صحيفة المثقف

نص في المكان: البدعة.. بشرى الماء وعذوبة الطبع

جمال العتابيكانت البدعة مبتغانا، أو أقصى ما نحلم في سفرة مدرسية لطلاب (الغازية) الإبتدائية، مازلت أتذكر تلك النشوة السحرية التي تمتلك حواسنا بوصفها مصادر نبحث فيها عن شيء ضائع لا نعرفه، لكنه مختزن فينا.

سد البدعة على نهر الغراف، لا يبعد عن الغازية سوى بضعة كيلومترات، لاتزيد عن العشرة في أحسن الأحوال، لكننا نرى هذه المسافة، وكأن الأرض لم تلد إلا هنا، ولا السماء أمطرت من ماء إلا عند مقدم السد، حيث ينفجر الماء ليشرب العطاشى.

المشهد حول الطريق الترابي الذي تقطعه السيارة نراه  بعين الطفولة مثل منظر أخضر يسبح في الضوء الحالم، وفي الزرقة الصافية يصدر صوت طليق من أغاني الفلاحين، ومنذ الأزل لا تعرف أية يد أولى إمتدت لتصنع هذا السحر لتوهبه للإنسان؟

ما من شيء يتموضع في هذه الأرض الممتدة نحو البدعة إلا ويشير إلى تلك المسرات الصغيرة، وقد عبأت الأشرعة الريح لتمضي، ثم لا تلبث أن تتوقف عند الضفاف الموغلة برائحة الموج، والأشجار المتشبثة بالصخر والجذور.

لم يعد الماضي يسكنها بعد أن لملم زمانه الشائخ، وانطوى في زاوية من زوايا ذاكرة مثخنة الجراح، (البدعة) لاتفزع نحو المجهول بحثاً عن أيما مكان، لا يبعدها عن تاريخ نسجته العصور، وهل إختفت، أو تختفي يوماً ملامحها؟ وكيف، وقد توسدها هوى وتذكر مشية الغراف المتراضية.

السد لا يغيب عن الذاكرة، كنت أرقب أبي وهو يصنع نمودجاً خشبياً له، يشارك فيه بمعرض وسائل الإيضاح لمدارس لواء المنتفك، أو يرسمه بألوان الزبت على لوح من الخشب تارة، أو على الجبس تارة أخرى، وتنال مدرسته الريفية الجائزة الأولى للمعرض بفعل هذه المشاركة، أيضاً كانت بالنسبة له الوطن الأجمل كما يبدو، وعنوان الخصوبة في حوض الغراف.

الليل يطول، وساعاته تمضي ثقيلة، نصحو ونغفو، حتى آذان الفجر تأخر تلك الليلة الشتائية المقمرة، والريح شمالية تغري بالنوم، لكننا لن ننام! نتأهب أو لا نتأهب، صوت الامهات الساهرات يوصين الأبناء، يوم لم تنبت للقبائل مخالب بعد، ولا البلاد حطّ فيها طوفان الحروب : إياكم إن إجتزتم المسافات، وطوفتم بعيداً، وطويتم مدناً، أن تتذكروا ان بصمات الخطوة الأولى ستبقى هنا، هذا الأثر ومعناه الإنساني يلازمني في أبعد نقطة داكنة في العالم.

خيّرنا من أعدت له الأم (صرّة) متاع السفر، ودسّت فيها بيضة واحدة وإن تيسر، فقطعة من التفاح اللبناني، محاطاً بصلواتها وتضرعاتها، وما تبقى من كحل عينيها في الليل، نتخطى مدائن الطين، نطوي سهاد الليل بالأغاني، فتغني معنا الدنيا، تلتحم الأغاني بضجيج محرك السيارة وتراب السباخ يتصاعد في أعماق الصدور.

حالما نعبر قنطرة (المنّاعية) نكون قد أجهزنا على المتاع، تتولانا مشاعر سعادة لا توصف، كأننا نسمع صوت التاريخ يرتفع ها هنا، في هذه البقعة التي لا ترى بالعين المجردة على خارطة الأطلس العراقي المطبوع في أرقى مطابع هولندا.

ها أنت يا أرض البدعة تستقبلين أبناءك، كما لو كنت مصايف رطيبة الظلال ومرابع لهم، وعند أعتابك بزغ فجر القوارب، إنك السد في هيبته! فأي سِفر هذا الذي تزمّين شفتيك كرهاً على إتيانه دون أن تموتي وتحيي مرات ومرات، انه درب المياه الجميلة، تعطين ماء حلواً لأهل البصرة من كتفك الأيسر، عبر نهر ظلت ضفافه وحيدة تزرع الصمت، يطوف في الصحراء يعاقر وحدته، وينادم قسوة الصخر وريح السموم، كان يحمل بشرى الماء، وملاذاً من عطش، يشحّ في سنوات القحط، ويعاود الحنين للإرواء في مواسم أخرى.

في مقدم السد تتدفق المياه عافية وزهوراً، وعذوبة في الطبع، كأن البدعة مخلوق من الرقة والشوق والإبتهال، لكن الماء في الجانب الثاني يلقى بترحاله متعباً، يستريح ويستكين، مستسلماً للتشعب والإنشطار، يغور في المسالك والدروب، فتغيب ملامح النهر ويغيب رفيف الأشرعة المباركة....

بم تحلمين يا بدعة العصافير؟

بم تحلمين؟ وهذه الأيام في دورانها طاحونة أبدية.

رحماك لاتدعي رياح اليأس تطفىء مراسيك الخيال؟

دع ليلك الجنوبي يلملم إختلاجات صوت النواح فيك...

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم