صحيفة المثقف

الحرب العالمية: ساعة الصفر في الشرق الأوسط

بشار الزبيديترجمة: بشار الزبيدي

في 8 آذار 1945 احتفلت أوروبا بالنصر على الفاشية. كان الأجواء متوترة آنذاك في أسواق دمشق. وقبل أسبوع من ذلك خرج الآلاف إلى الشوارع للمُطالبة بإنهاء الحُكم الفرنسي. وأخذ الوضع بالتصعيد خلال احتفالات النصر يومي 9 و 10 أيار. احتشد المُتظاهرون السوريون، المدعومون بعودة جنود الكولونيالية العرب الذين شعروا بالخداع من النصر، في شوارع المدينة حاملين شعارات تدعوا إلى تحرير سوريا وغيرها من البلدان ذات الهيمنة الأجنبية في الشرق الأوسط. وسرعان ما امتدت الاحتجاجات إلى مدن أخرى.

رد الفرنسيون بقيادة الحاكم العسكري المُعيّن حديثاً في دمشق، الجنرال فرناند فرانسوا أوليفا-روجيه، بكل قسوة. تم إعلان الأحكام العرفية. وتبع ذلك ثلاثة اشتباكات عنيفة. في 29 و 30 أيار، وقصفت القوات الجوية الفرنسية أجزاء من وسط مدينة دمشق، بما في ذلك مبنى البرلمان. وسقط ما بين 600 و 2000 شخص جراء القصف. العدد الدقيق للقتلى غير معروف لأن الفرنسيين ألقوا الجثث في مقابر جماعية. شكلت الاحتجاجات بداية نهاية الحكم الفرنسي في المنطقة. بعد ذلك بعام، في 15 نيسان 1946،غادر آخر جندي فرنسي بلاد الشام.

دعم النظام النازي

حدثت مشاهد مُماثلة لما حصل في دمشق في العالم الكولونيالي بأسره في الأسابيع التي تلت نهاية الحرب. ربما كانت الحرب العالمية الثانية أهم نقطة تحول تاريخية في القرن العشرين في الشرق الأوسط: فقد بدأت معها نهاية هيمنة القوى الاستعمارية القديمة بريطانيا العظمى وفرنسا في المنطقة.

كانت أجزاء كبيرة من المنطقة قبل الحرب تحت الحُكم الأوروبي. شكلت فرنسا سلطة انتداب في سوريا ولبنان. وسيطرت بريطانيا بشكل مباشر أو غير مباشر، على مصر، وفلسطين، وشرق الأردن والعراق، وما وراء هذه المناطق كان لها تأثير إمبريالي هائل في جميع أنحاء المنطقة. بعد اندلاع الحرب، عندما قاتل الحلفاء ضد قوى المحور في شمال إفريقيا، انجذب الشرق الأوسط تدريجيًا إلى الصراع. لم تكن المنطقة ذات أهمية إستراتيجية فقط بسبب حقولها النفطية، وإنما أيضًا بسبب موقعها الجغرافي السياسي. بعد غزو الاتحاد السوفياتي في صيف عام 1941، طور هتلر خطة تسمح للفيرماخت (قوة الدفاع) بالتقدم إلى الشرق الأوسط من شمال أفريقيا والجبهة الشرقية وعبر القوقاز.

دعمت برلين في الوقت نفسه انتفاضة السياسي الصديق لقطب المحور رشيد الكيلاني في العراق. ورغم ذلك، تم إحباط الانقلاب بسرعة من قبل الجيش البريطاني. هرب الكيلاني إلى برلين. بالإضافة إلى ذلك،احتلت الوحدات البريطانية وقوات الجنرال ديغول أراضي سوريا ولبنان التي تسيطر عليها فرنسا الفيشية، بينما احتلت القوات البريطانية والسوفيتية إيران المُستقلة. حتى أصبح الشرق الأوسط تحت سيطرة الحُلفاء.

أعطت الحرب العالمية الثانية دفعة قوية لجهود تحقيق الاستقلال في العالم العربي. بعثت إذاعة النظام النازي وبروباغندا المناشير المُناهضة للكولونيالية، التي تهدف إلى زعزعة استقرار مناطق ما وراء الجبهة، الآمال بين الحركات القومية المُناهضة للاستعمار. عندما دخل رومل مصر في صيف عام 1942، أعلنت إذاعة برلين الدعائية باللغة العربية أن هتلر لن يضمن "استقلال مصر وسيادتها" فحسب،بل سيحرر أيضًا "الشرق الأوسط بالكامل" من " النير البريطاني".

بينت البروباغندا الألمانية أن النظام النازي هو راعي لحركات التحرر الوطني في الشرق الأوسط. وقد دعمت هذه الجهود القادة العرب المناهضون للاستعمار الذين لجأوا إلى برلين خلال الحرب. كان أهمهم مُفتي القدس الشهير أمين الحسيني.

التحرر من القوى الإمبريالية

لكن الحلفاء أيضًا وعدوا بالاستقلال أثناء الحرب لكسب دعم العالم العربي. وقد صورت دعايتهم الصراع على أنه صراع وجودي من أجل الحرية والديمقراطية وضد الاستبداد والديكتاتورية. وقد كفل الميثاق الأطلسي، الذي تم التصديق عليه في صيف عام 1941، "حق جميع الشعوب في اعتماد شكل الحكومة التي يرغبون في العيش في ظلها. "، ووعد باستعادة" الحقوق السيادية والحكومات المستقلة لجميع الشعوب التي سُلبت منها بالإكراه " في نظام ما بعد الحرب, كانت هذه الكلمات تتعارض بوضوح مع الوقائع في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فقد أثارت الأمل في الاستقلال المُبكر في ظل الحركات المناهضة للاستعمار.

لم يكن بإمكان الجبهة المعادية للكولونيالية،التي غذتها وعود من جميع الأطراف خلال الحرب، قادرة على النصر في فترة ما بعد الحرب. كان النظام العالمي القديم يمثل التاريخ. وقد ثبت ذلك على الأقل من خلال الاحتجاجات العربية بعد 8 مايو 1945. ولكن ليس فقط الوعود التي قُطعت خلال سنوات الحرب لعبت دورًا. أدت الحرب إلى تغييرات هيكلية كان يصعب قلبها. لقد أثرت القومية المعادية للاستعمار على جميع شرائح المجتمع تقريبًا. في الوقت نفسه، أدى عبء الحرب إلى زعزعة استقرار القوى الإمبريالية البريطانية والفرنسية اقتصاديًا وسياسيًا. وقد أدى الصراع أيضًا إلى أزمة شرعية: هزت الهمجية في أوروبا الثقة بمزايا الحضارة الغربية. تم تدمير فكرة العظمة، وهي تبرير أيديولوجي أساسي للحكم الإمبريالي الأوروبي. أثار جورج أورويل عشية الحرب سؤالًا مفاده: كيف يُمكن لبلاده "محاربة الفاشية"مع إدامة "الظلم الأكبر" الخاص بالإمبراطورية البريطانية.

نتيجة للحرب، أصبحت العديد من الدول العربية في الشرق الأوسط مُستقلة. أُعلنت الجمهورية السورية عام 1946. أصبح في نفس العام الأردن مستقلًا تمامًا عن التاج البريطاني. استقل لبنان رسمياً خلال الحرب عام 1943. وانسحبت بريطانيا العظمى في عام 1948 من فلسطين. وفي خمسينيات القرن الماضي، تحرر العراق أخيراً من النفوذ البريطاني.

خطاب الهولوكوست المُتعدد الأوجه

الصراع الفلسطيني هو فصل خاص من هذا التاريخ. ارتفعت الهجرة الصهيونية إلى فلسطين الخاضعة للسيطرة البريطانية بشكل كبير في فترة ما بين الحربين وكان يُنظر إليها على أنها محاولة من أوروبا لاستعمار البلاد. وأدى ذلك إلى تزايد المُقاومة التي بلغت ذروتها خلال الانتفاضة العربية 1936-1939. حاول النظام النازي خلال الحرب زيادة تأجيج الصراع بالدعاية المعادية للسامية باللغة العربية. اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى كجزء من الاستقلال في عام 1948 وتم تقسيم البلاد.

لعبت الحرب العالمية الثانية والمحرقة اليهودية دورًا مُهمًا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في سنوات ما بعد الحرب. كان خطاب المحرقة العربي معقدًا منذ البداية، كما أوضح مؤرخا الشرق الأوسط مئير ليتفاك وإستير فيبمان في بحثهما حول هذا الموضوع بعنوان "من التعاطف إلى الإنكار". في البداية، غالبًا ما عبرت قضية المحرقة عن التعاطف والتضامن. وفي وقت لاحق كانت هناك محاولات متزايدة لاستخدام ذاكرة التاريخ في سياق الصراع في الشرق الأوسط. ازداد التسويغ وزادت الخُطب الصغيرة أو إنكار المحرقة (ومعادلة المحرقة مع اضطهاد الفلسطينيين) والتي لا تزال تتوسع حتى يومنا هذا.

هناك أسباب عديدة لهذا الموضوع. من ناحية، لدى معارضي إسرائيل في العديد من البلدان العربية فكرة أن المحرقة أدت إلى قيام إسرائيل في عام 1948 وأن الفلسطينيين دفعوا إلى حد ما ثمن الجرائم الألمانية. وبالطبع هذه حجة ضعيفة: فالحركة الصهيونية أقدم بكثير. ففي الحرب العالمية الأولى، قدمت القوى العظمى وبالدرجة الأساس بريطانيا عبر وعد بلفور - وعودًا بشأن دولة يهودية في فلسطين. بالإضافة إلى ذلك، كانت المحرقة ذات أهمية كبيرة في الخطاب السياسي لإسرائيل منذ عام 1948. وبالتالي فإن التشكيك بالإبادة النازية لليهود يبدو للخصوم وسيلة مُناسبة لمهاجمة الدولة في أسسها.

ولكن كانت هناك دائما أصوات عربية أخرى حاضرة. فقد شدد على سبيل المثال المُفكر الفلسطيني الأمريكي الناقد لإسرائيل إدوارد سعيد على "الاعتراف بالتجربة اليهودية بكل رعبها وخوفها". وإن فهم هذا الماضي سيعزز الإنسانية ويساعد على ضمان عدم نسيان كارثة مثل المحرقة وعدم تكرارها أبدًا. لا تزال المُناقشات حول المحرقة والحرب العالمية الثانية حاضرة في العالم العربي. أن التاريخ العربي والأوروبي للقرن العشرين يبدوا مكشوفًا كما لو أنه يقبع تحت عدسة مُكبرة.

 

....................

عن صحيفة NZZ  السويسرية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم