صحيفة المثقف

تَفْكِيرٌ في الدّين (13)

مجدي ابراهيمليس أصدق عندي من قول رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، في القرآن الكريم: "فيه نبأ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل. مَنْ تركه من جبّار قصمه الله، ومن أبتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يُخْلق على كثرة الرَّد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذْ سمعته حتى قالوا إنّا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به. مَنْ قال به صدق، ومن عَمَلَ به أٌجر، ومن حكم به عدل، ومن دعى إليه هُدِيَ إلى صِرَاط مستقيم".

وبغض النظر عن خلاف العلماء في نسبة هذه الألفاظ: أإلى رسول الله حقيقةً أم إلى الإمام على بن أبي طالب؛ فهى ألفاظ "حقيقة" وليست ألفاظ "لغة"؛ فالذي وصف به سيدنا رسول الله القرآن إنمّا هو حقائق كلها يجمعها قوله تعالى:

"وإنّه لكتاب عزيز، لا يأتيه البَاطلُ من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد".

على أن خلاف العلماء في هذا الحديث: أهو منسوب إلى رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، أم هو من كلام عليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، لا يقدح في كون ألفاظ القرآن ألفاظ "حقائق" وليست هى بألفاظ لغة. هذه واحدة.

أمّا الثانية؛ فإنّ المحققين اعتمدوا صدور الحديث عن رسول الله، صلوات الله عليه، فجاء اعتمادهم هذا مستنداً على الآية الكريمة من سورة فصّلت. ومادام في القرآن ما يؤيد نصّ الحديث فلا يعني اختلاف اللفظ فيه تضعيفه وترك العمل به.

فإذا رجعنا إلى الغزالي في كتاب آداب تلاوة القرآن من الإحياء؛ وإلى السيوطي في الإتقان في علوم القرآن، نجدهما بشأن النصّ على اتفاق فيما بينهما، ولكن السّيوطي تكلم في هذا الحديث، وإنْ ضعَّفه كثيرون؛ فقال: أخرجه الترمذي والدَّارميَّ، وغيرهما من طريق الحارث الأعور، عن عليّ مرفوعاً: سمعتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "ستكونُ فِتَنٌ "؛ قلتُ: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال:" كتاب الله ...."، ثم ذكر بقيّة الحديث بلفظه؛ بما يتبيَّن منه خواص القرآن ذاتية وخاصَّة، ولا يمكن إلا أن تكون كذلك خاصّة بالقرآن وحده تُدَلّل على شخصيته.

ألفاظ القرآن؛ حقائق لا ألفاظ لغة:

ألفاظ القرآن إذن ألفاظ "حقائق"، وليست مُجَرَّد عبارات وضِعَتْ في قوالب لغوية. غير أن هذه الخَاصَّة النبوية الفريدة يستنبطها القشيري فلا يتركها بغير إشارة، وذلك في معرض حديثه عن كثرة العبارات كونها للعموم، والرموز والإشارات للخصوص حيث يقول:" أَسْمَعَ موسى كلامه في ألف موطن، وقال نبيَّنا صلى الله عليه وسلم:"أوتيت جَوَامع الكلم فاختُصرَ لي الكلام اختصاراً ".

فكأنما يُشير من بعيد إلى أن ألفاظه عليه السلام إنمّا هى ألفاظ "حقائق" مادام قد أُعطىَ "جوامع الكلم"، وليست مُجَرَّد لغة تتردد على الألسنة دون أن تنفذ بين شغاف القلوب. بيد أنها تعبير عن "حقيقة" ربما يجهلها المرء لبعده عن ذوق طريق الله ممثلاً في العلم الإلهي من طريق كلامه، ولكونه ممَّن لا يدركون من الكلم سوى شكله البَرَّاني لا حقيقته الخبيئة، لكنه من المؤكد يعلمها فيما لو كان داخل رحاب المعيّة الإلهية ليس بخارجها.

ومن جانب آخر، يصف الأديب المصري مصطفي صادق الرافعي في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية"، مقومات البلاغة النبويّة فيقول:" لقد رأينا هذه البلاغة النبويّة قائمة على أن كل لفظٍ فيها هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم هى تختار ألفاظها اللغوية على منازلها، وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق الحقيقة المُعَبّر عنها. ومعلومٌ أنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلف ولا يتعمّل ولم يكتب ولم يؤلف، ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعاً يقبل التنقيح، أو كلمة تقبل التغيير، كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياسٌ وميزانٌ".

ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن من أوَّل وهلة: هل هذا يكفي؟ هل كل ما كان الرافعي ذكره يكفي لإماطة اللثام عن الفرق بين لفظ الحقيقة ولفظ اللغة؟

عندي أن ذلك وحده لا يكفي، ولا يُقرِّر غَوْر هذا الفرق في واقعه المُقرَّر في التاريخ وفي التجربة؛ فألفاظ الحقيقة توضحها التجارب ويثبتها التاريخ بل تثبت بالتجربة وتثبت للتاريخ؛ فنحن هنا بإزاء ثلاثة مستويات: مستوى اللفظ، ومستوى المعنى، ومستوى الحقيقة.

والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك ولا يُحاط بها كل الإحاطة، وليس يشم منها أحد رائحة سوى ما تتجلى به عليه مواهب وأسراراً من عند الله.

هنالك معاني لها؛ هذا صحيح، لكنها معاني تقريبيّة للحقيقة، أو هى صور ضئيلة جداً للحقائق، تماماً كما أن الألفاظ في مستواها إنْ هى إلا صور ضئيلة جداً للمعاني؛ فاللفظ في ذاته يصوّر جزءً من المعنى، ولا تصوّر الألفاظ المعاني كلها، والمعاني في مستواها كذلك لا تصوّر الحقائق من جميع أطرافها وجوانبها؛ ولا تدركها كل الإدراك ولا تحيط بها كل الإحاطة. الألفاظ ها هنا تقريبيّة ليس إلاّ.

وأنت حين تقول لفظة "التاريخ"، مُطلق التاريخ؛ قلت حقيقة. وحين تقول كلمة "التجربة"، مطلق التجربة؛ قلت حقيقة. ولكن الذي ينقصك التَّحقق بالتجربة والثبوت في التاريخ، فإذا تحققتَ بالتجربة وثبتَّ في التاريخ بلغت الحقيقة. لكنك حين تقول:"التاريخ المصري ليس هو التاريخ الذي يُدرَّس الآن في المدارس والجامعات!"؛ قلت "لغة"، ولم تقل "حقيقة". أو قلت لفظاً بلا معنى وبلا حقيقة؛ ليصبح الخلل وارداً بين المستويات الثلاثة: مستوى اللفظ والمعني والحقيقة، ثم لتجيء الربكة الداخلية - من بعدٌ - ظاهرة تكشف عن عطب العناية بالوظيفية الفنية والأدائية للغة.

هذه اللغة يصدق عليها الخطأ كما يصدق عليها الصواب؛ يصدق عليها الباطل كما يصدق عليها الحق. وحين تقول:" تجربتي عن هذه الحياة أنها عابثة، وكل من فيها يعبث!"؛ قلت "لغة"، ولم تقل "حقيقة". أو قلت لفظاً بلا معنى وبلا حقيقة. هذه اللغة تقبل الكذب كما تقبل الصّحة. والخطاب النبوي ليس كذلك، ولكنه خطاب حقائق، صحيحٌ كله وصادقٌ كله وحقٌ كله على الدوام. وكل ما يخالف الحق والصدق ممّا هو منسوب إليه؛ فليس منه. فهذان معياران قويمان يمكن تطبيقهما بوضوح في الفرق الفارق بين الحديث الصحيح والحديث الموضوع أو الضعيف: أعني درجة ملابسة الكلام الصادق للقرآن واتصال القول بالحق وبالصدق بعرضه على النصِّ القرآني فإن هو وافقه كان منه، وإن خالفه وأبتعد عن مرماه معنى ودلالة فليس منه. فإنّ مدى اقتراب كل من الحق والصدق من النص القرآني في الخطاب هو فيصل التفرقة بين الصحيح والمدخول. ولا يقتصر هذا المدى على درجة الاقتراب وكفى ولكن أيضاً على درجة المطابقة والموافقة معنى ودلالة، إذ كانت المشكاة واحدة، والمصدر لا شك واحد من نور واحد لا خلاف عليه. 

اللغة إذن يصدق عليها الخطأ بمقدار ما يصدق عليها الصواب. ويصدق عليها الباطل بمقدار ما يصدق عليها الحق. والقرآن نفسه يكشف عن هذا المعيار:

نتأمل قوله تعالى:"وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلكم تغلبون"؛ فماذا تجد؟ تجد اللغة هنا إتيان بالباطل من القول؛ واللغو الصاخب في أثناء القراءة صرفاً للناس عنه وطلباً للغلبة, ومثاله في القرآن كثير: أعني مثال اللغو الذي ذكرت فيه "اللغة اللاغية" بسخيف الأقوال بُله الأفعال، نماذجه في أكثر من عشرة مواضع في الكتاب الكريم، نأتي على خمسة منها فقط وبقيتها توضيح يفرضه سياق الآية في مناسباتها الواردة فيها.

ففي "القصص" آية (55) قوله تعالى:"وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهليين"؛ فاللغة هنا لغو يلحق السّماع، فبمجرَّد سماعه يستحق أن يُلغى من فوره بالإعراض عنه، والاكتفاء بالعمل خالصاً حين يشهده الله من المخلصين، ثم إبداء السلام على شرعة الإعراض أيضاً؛ طلباً للسلامة وتحقيقاً للإخلاص، لكنه هنا إعراض عن العبث وسخف القول وهما بُغية الجاهليين.

وفي "المؤمنون" آية (3) قوله تعالى:"قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللّغو مُعرضون"؛ فاللغة هنا لغو أيضاً ليس فيه فائدة لا من قول ولا من عمل، فليس اللغو هنا مقصوراً على اللفظ وكفى، ولكنه أيضاً يتضمَّن العمل؛ ولن يفلح مؤمن وهو في صلاته ليس بخاشع، وهو عن اللغو ليس بمعرض.

وفي "البقرة" آية (225) قوله تعالى:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم". اللغة فيه سَبق اللسان لغواً ممّا لم يقصد به جزم اليمين؛ فسبق اللسان باللغو بالحلفان لغة صادرة عن اعتقاد الصدق وهى تتضمّن البطلان.

وفي "الفرقان" آية (72) قوله تعالى:"والذين لا يشهدون الزُّور وإذا مَرُّوا باللّغو مَرُّوا كرامَاً": مرُّوا كراماً على ما ينبغي أن يُطرح بعيداً من قول أو فعل، مَرُّوا كراماً لأنهم ارتفعوا عن اللغة التي تصيبهم بالدُّون ممّا ينبغي أن يُلقى من الأفعال والأقوال، مرُّوا كراماً فما ينالهم إلا ما ينال الكريم من العزوف والإعراض، مَرُّوا كراماً، والكريم إذا مرَّ باللغو لم يبال بصاحبه ولا بما يلغو فيه، مَرُّوا كراماً فكرمت لديهم أنفسهم، وهان عندهم اللغو، وسقطت لديهم لغة المحجوبين.

وفي" الطور" آية (23) قوله تعالى:"يتنازعون فيها كأساً لا لَغْوٌ فيها ولا تأثيمٌ". نعم! يتنازعون في الجنة ويتجاذبون فيها الكؤوس تنازع محبّة وأنس لا تنازع شقاق وخلاف؛ كلٌّ منهم يجذب الكأس من يد صاحبه تلذُّذاً وتأنُّساً، فليس المقام مقام لغو ولا تأثيم، ولا هو بمقام لغة فاحشة وكلام قبيح، كما تفعل كؤوس الدنيا بذويها فتمنع ألسنتهم عن الصواب بعد أن تعقل عقولهم عن الصحة والسلامة. بل:" لا تسمع فيها لاغية"؛ من باطل أخرق ولا لاهية من لغو أثيم.

وعليه يتبيّن؛ أن ألفاظ اللغة ليست في كل حال صادقة، بل من اللغة ما هو باطل وقبيح، ومنها ما هو شاذ وساقط، ومنها ما يشتمل على سخيف القول وفضول الكلام. كما أن ألفاظ اللغة تلك ليست في كل حال صادقة على الواقع التاريخي الذي يشهد الحالة كما يشهد الواقعة تجربة وحدثاً في مجراه العميق الطويل. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي أختاره الله لرسالته واصطفاه لدعوته وأرسله إلى الناس كافة مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحلّ لهم الطيبات، ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، لم تكن دعوته مجرَّد لغة، ولم تكن ألفاظه كلمات كسائر الكلمات؛ ولكنها كانت "حقيقة"، كما كانت دعوته واقعاً تجري فيه حقائق الحياة والكون وتشهدها وقائع التاريخ وتجاربه الحية، ممارسة وفعلاً وحياة.

عدد الخواص الذاتية للقرآن في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تسعة عشر خاصّة؛ ما كان يمكن أن تستشعر قيمة هذه الخواص ولا واحدة منها، ولا صفاتها بغير تجربة عملية فاعلة ومباشرة مع القرآن كيما تستطيع أن تنفذ إلى أغوارها الدفينة في واقع التجربة الإنسانية أو في التاريخ الماضي أو في استشراف المستقبل. الحركة الإنسانية كلها ممثلة في تجاربها المتطورة المنظورة من الماضي، إلى الحاضر، فالمستقبل؛ كلها في القرآن؛ فالإنسان في علاقته مع الله هو هو الإنسان لا يتغير ولا يتبدل، جَرَتْ به سنة الله من زمن إلى زمن، ومن عصر إلى عصر؛ وتعاقبت عليه الأطوار والأجيال وهو هو الإنسان لا يتبدل:"سُّنَّة الله في الذين خلوا من قبل, ولن تجد لسُّنة الله تبديلاً".

والذي خلقه سبحانه لهو أعلمُ بطبيعته؛ فالنموذج الذي كان بالماضي لهو هو النموذج الحاضر وهو هو نموذج المستقبل: روح وجسد، عقل وضمير، خير وشر، إيمان وضلال، عاطفة وشعور، قلب ووجدان، ضعف وقوة، حياة وموت.

الإنسان إنسان في كل زمان ومكان لا يتغير ولا يتبدل. فإذا خاطبه رسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، بلفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، ولم يستطع فهم الخطاب أو تمثله، كان هذا الخطاب خطاباً لحقيقته الباطنة المجهولة بالنسبة له، وليس بخطاب لغة يتصرّف فيها اللسان ويلغو بقبيح القول والفعل كيفما اتفق وكيفما صار.

تلك الحقيقة الإنسانية المُعدَّة من قبل الخالق لتلقي الخطاب النبوي لهى أجدر بارتقاء النظرة وشعور التهذيب من أن يجيء الخطاب إليها مجرّد لغة وكفى؛ لغة لا تمس الحقيقة في شيء. وإنمّا هى فوق كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء، تتكشف مع قراءة الإيمان للقرآن ومعايشته وطول التدبر فيه؛ فحبلُ الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم؛ الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يُخلَق على كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه. هذه كلها "حقائق" أنت لا تشم منها رائحة ولا تدرك لها معنى بمجرد اللفظ وكفى؛ ولو ظللت كل يوم تردد اللفظ ألف ألف مرة، ما استطعت أن تصل فيه إلى قرار ما لم تتحوّل فيك الكلمات إلى حياةٍ حقيقية ومعايشةٍ فعليّة، وما لم ينقلك اللفظ إلى مستوى المعنى فترتحل تباعاً من مستوى المعنى إلى مستوى الحقيقة.

(وللحديث بقيّة)

 

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم