صحيفة المثقف

الصيام في رمضان مفيد أم مضر؟.. تحليل بثلاثة أبعاد

قاسم حسين صالحتوطئة: هل الصوم مفيد جسميا وطبيا ونفسيا، ام انه مضر في الثلاثة، وبخاصة.. الدماغ؟

ما ستطلع عليه الان هو خلاصة مركزة لدراسات علمية وأراء اطباء وعلماء نفس عرب واجانب. ولأننا في أول ايام رمضان فاننا ندعوك لقرائته، سيما وأن شهر رمضان هذا ينفرد لأنه يحل علينا والعالم كله في محنة فيروس كورونا الذي اصاب حتى الان اكثر من مليونين ونصف انسان وحصد ارواح اكثر من 190 ألف حالة.

*

تتعدد وجهات النظر في الصوم، ولا يعنينا هنا أمره من منظور الأديان الثلاثة:اليهودية، والمسيحية، والأسلام، التي تختلف اختلافا كبيرا في طريقة الصوم ومدته التي حددها الاسلام بشهر رمضان بكف النفس عن اللذات الثلاث (الطعام، والشراب، والجماع) في اوقات الامساك والترخيص بها في الافطار.واختلافها ايضا في فلسفة الصيام التي حددها الأمام الغزالي بقوله: (اعلم ان الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. اما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، واما صوم الخصوص فو كف السمع والبصر واللسان والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، واما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنيئة والأفكار الدنيوية.. " الغزالي: اسرار الصوم، ص:40").

ما يعنينا هنا أكثرهو التحليل السيكولوجي للصوم، نوجزه في القول بوجود موقفين متضادين من الصوم: ألأول يتبناه كتّاب وأطباء نفسانيون عرب، يرون ان الصوم يؤدي الى انخفاض مستوى الجلوكوز في المخ، فينجم عنه اضطراب في عمل الدماغ، واختلال في افرازات الهرمونات وتوقيتات الساعة البيولوجية.. لأن جسم الانسان اعتاد على ان ينشط في النهار ويستهلك طاقة، وان النوم في الليل يعمل على ترميم ما اهترأ في الجسم.. ما يعني أن الصوم، وفقا لهذا الرأي، مضر بجسم الانسان لأنه يضطره الى ان يسهر في الليل وينام كثيرا في النهار، وانه يسبب السمنة، وله انعكاسات نفسية سلبية يكفيك منها التوتر العصبي، وتعكر المزاج، والنرفزة، والصداع، والدوخة، الناجمة عن انخفاض نسبة السكر في الدم، والخلل في ايقاع الساعة البيولوجية.. فضلا عن ان الصوم يؤدي الى ضعف الأداء الوظيفي، وانخفاض الأنتاجية على مستوى الفرد والمؤسسات الحكومية والأهلية.. وقضايا اجتماعية اوجعها حسرات اطفال الفقراء واليتامى في العيد.

الموقف الثاني نبدأه بما قاله الحائز على جائزة نوبل في الطب الدكتور ألكسيس كاريك بكتابه (الإنسان ذلك المجهول) ما نصه: (إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطّل وظيفة أدت دورا عظيما في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلّة الطعام).. بمعنى ان الصوم يدرّب جسم الانسان على التكيّف في الأزمات الأقتصادية.ووفقا لما يراه هذا الطبيب فان خلف الشعور بالجوع تحدث ظاهرة اهم هي ان سكر الكبد سيتحرك، وتتحرك معه أيضا الدهون المخزونة تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد، وخلايا الكبد.. ليتحقق في النهاية الوصول الى كمال الوسيط الوظيفي للاعضاء.. ويخلص الى القول بأن الصوم ينظّف ويبدّل أنسجتنا ويضمن سلامة القلب.

وحديثا، يرى علماء نفس وأطباء نفسانيون في اميركا وانجلترا واوربا، ان بقاء الانسان على نفس الروتين والايقاع في عمل الجسم، يؤدي الى الكسل والخدر والموت قبل الآوان، فيما التغيير يؤدي الى تنشيط البدن ويمنحه حيوية تطيل العمر. وتوصل آخرون الى نتائج سيكولوجية مدهشة بأن الصوم ينمّي قدرة الانسان على التحكّم في الذات، ويدرّبه على ترك عادات سيئة، ويمنحه الفرصة على اكتساب ضوابط جديدة في السلوك تنعكس ايجابيا على شخصيته هو والمجتمع ايضا.

مثال ذلك، ان الصائم الذي اعتاد على تدخين علبة كاملة في اليوم فأن تدربه على الامتناع عنها في النهار قد يدفع به الى تركه. وقل الشيء ذاته عن آخر اعتاد على ان يغتاب او يكذب ودرّبه صيامه على الامتناع عنهما شهرا لا يوما او اسبوعا، معللين ذلك بقانون نفسي، هو: ان كثرة التدريب على سلوك جديد يؤدي الى ثباته.. وأن الصوم، بهذا المفهوم، وسيلة علاجية لمن يعانون القلق النفسي والاكتئاب.. والأغتراب الأجتماعي، والسياسي ايضا!.. غير ان ذلك قد ينطبق على المصريين ولا ينطبق على العراقيين! .

في السياق ذاته تخلص دراسة الدكتور (باري شوارتز) الى نتيجة أخرى مدهشة، هي أن نفسية الاكتئاب والإحباط ترتبط بالإفراط في الانسياق مع تيار الاستهلاك الذي اصبح ظاهرة بالعصر الحديث وصفها ايريك فروم و هربرت ماركيوز بأنها سلبية خطيرة تنخر في نفسية الانسان، وأن كبح الشهوات الغريزية والسيطرة على الرغبات عن طريق الصوم يؤدي الى خفضها. ولك ان تطلع على ما يدهشك في كتب: "الصوم" لهربرت شيلتون، و "الجوع من أجل الصحة" لنيكولايف بيلوي " و "الصوم" لجيسبير بولينغ، ".. مستندين الى ما أكدته أبحاث أنثربولوجيا الأديان بأن فعل الصوم يكاد يكون سلوكا مشتركا بين جميع الملل الدينية.

والمدهش اكثر أن مجلة (سيكولوجست) تؤكد ظهور عشرات المراكز الطبية في دول العالم، (الجمعية العالمية للصحة، وجمعية الطبيعة والصحة بكندا، والجمعية الأميركية للصحة الطبيعية، واخرى في اليابان والهند والصين..) اعتمدت الصوم وسيلة علاجية.. تسهم في ضبط الشهوات والتحكم بالانفعالات (الغضب مثلا).. وضبط اللسان حين يهم بقضم سمعة فلانه او فلان.

الصيام.. في زمن كورونا

تعددت التساؤلات وتنوعت الأجابات، دينيا وطبيا بشأن صوم رمضان في زمن فيروس كورونا المستجد. ففي القاهرة أصدرت لجنة لجنة البحوث الفقهية التابعة للأزهر، إنه "بناء على عدم وجود الدليل، تبقى أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالصوم على ما هي عليه، من وجوب الصوم على كافة المسلمين، إلا من رخص لهم الإفطار شرعا من أصحاب الأعذار.وافادت بأنها اصدرت بيانها هذا بحضور "كبار الأطباء وجهات التخصص الطبي بفروعه المختلفة، وممثلين عن منظمة الصحة العالمية وعدد من علماء الشريعة بالأزهر الشريف.

وفي تونس، أثار صيام رمضان مع تفشي فيروس كورونا، جدلا فقهيا، فبعد أن أصدر علماء جامع الزيتونة فتوى تبيح الإفطار للمصابين بفيروس كورونا فقط، اصدر

المفتي عثمان بطّيخ، قرار بأن الصوم في زمن الوباء يعود للأطباء الذين يجب أن يجتمعوا لتقييم الوضع، ونحن ننتظر أيضا القرارات التي ستصدر عن مجلس الأمن القومي، وعنده فلكل حادث حديث. وقبل ذلك لا نستطيع إعطاء أي حكم فهذا يدخل في إطار الشعوذة".

وفي العراق، اصدرمكتب السيد علي السيستاني فتوى بان وجوب الصيام في نهار شهر رمضان انما يسقط عمن له عذر شرعي كالمريض ومن يخاف - لنصيحة طبية مثلا- أن يصاب بالمرض ان صام ولم يتيسر له اتخاذ الأجراء الأحتياطي المؤمّن له عن الأصابة، والا لزمه ذلك ولم يجز له ترك الصيام.وأضاف بأن الذين يسعهم ترك العمل في شهر رمضان والبقاء في المنزل بحيث يأمنون الأصابة بالمرض لا يسقط عنهم وجوب الصيام .واما الذين لا يسعهم ترك اعمالهم لأي سبب كان، فان خافوا من الأصابة بالفيروس مع ترك شرب الماء في فترات متقاربة في النهار ولم يمكنهم اتخاذ اجراء آخر يأمنون معه من الأصابة به لم يجب عليهم الصيام، وان لم يجز لهم التجاهر بالأفطار في الملأ العام.

وطبيا اعتمدت المنظمات العالمية الموثوقة تغريدة للأمم المتحدة اوضحت فيها أن "الفكرة المتداولة بأن شرب الماء أو المشروبات الساخنة كل 15 دقيقة، كفيل بالقضاء على كورونا، غير صحيحة". مضيفة بأن شرب الماء بكمية تكفي، (8- 10) اكواب، يمكن تناولها ما بين صلاتي المغرب والفجر.

ختاما.

ان الغالبية المطلقة من العراقيين، والعرب ايضا، يفهمون الصوم على انه فرض ديني واجب ولا يمتلكون فهما بهذه القضايا السيكولوجية التي نأمل من وسائل الأعلام والبرامج الدينية في الفضائيات التقاط افكارها وأيصالها للصائمين بلغة سهلة، ليتحقق صوم رمضان بدرجاته الثلاث: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم