صحيفة المثقف

مفهومُ الصورةِ الشعريةِ عند شعراءِ الحركة الصورية

حسني التهاميعلى عكسِ معاصرِيهم من الشعراء التقليدين، رفض الصوريون المشاعرَ التي امتلأ بها الشعرُ الرومانسي والفكتوري. ودعوا إلى العودةِ إلى القيمِ الكلاسيكية، كالعرضِ المُباشرِ للأفكارِ والاقتصادِ في اللغة، والقدرةِ على تجريب أشكالٍ شعريةٍ حداثية؛ لذا فقد خاضوا غمارَ الشعرِ الحر. وأهم ميْزةٍ للحركةِ الصورية هي العكوفُ على عزلِ صورة واحدةٍ للكشفِ عن جوهرها. تعكسُ هذه الميزةُ التطوراتِ المعاصرة في الفن الطليعي، وخاصةً التكعيبية. على الرغم من أن الصورية تعزلُ الأشياءَ من خلال استخدام ما أسماه إزرا باوند بـ"التفاصيل المُضيئة" (1). عرَّف باوند الصورةَ على أنها "تلك التي تقدم عُقدة فِكْريةً وعاطفيةً في لحظةٍ من الزمن". وتابع قولهَ: " تقديمُ صورةٍ واحدةٍ يمتد أثرها أفضلُ من إنتاجِ أعمالٍ ضخمة".(ص30) (2)

اهتم الشعراءُ بكيفيةِ بناءِ القصيدةِ وأثرُ هذا البناءِ على المعنى.وكلما كان بناء الصورة بسيطا، كانت المعاني واضحة وأكثر عمقاً. يرى توماس هوبز أن الصورةَ مهمةٌ في العمليةِ الإبداعيةِ، فهي بمثابةِ الجِسرِ الذي يربطُ بين "الخبرةِ والمعرفة". (Frazer، in Petrzykowska، 2002، p.141). تقومُ الصورةُ باستدعاءِ الحواسِ لدى القارئِ، لكن استجابة تلكَ الحواسِ بالتأكيد ستكون مختلفة من قارئ لآخرَ تجاه الصورةِ المنعزلة. لا يستطيعُ الشاعرُ التحكمَ في استجابةِ القارئِ للصور، كلُ ما يُمكنُ أن يتحكمَ فيهِ هو شكلُ الاستجابة. فعندما يُصورُ الشاعرُ مشْهداً أو لقطةً فريدة في لحظةِ من الزمن، يتركُ انطباعاً وأثراً في ذهنيةِ القارئِ لفترةٍ أطول . سوفُ ينتهي المشهدُ حتْما بانتهاء الحدثِ على أرض الواقعِ، لكنهُ سيظلُ حياً في النصِ الشعري. 

وعادةً ما تكونُ الصورُ الشعريةُ مُبتكرةً وغيرُ مألوفةٍ، مما يَجْعلُها أكثرَ جاذبيةً للقراء. ويظلُ القارئُ غيرَ العاديِ قادراً على رؤيةِ الأشياءِ والتمعنِ فيها بطريقةٍ مُختلفة، وذلك لأنَّ لديه القُدرةَ على الملاحظةِ الدقيقةِ وعلى استكشافِ الأشياءِ بشكلٍ أعمق . يقومُ الشاعرُ برسمِ الصُورةِ بنوعٍ من "الغرابة" على حدِ تعبيرِ الناقدِ (شلوفسكي 1965 ص 19) وهذه التقنيةُ الفنيةُ تجعلُ القارئَ أكثرَ فُضولاً، وتعطيُ أهميةً للموضوعِ ذاته إلى جانبِ الإحساسِ بالغموض. يؤكدُ شلوفسكي أنَّ الهدفَ من الصُورةِ هي خلقُ تصورٍ و"رؤية" حول الشيء وليست وسيلةً معرفية. كما يبينُ هولكولم تفوقَ الخيالِ الأدبيِ على الاكتشافاتِ العلميةِ والتحليلِ العقليِ للأشياءِ لأنَّ المخيلةَ الشعريةَ توفرُ نوعاً من المعرفةِ، ويؤكد أنَّ الصورةَ تزودُ القُراءَ بـ `` فورةِ الإضاءةِ التي تتجاوزُ المخاوفَ العادية '' وتُعطي للقارئ نوعًا من "الإحساس" الذي لا يمكن العثور عليهِ في الحياة اليومية. (هولكولم 2007). كما يُوضح إزرا باوند أهميةَ الصورةِ وتأثيرها في ذهنية القارئ . والصورةُ الناجحةُ هي تلكَ التي تتركُ لدى القارئ انطباعاً مُعيناً لفترةٍ من الزمن " من الأفضل إنشاء صورة تدوم مدى الحياة بدلاً من أعمال كبيرة لا تترك أي انطباع على الإطلاق" (Hughes، 1960، p. 2).

إن الصورةَ الشعريةَ ذاتَ أهميةٍ كبيرةٍ عند شعراء الحركة الصوريةِ في تشكيلِ النص، فهي التي تجعلُ المفاهيمَ أو الظواهرَ أشياءَ ملموسةً،إنها تجسيدٌ لفكرةٍ ما . إنها تقومُ بالتعبيرِ عن الأشياءِ بطريقةٍ أكثرَ جاذبية . يجبُ على الشاعرِ أن يُقدم للقارئِ صورةً حسيةً وحَيَّةً بشكلٍ مُباشرٍ وبصورةٍ واضحةٍ بعيداً عن اللبس والغموض، ذلك لأن الغُموضَ لن يترك أيَ انطباعٍ في ذهن القراء . وإذا لم يتمكنِ النصُ من تركِ الأثرِ العميقِ والانطباعِ الذي يعلق بذاكراتهم. وعند تأمل الصورة الحسية تحدث ذلك الأثر العميق عند القارئ، ويمكنُه استكشافُ تفاصيلِ العوالمِ السِحريةِ الكائنة بالنص . 

في نصِ "حورية" الذي نشر عام 1915 للشاعرةِ هيلدا دوليتل تلتقطُ الشاعرةُ مشهدَ دوامةِ البحرِ في لحظةٍ ما، وتنتهي هذه اللحظةُ واقعياً عند هدأةِ البحر، أوعندَ انصرافِ الشاعرة عن رؤيةِ المشهد . لكنْ عند قراءةِ النصِ تتحركُ أما القارئ صورةُ البحرِ في هيَجانِه، وتظلُ عالقةً ومحفورةً في ذهنِه لفترةٍ طويلةٍ من الزمن:

تدافعْ -أيها البحر، (3)

ألق صنوبرك المدبب الهائلَ،

رشه

فوق صخورنا،

القِ باخضرارك فوقنا

غطنا بأحواض التنوب.

والمتعمقُ في نصِ "حورية " نلحظُ اقتصاداً لافتاً في اللغة، أو بمعنىً آخرَ ليسَ ثمة كلماتٌ زائدةٌ غير معنيةٍ بتشكيلِ صُورةِ النص، وهذا يَدلُ على أن الشاعرةَ التزمتْ البَيانَ العامَ الذي صاغَه إزرا باوند. ركزتِ الشاعرةُ على صُورةِ (ارتطام الأرض بالبحر)، ولم تُستدرجْ إلى انزياحاتٍ أُخرى تَصرِفُ القارئَ عن جماليةِ الصورة. إنَّ وصْفَ هيوز لـلشاعرةِ باعتبارِها تجسيدًا مِثاليًا للحركةِ هو انعكاسٌ للوعي بما نادى بهِ باوند، حيث كان استخدامُها للصورِ دائمًاً مُوجزًا ودقيقاً.

إن عنوانَ القصيدةِ المأخوذَ من الأسطورةِ الإغريقية، والذي يَعْني "حورية الجبل" يُفسرُ الإشارةَ إلى شجرةِ "التنوب" في القصيدة وهي من فصيلة الصنوبريات . تُخاطبُ تلك الحوريةُ البحرَ وتتوسلُ له أن "يُحلِّق" فوق الصخور، ويُغطيها بأمواجهِ التي شبهتْها الشاعرةُ بـ "بأحواض التنوب". تتماوجُ اللغةُ والإيقاعُ مثلَ موجاتِ البحرِ اللطيفةِ، ولا نكادُ نَحسُ هذا الإيقاعَ المُوسيقيَ إلا في لغتِه الأصلية. لنتأملْ مثلاً استخدامَ الشاعرةِ لما يُشبه الجِناسَ الناقصَ في لغتِنا العربيةِ في الكلماتِ التالية:" “ whirl up” في السطر الأول و“whirl” في السطر الثاني و”hurl” في السطر الخامس . وهذه الكلماتُ تُحدثُ نوعاً من الموسيقى الظاهرةِ إلى جانبِ المُوسيقى الخفيةِ في النص. والموسيقىُ الداخلية في القصيدة تنتجُ في الأساسِ من تصويرِ حالةِ الانصهارِ بين الصنوبرياتِ والبحر: تطلبُ الحوريةُ من الأمواجِ /"الصنوبر المُدبب" أن تدورَ فوقَ الصخورِ،تمامًا مثلَ "أحواضِ التنوب". لقد حدثَ بالفعلِ هذا التمازجُ بين الماء والأرض. في هذا النصِ المُختزلِ تُقدم الشاعرةُ صورةً عبارةً عن مزيجِ من الفِكر والعاطفةِ في لحظةٍ من الزمن. واستخدامُ الشاعرةِ لكلمةِ الصُنوبر،وهو نباتٌ يوجد في التضاريس الجبلية، واستدعاءُ كلمةِ "أوريد" أيضا هو استجلابٌ للمشهدِ الأسطوري . وكلمة "الصنوبرُ" تُشيرُ إلى " شِدةِ واستمرارِ التوْقِ، خاصةً لشيءٍ بعيدِ المنال". في نهايةِ النص التقاءُ الأمواجِ بصخورِ الساحلِ هو لقاءٌ مُتفجرٌ يتسمُ بالقوةِ والتآلفِ والسَكِينةِ. تقولُ الناقدةُ سُوزان فردمان:

  "إن تكثيفَ التِقنيةِ الصوريةِ يُحققُ فقط هذا الاندماجَ بينَ الأضدادِ في قصيدةِ"حورية". جمعت الصورةُ في النص تضاداً بين الأرضِ والبحر. فـ "حورية الجبل" هي الأرضُ، وبالتالي تتعرفُ على الشاطئِ وتُخاطبُ الأمواج . وباعتبارِها روحَ الأرض، فإنها تطلقُ بشكل مفهوم على سوائلِها عباراتِها الخاصة: فالأمواجُ هي أشجارُ الصُنوبر المُدورة التي تدورُ وتتعطلُ وتصنعُ أحواضاً من التنوب. هذا النمطُ من الفِكرِ غيرِ العقلاني يُعطي الحركةَ والغضبَ والسكونَ المائِيَّ للأرضِ؛ على العكسِ من ذلك، فإنه يُعطي مكانةً واستقراراً للبحر. لكنَّ هذه الصِورَ تكثفُ الأضدادَ وتُؤكدُ وتنكرُ في آنٍ واحدٍ تقسيمَ الأرضِ والبحر."(3)

على الرغم من أن "حورية " نصٌ قصيرٌ جِداً إلا أنَّه يَجْعلُ القارِئَ أمامَ تَجارِبَ إنْسانيةٍ مُتعددةٍ وتأويلاتٍ عِدَّةٍ: تناقضُ الذاتِ مع "الآخر"، الرغبةُ والمثابرةُ في نيْلِ الأشياءِ البعيدةِ والحاجةُ المُلحة إلى التنفيسِ والملاذ وكل هذه المعاني العميقة تتولد من خلال الصور المتدافعة بالنص.

وعلى الرغم من أنَّ النص يخلو من الملامح الرومانسيةَ، إلا أنَّ الصورةَ الشعريةَ استطاعت أن تثير العاطفةِ لدى القارئِ ودعوتِه للتفكيرِ والبحثِ عن معنى خاصٍ به. تعملُ الصورُ الشعريةُ كمُحفزٍ للرؤيةِ والسمعِ واللمسِ وغيرها من الحواس عبر الكلمات التالية (تدافع / رش/ البحر / اخضرارك / أحواض التنوب) . تنشأُ الصورةُ الكليةُ في النص في ذهن القارئِ، وفي أي وقتٍ يمكنُ للقارئ استدعاءَ هذه الصورةِ التذكاريةِ المُثيرة. استخدمت الشاعرةُ اللغةَ الحِسيةَ لتشكيلِ الصُورةِ . وكُلما كانت اللغةُ بسيطةً وساحرةً، سَهُلَ على القارئِ التعمقُ في المعنى وتخيلُ الصورة واكتشافُ تفاصيلِها المُضيئة.

 

حسني التهامي: شاعر ومترجم مصري

.....................

(1) https://tmpoetry13.weebly.com/imagism-poetry-movement.html

(2)Majorie Perlof , Differentials: Poetry, Poetics, Pedagogy , The University of  Albama Press copyright 2004 P47.

 (3)https://www.gradesaver.com/oread/study-guide/summary-oread

 (4) Susan Stanford Friedmanو Psyche Reborn: THE EMERGENCE OF H.D.P.57

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم