجريدة على اعتماد مقالها أو لا، يتناوشها الخوف من الخلط بينها وبين كاتبة أخرى ممنوعة من العودة إلى الوطن، هذا الخوف يجرّها إلى هلوسات تزجّ بها في متاهات الملاحقات الأمنية، لتنتهي مستيقظة على هذه الحقيقة المرّة، مدينة كل ما فيها منهار، والمدينة بلد:

... كنتُ الشخص الحاضر الغائب في مكان لست أدري كيف أنّي فيه، وكان الظلام قد بدا يخيّم على مدينة كلّ ما فيها متداعٍ، ومنهار.

والحقيقة أن المجموعة تحتوي على عدد كبير من القصص، حوالي 36 قصة، كان من الممكن جدًّا أن تقسّمها الكاتبة على مجموعتين مكتفية بحوالي عشرين قصة في كل مجموعة، كان هناك قصص من صفحة واحدة، بتكثيف قليل يمكن أن تكون قصص قصيرة جدًّا.

الشخصيات:

اعتنت الكاتبة باختيار شخصيات قصصها، وتلاعبت بأبعادها، فنراها تسطّح عن قصد بُعدًا أوبُعدَين من أبعادها الثلاث، وغالبًا ما يكون البعد الجسدي، وتركيزها على البعد النفسي، وهذه سمة من سمات الأدب المعاصر، بينما نجد البعد الجسدي حاضرًا وبالتفصيل في نص (أمينة المجنونة)، لأن بعدها الجسدي عمودًا رئيسيًّا يخدم تداعيات الحدث السردي:

فارهة الطول، صهباء، بشعرها الغزير الملقى بلا اكتراث فوق كتفين عريضتين، أما فستانها البرتقالي المزركش....

وهكذا، شخصياتها بالمجمل شخصيات نزقة، موتورة، محبطة، مأزومة نفسيًّا، بدرجات متفاوتة، ومنها ما يصل إلى درجة المرض النفسي أو المتلازمة، وهي تمثيل حي لمستويات إنسانية متفاوتة في طريقة تلقّيها وتأثّرها بالأزمة التي خلّفها الظلم ملقيّا بظلاله على شرائح اجتماعية مختلفة، فالبطلة في قصة (خيمة لا تعرف النوم) هي امرأة لا تسمع إلا صوت جسدها الجائع الذي حرمته الثورة مِن مَن يطعمه، مات الشريك شهيدًا غير عابئ بها، هو يراها ثورة يحتّم عليه الواجب أن يكون من ضمن ثوّارها، وهي تراها فتنة حملت لها ولأمثالها القهر والحرمان، لتنتصر لشهوة جسدها التي جعلتها تقع في مستنقع تجّار الحروب بسلعهم المتنوعة التي كان نصبيها منهم تجّار الدعارة.

نوّعت الكاتبة بتقنياتها السردية، وناوبت بين السارد العليم والسارد المشارك في سرد النصوص، ونصوص السارد المشارك كان لها الحصة الأكبر، هناك قصص خرجت عن التكثيف باتجاه السرد الإخباري المطوّل مثل (الوفاء)، ربما لأن الواقع فيها كان طاغيًا، فنص (الوفاء) البطلة فيه صحفية تمّ استدراجها من قِبَل جارة الصبا للكتابة عن مغامرات عاهرتين مع رجال معروفين في المجتمع، ليكونوا مادة دسمة للتشهير، فجاء السرد في النص سردًا إخباريًّا صحفيّا، يسرد حقائق منطوقة ومسموعة.

 والأدب انعكاس للجمال لو قورن مع العلم، فالعلم يبرز الحقائق، والأدب يبرز الجمال، والحياة هي مسرح التكامل بين العلم والأدب، أي بين الحقائق والجمال، وهذا يقود للصراع الجميل الشفاف بين الواقع واللاواقع، أو بين الحقيقة والخيال، وعلى الأديب أن يجنح نحو الجمال والخيال أكثر، فيلقي على الحقيقة المقززة غلالة شفيفة من الألفاظ البليغة الموحية أكثر منها كاشفة، وللكاتبة قاموس باذخ الثراء في ذلك.

ختامًا:

هي جولة سريعة في مجموعة قصصية تستحق الدراسة على كل المستويات الذرائعية، نبارك للقاصة والأديبة الراقية هذا الإصدار، وننتظر منها إصدارًا روائيًّا مميّزًا، فهي تملك أدوات الروي والسرد الطويل بشكل واضح، تحياتي وجلّ احترامي.

 

د. عبير خالد يحيي

31 مارس 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم