صحيفة المثقف

شِعريةُ العِشقِ وعشقياتُ الشِّعرِ الرُّوحي

جبار ماجد البهادليمخاضٌ لجدليةِ (العزلة والسفر)

قراءة نقدية في قصيدة: (تحليق بين أربعة جدران)،

للشاعر يحيى السَّماوي .


القصيدة:

تـحـلـيـق بـيـن أربـعـة جـدران

وحـدي وظِـلّـي

بـيـن أربـعـةٍ ونـافـذةٍ تُـطِـلُّ عـلـى الـحـديـقـةِ

حـيـثُ لا شَـجَـرٌ ولا وردٌ ســوى

شــوكِ الـقـلـقْ

*

وحـقـيـبـةٍ فـيـهـا مـن الـكُــتُــبِ الـكـثـيـرُ

وبـعـضُ ألــبــســـةٍ مُـغَــلَّــفــةٍ ـ هـدايـا ـ والـقـلـيـلُ مـن الـعـطـورِ

وشَـمْـعَــدانٌ بـابـلـيٌّ  لـيـسَ أصـلـيَّـاً

ولـكـنَّ الـنـقـوشَ الـبـابـلـيـةَ لا أدَقْ

*

شــقَّ الـخـيـالُ طـريـقـهُ

فـوجَـدْتُـنـي مُـتـفَـيِّـئـاً أفـيـاءَ بـسـتـانِ الـحـبـيـبـةِ ..

جـاءنـي ظـبـيُ الـقـصـيـدةِ

فـافـتـرَشـتُ لـهُ ســريـراً مـن ورقْ

*

ونـصَـبـتُ مـائـدتـي  ..

شـربـتُ مـن الـنـدى كـأســاً

وأخـرى  صَـبَّـهـا لـيْ مـن سُـلافـتِـهِ الـشــفَـقْ

*

فـثَـمـلـتُ ..

وابـتـدأ الـنـعـاسُ يُـشـاكِـسُ الأجـفـانَ

نـمـنـا عـاريَـيـنِ أنـا ومـولاتـي الـتـي دكّـتْ جـدارَ الـلـيـلِ

فـارتـحَـلَ الأرَقْ

*

نـمـنـا مـعـاً حَـدَقـاً وأجـفـانـاً

فـمـا  أدري أأجـفـانـاً أنـا أصـبـحـتُ

والـقـمَـرُ الـمُـشِـعُّ أنـوثـةً كـان الـحَـدَقْ ؟

*

أمْ أنـنـي حَـدَقٌ تـشـعُّ صَـبـابـةً

رأتِ الـمـلاكَ الـسـومـريـةَ تـرتـدي ثـوبـاً أشَــفَّ مـن الــنـدى

تـمـشـي فـيَـتـبَـعُـهـا الـرصـيـفُ

ويـسـتـضـيءُ بـهـا الألـقْ ؟

*

داجٍ كـبـئـرٍ كـان قـبـلَ مـجـيـئِـهـا الـبـسـتـانُ

لـكـنْ

حـيـنـمـا خَـلـعـتْ عـبـاءَتـهـا ائْــتـلَــقْ

*

كـشـفـتْ عـن الـشـمـسـيـنِ فـي الـعـيـنـيـنِ

والـيـاقـوتِ فـي الـشـفـتـيـنِ

والــقَــمَــريــنِ فـي الــنـهــديــنِ

والـقَـدّاحِ فـي الـسـاقـيـنِ  (**)

والــرَّيـحـانِ فـوق الـرُّكـبـتـيـنِ

وتـحـتَ سُــرَّتِـهـا الـحَـبَـقْ

*

وأنـا كـشـفـتُ عـن الـجـنـونِ الـسـومـريِّ

فَــشَــبَّ فـي حَــطــبــي الـشـبَـقْ

*

أطـلـقـتُ سـهـمـي نـحـو قـوسِ الـسـومـريـةِ

فــاخـتـرَقْ

*

تـفـاحـةَ الإثـمِ الـحَـلالِ بِـفِـقـهِ أوروكَ الـجـديـدةِ

حـيـثُ يـغـدو الـعِـشـقُ خـبـزاً

والـتـهـيُّـمُ مُـعـتـنـقْ

*

والـلـثـمُ مـاءً لـيـس أعـذبَ مـنـهُ فـي شـفـةِ الـظـمـيءِ

ولا أرَقْ

*

عَـبَـرَتْ بـيَ الـسـبـعَ الـطِـبـاقَ

وســافـرَتْ بـيْ فـي بـحـارٍ لـمْ يـزرهـا الـسـنـدبـادُ

ولـيـس يـنـجـو مـن زلازِلِ مـائِـهــا الـضَّـوئـيِّ

إلآ مَـنْ غَـرَقْ

*

حـتـى إذا كـفَّ الـحـصـانُ عـن الـصـهـيـلِ

نـهـضـتُ مـن نـومـي

أُلـمْـلِـمُ مـا تـبـقّـى فـي ســريـري

مـن رحـيـقِ زفـيـرِهـا

عـنـد الـغَـسَـقْ

*

لأعـودَ ثـانـيـةً أُفَـتِّـشُ فـي رمـادِ الـوقـتِ

عـن غُـصـنِ الـمـكـانِ بـنـارِ حَـيـرتِـهِ

احـتـرقْ

*

وحـدي وظِـلـي بـيـن أربـعـةٍ ونـافـذةٍ تُـطِـلُّ عـلـى الـحـديـقـةِ

حـيـثُ لا شَـجَـرٌ ولا وردٌ

سـوى زِقٍّ مـن الـشـوقِ الـمُـعَـتَّـقِ فـهْـوَ

مُـصـطـبـحـي  (***)

ودَنٍّ مـن هـديـلِ حـمـامـةِ الـقـلـبِ الـمُـخَـضَّـبِ بـالـتـبـتُّـلِ

مُـغـتَـبَـقْ

*

وحـقـيـبـةٍ أكـمـلـتُ مـن شــهـرَيـنِ شَــدَّ حِـزامِـهــا ..

مـا إنْ أراهـا

أسـتـعـيـذُ مـن الـرَّهَـقْ

***

يعيش السّماوي في هذه الأيام العصيبة من حياته التاريخية تحليقا وتعليقا بين جدران أربعة وباب موصد، كلّما حركته الريح صرّ في حالة جبرية من العزلة القسرية التي فرضتها زمانيا واقعة جائحة كورونا العالمية، وازَّمتها مكانيا ظروف تواجده عالقا بين منبت رأسه مدينته الوادعة السَّماوة، وغيابه القاريّ البعيد عن أسرته، حيث الأهل والأحبة والخلان في أستراليا. كلّ هذه التداعيات الداخلية والخارجية كانت سببا مباشرا في أن يعيش الشاعر سجنا منزليا مفروضا رهينا بين محبسين، محبس الرغبة في السفر إلى أهله، ومحبس ما يحُول دون تحقيق هذه الرغبة المؤجّلة باستمرار ، لا يَدٌ له فيها مهما حاول طالته أقدار الرفض، فكانت مخاضا عسيرا لوحدته الشعرية التي عبّر عنها قائلا :

وَحدي وظلّي بين أربعةٍ ونافذةٍ تطلُّ على الحديقةِ

 حيثُ لا شجرٌ ولا وردٌ سوى شوكِ القًلقْ

 وقد انعكست ظلال هذه الأزمة وتداعياتها الشعورية على نفسية الشاعر كثيرا حتّى غدت قلقا وهاجسا يوميا مُلحّا، اختمرت أبعاد ورؤى ثيمتها الفكرية في تخلجاته الشعورية، فأحبَّ الشاعر من خلال تجربته الشعرية العريقة أن ينتهزها فرصةً إبداعيةً، ليترجمَ أفياء هذه الواقعة التاريخية وأرخنة ظلالها شعريا على تخوم واقعه اليومي المحيط (الماحول) في مصفوفةٍ شعريةٍ عشقيةٍ يمتزج فيها الواقع المرئي بالخيال الشعري اللاشعوري، ليُعيدَ لنا إنتاج المعاني الحسيّة والدلالات السياقية للنصّ في بوتقة إبداعية يلتحم فيها نموذجان من صور الإزاحة الفنيّة لوحدة الموضوع في تماسكه النصّي، وبنائه الشعري الجمالي. حيث تتمظهر تشكّلات صور الإزاحة اللغوية لمعاني الكلمات والألفاظ والعبارات في تماهٍ مستمرٍّ مع صور تشكّلات إزاحة الواقعة التاريخية لقيمة الموضوع ، والّتي هي -أساسا- حاضرة أو موجودة في الفضاء الخارجي للشعر، وتشكّل مركز المثير الشرطي لاستجابات مُسْتَقْبِلِ الشاعر في انثيالاته الشعورية وتدفقاته الشعرية التي بُنيت عليها القصيدة بهذه الشاكلة من جدلية الشعر العشقي الغزلي الرقيق في لغته ومعانيه وصوره ودلالاته السياقية والجمالية:

وحقيبةٍ فيها من الكتبٍ الكثيرُ وبعض ألبسةٍ مغلّفةٍ -هدايا- والقليل من العطور وشمعدانٌ بابليٌ ليس أصليّا

ولكنّ النقوشَ البابليةَ لا أدَقْ

هكذا يجسّد السّماوي جمال اللقطة الشعرية حسيّا وجماليا، فيمنحها روحا جديدةً بعد ان كانت شكلا ، جسدا ميّتا لا روح فيه كالشمعدان البابليّ الذي استعاد روحه وحياته الأسطورية والحضارية المفقودة من خلال وشم نقوشه الأصيلة الدقيقة التي أكّدها الشاعر فنيّا. وهنا في نصّ هذه القصيدة : (تحليق بين أربعة جدران).، نلحظ اشتغالا خاصّا بالشاعر السّماوي يحاول أن يعززه فنيّا من خلال مقاطع القصيدة المتلاحقة. لقد كانت مقاطع هذه القصيدة مقاطعَ صور حسيّة (نصوص صورة)، أي أن شعريتها تعتمد أساسا على تقنية التصوير الشعر ي والمفارقة الشعرية في ثلاثية من (الصوت والحركة والصورة )، فضلا عن تصعيد فعل المخيلة الشعرية للواقعة الموضوعية أكثر من أي شيء آخر نتيجة احتدام المشاعر الملتهبة، وازدحام الصور بفعل أسلوب القصّ الشعري الذي تتحرك فيه الأفعال وتتضامن الأسماء في تخليق الصورة وتحسينها فنيّا ، لإدهاش المتلقّي والتأثير في نفسه. إن السّماوي يعمد في تعشّقاته الغزلية الرقيقة لغةً ومعنىً إلى توسيع وبناء فضاء نصّ التصوّر اللاشعوري بتشكّلاتٍ لونيةٍ حسيّةٍ متجددةٍ في دلالاتها ومعانيها الحسيٍّة المتوالدة اعتمادا على ما يمتلكه من ثراء خزٍينهِ اللغوي، وسعة أفق مخياله اللامرئي الذي يزخر به معجمه الشعري بين حاضرة (التراث والمعاصرة). فضلا عن استعداده الثقافي المكتسب، والتقاطات عدسات نصه المرئي لجوانب صورية متعددة عن روح التجربة المعاشة أو الواقعة مصدر أنساقه وتصوّراته الفكرية بكلّ تجلياتها اليومية والتاريخية، فينسج من خيوطهاقصيدة أو نصّا شعريا يمكن لنا أن نسمّيه جماليا نصَّ (الواقعة العشقية) المعاشة الذي هو بطبيعة الحال غير النصّ الواقعي الذي يرتبط بأشياء الواقع اليومي التداولي المألوف. إن مفهوم الصورة الإنزياحية يتشكّل عند السَّماوي في هذه القصيدة، وفي غيرها من نصوصه الشعرية الأخرى حتّى يصل في متخيله اللامرئي إلى أضواء من مستويات الصورة الحُلُمية التي يقدمها للمتلقّي واقعا حقيقيا محسوسا. وكما واضح في مطلع هذا المستهل المحوري من قصيدته الذي تقصّد الشاعر افتتاحه بضمير الأنوية الشاعرية(أنا)، لتعزيز دلالته الذاتية وتقويتها بهذه الثقة الكبيرة التأكيديةمع هوية الآخر الأنثوية :

وأنا كشفتُ عن الجنونِ السّومريّ

فَشبَّ في حَطبي الشَّبَقْ

فحينَ نتأمّل دلالات هذا المقطع الانزياحي الاستهلالي المكثّف، نلحظ أن أضواء الصورة الشعرية الكاشفة تكمن في صورة (الشبق) الذي صيّرهُ حطبا يشبُّ ضراما حارقة في نفسه، وهي صورة مخيالية (فوق الواقعية)، ترتقي فنيّا في الميتا شعر الحداثوي إلى مستوى (الحُلٌمِ) أو (الرؤيا) أو اللاواقع غير المرئي حسيّا. وإن المحرك المساعد على تصعيد التأثير الانفعالي لهذه الصورة الشبقية المخيالية مؤثران للإزاحة التصويرية، مؤثّر الإزاحة المعنوي أي (إزاحة معنى) الدلالي، ومؤثر الإزالة اللّغوي أي (إزاحة لغة)جمالي تمثّل في جملة: (فيشبُّ في حطبي الشَّبق). وهكذا يُخلِّقُ السَّماوي صوره العشقية في قصيدته هذه عبر فيوضات شعرية روحية من الإزاحات التصويرية التي تتصاعد فيه مخيلة الشاعر وتنشط صوريا ، فالشاعر يروم من وراء قصدية ذلك تأكيد حقيقة معروفة في النقدية الشعرية، هي أن الشعر فعل تخييلي صوري، ومرآة عاكسة عن اللاوعي الشعوري النفسي ، بيد أن مثل هذا الاتجاه المخيالي التأكيدي لا يهمل -حقيقةً- صورة الواقعة الفكرية للمشهد الشعري الذي تتابع أحداثه الموضوعية .وهذا ما نتحسسه ماثلا في هذا المقطع الانزياحي للدفقة الشعورية التي يصوّر فيها خياله:

شَقَّ الخيالُ طريقُهُ فوجدْتَني متفيِّا أفياءَ بستانِ الحبيبةِ.. جَاءني ظبيُ القصيدةِ فأفترشتُ لهُ سًريرا من وَرقْ

فالسَّماوي لا يطمح في مثل هذا المقطع التخييلي إلى تفعيل روابط أطراف الصورة الشّعرية المبتكرة في عشقيات الشّعر الحسّي ( شقَّ الخيالُ طريقهُ/جاءني ظبيُ القصيدةِ )، فحسب، بل يسعى جماليا إلى أنسنة الأشياء المعنوية التي تُعبِّد الطريق لها ، وتؤثّث المكان ، لتُعيدَ لها الحيوات النابضة وتمنحها الحركة الصورية الفاعلة على الديمومة والاستمرار. كما نلحظ في القصيدة هناك تأكيدات أخرى على معانٍ انزياحبة ولغوية مقاربة لهذا المعنى التصويري، مما يؤكّد هنا اهتمام الشاعر السَّماوي بوظيفة (الأنسنة والحَيواتية) التي تفرضها ظروف الواقعة مشفوعةً بفعلٍ تخييلي أكبر من ذي قبل :

داجٍ كَبئرٍ كانَ قبلَ مَجِيئها البُستانُ

لكنْ حينما خَلعتْ عَباءتَها اِئتلقْ

فالشاعر يحاول أنسنة (البستان) هذا الجماد التخييلي الذي تقنّعَ به، إذ أراد أن يمنحه القُدرة على صفتي (الإشراق والظُلمة) أي صورة (الائتلاق والدُّجى)، كما أراد أن يُمَلِّكَهُ القدرة على الإرتواء كي يكون قادرا على العطاء والكرم بـ (الماء) أساس الحياة كونه بئرا .. فالأنسنة المخيالية للجماد فعل تخييلي تصوّري في حين أن (مجيؤها/خلعتْ عباءَتها) الدلالتان اللّتان تُشيران إلى المعشوقة هما واقعة حدثية غرضية، موضوعيا أراد الشاعر من خلالها أن يؤكّد صورة هذه المعشوقة التي بعثتْ فيه الحياة من جديد ، فلولا فعل مجيئها وخلع عباءتها، لكان هالكا في ظلام دامس لا حياة له، أو إشراق يتنعّم به في حياته... فالشاعر من لذة الانتشاء والإمتاع الروحي مندهش تماما وحيران لا يدري ماذا أحلّت به هذه الملاك السومرية من ذهول؟!حتّى كاد أن لا يُفرِّقُ من هول واقعة العشق وتأثيرها أهو جَفنٌ أم حدقٌ؟! إنه حلم لا يمكن أن يحدث لأي معشوق نائم حالم بين وعي أو يقظة :

نِمنا مَعا حَدقا وأجفانا فما أدري أأجفانا أصبحتُ

والقمرُ المُشعُ أُنوثةًكانَ الحدقْ؟

ويبلغ السَّماوي الذروة في عشقياته وانتشائه الحسّي، حتّى وصل إلى أقصى درجات صور التماهي الروحي مع معشوقتة الأثيرة الملاك السومرية، وكأنه فارسٌ أسطوري خيالي أو ملك سومريّ او بابليّ مُعتّق بخمرة العشق وثمالته الروحية في هذه الملحمة الأسطورية النبيلة من أفانين العشق وأساطيره المخيالية، بل هوَ شهريار العشق المُرُوَّض بخمرة شهرزاد المُتجددة في كلِّ لياليها المِلاح حتّى أُفول اللّيل الحالك وانبلاج فلق الصباح ... لا أدري كيف استطاعت عدسات السَّماوي الشعرية الساحرة أن تلتقط لنا من فضاء العشق ومُناخاته الداخلية صورا شبه فوتوغرافيةً مُجسّمةً، تكاد تضاهي جماليا في تصويرها الفنّي صور الواقعية الحقّة للكشف عن تضاريس حسيّة هذا العشق وطبيعته الإغوائية التي تُعجِزُ في تلوينها الشعري براعة فرشة رسّام ماهر بفنّه، أو إزميل نحات صانع للجمال بكلّ معانيه الفنيّة والإنسانية. إنه – حقّا - رسم و تلوين بالشعر من دماء القلب المتدفقه وفيضه إلهامي، ونحت من تباريح الروح المستهامة وقدسيتها العرفانية التي جادت بها لوحة يحيى السَّماوي الشعرية عبر تموجات ضوئية من فنارات الجسد وغواياته الحسيّة الكاشفة لأقانيم هذه الأضواء وآفاق ارتداداته الانفعالية. حتّى رسمت لنا مخيلة السَّماوي الحُلُمية صورا ونفائس مبهرةً في هذه القلادة الجِيديةِ الرائعة في صياغتها الجمالية، بهذا النوع من التكوينات الثنائية المتفرّدة من أجزاء الجسد وأعضائه،وبموازاة صورية كعتبات مساوية لها :

كشفتُ عن الشّمسين في العينين ِ

والياقوتِ في الشّفتينِ

والقمرينِ في النّهدينِ

والقداحِ في السَّاقينِ

والرّيحان فوقَ الرّكبتينِ وتَحتَ سُرَّتِها الحَبقْ

هذا المقطع الأُغوائي الآيروتيكي الحسّي لجماليات الجسد الإباحي المحظور هو الذي كشف لنا فنيّا عن مغاليق الجنون السومري في مفتتح القصيدة الأول، وأزاح السِّتار عن ذلك الشبق الآيروسي الذي شبَّ حطبا ملتهبةً في نار الشاعر المتأجِّجَةضراوة واشتعالا . ولم يكتمل وقع هذا الجنون السومريّ للواقعة الحدثية الكبرى إلّا بعد تصويبه بسلاحه الهدف المرصود، واختراق حدود الأُنثوية المحرّمة بسهمِ رميةِ رامٍ يُعيدُ له توازنه الحسّي الكبير وانتشاءه الروحي المفقود بهذه الجذوة الجمالية الخاطفة التأثير :

أطلقتُ سًهمي نَحوَ قوسِ السُّومريّة فاخترقْ

 لم يَرعوِ الشاعر الظمآن ارتواء من كلّ هذا الجنون السومريّ الخارق لصورة الأنثى السومريّة معشوقته الحبيبة ليس إشراكا أو تكفّرا منه، بل أباحَ لنفسه من تابو الإثم المحرَّمِ او المحظور أخلاقيا أن يُشرٍّع حلالا في الحبِّ، ليغدو العشق في هواه غذاء جسديا نقيا شافيا، ويتصيّرُ التهيُّمُ في فقه أوروك السومريّة معتنقا روحيّا تحجّ إليه النفوس الرهيفة وترتاح إليه تشوقا وعبادةً:

تُفاحةُ الأثمِ الحلالِ بِفٍقهِ أوروكً الجديدةِ

حيثُ يغدو العشقُ خُبزا والتًهيُّمُ معتًنَقْ

وبعد هذه الرحلة السندبادية الشّاقّة في بحار العشق ومخاطره الكونية المحفوفة، يُضاف إليها مراكب الأسفار عبر سمواته السبع الطباق التي لم تطأها قدم أي سندباد من قبل، أو ينجو منها مسافر إلا وقد مسهُ ضُرُّ الغرق، كَفَّ الجموحُ الهائجُ وتروّض الحصان عن الصهيل وعن جذوة نار الشّبق، فكان قاب قوسين أو أدنى من بلوغ الغسق كناية عن تحقيق صور اللّذه ومحسوس التمنّي :

حتّى إذا كفَّ الحصانُ عن الصهيلِ

نهضتُ من نُومي أُلملِمُ ما تبقى في سَريري

من رَحيقِ زفيرِها عندَ الغًسقْ

يا لها من إزاحة تعبيرية صارخة عن صورة ذلك الوباء الأغوائي الذي يكمن تحت جلودنا ويُغلِّفُ نفوسنا بألم اللّذة الحسيّة ونشوة الجسد المحسوس . فهذا الترويض الانطفائي لجذوة النفس الأمّارة بالسِّحرِ المحرّمِ تُحفّزُ الشاعر وتُنشّطُ مخياله الشعوري الصوري من أجل العودة في التحليق ثانيةّ للتفتيش في بقايا الزمن والبحث في رماده بعد الاحتراق :

لأعودَ ثانيةً أُفتِشُ في رمادِ الوقتِ عن غصنِ المكانِ

بنارِ حيرتهِ احترقْ

التفتيش في رماد الوقت المنطفئ، وتقفّي آثار غصن خضرته المكانية المحترقة من أساليب جماليات التصوير الفنّي الإدهاشية التي تلفت النظر إلى المتلقّي وتشُدّه إلى التأمل والكشف عن مكنونات هذه الصورة الانحرافية الإبداعية التي أضاءت النصّ. وتعود دائرة التحليق الجدراني بمخيلة الشاعر مرّةً أخرى من حيث ما ابتدأت دورتها الطبيعية الآسرة، لتؤكّد بأسىً شفيفٍ وحزنٍ عميقٍ ذلك الشعور الإنساني الذي يُباغت عقل الشاعر ويثقل كواهله بشآبيب الألم وأمطاره الهامية في ساحة العشق الروحي، فيكون المخاض عسيرا والسفر مرتهنا أسيرا :

وحقيبةٍ أكملتُ من شهرينِ دورتها شدّ حزامها ...

ما إن أراها أستعيذُ من الرَّهقْ

وبمثل هذا الدوران الشعري التحليقي لجماليات شعرية العشق وتجلياته الأسلوبية أسهمت نصوص مقاطع هذا التحليق بين أربعة جدران بإيقاع قافيتها الصوري الساكن المهموس رويا والموقّع تموسقا وعذوبةً في تأسيس مناطق شعريةٍ العشق الروحي المحسوس قابلةً للتحوّل والتوالد الصوري المخيالي عبر فعل شعري شعوري معبّر عن صدق التجربة الشعرية وعمق ترسيخها فنيّا وجماليّا.

 

بقلم: د. جبّار ماجد البهادلي.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم