صحيفة المثقف

تمْثلات الحفر السرديفي المتخيل التاريخي

يحشد الروائي السوري نبيل سليمان في روايته "اطياف العرش"* أبعاداً فلسفية – فكرية – سياسية، تشتغل على الواقعية – السحرية، والموروث الديني السوسيولوجي، وذلك من خلال الاتكاء على التاريخ، وتداخل الحلم بالواقع، نتيجة وطأة الحاضر وأسئلة الراهن الملحة، كل هذا منح الروائي حرية كبيرة في الاشتغال على تقنية سردية حديثة، في استلهام وتوظيف المعتقد الخرافي والبعد السياسي، للكشف والادانة، وتعرية المسكوت عنه فيها، وهذا لا يحصل الا عن طريقة اسلوب " البناء الما بعد حداثي: الاستدعاء التهكمي الساخر المتعمد للتاريخ بأشكاله البنائية والوظيفية " 1، بهذا يجعل بالإمكان ان نطلق على رواية "اطياف العرش" رواية ما وراء القص التاريخي، حيث تتميز " بالانعكاسية المكثفة والتناصية التهكمية " 2، متضمنة مفارقة عميقة وذكية، حيث أن تسخر لا يعني أن تشوه التاريخ، والتهكم يعني أن تحتفظ بالتاريخ على الحياد وان تحاكمه معاً، وهنا ليس من الممكن تفسير الحفر بعيداً في التأويل على أساس ما يقوله النصْ أو الأنساق المضمرة له، بل الحفر ايضاً بموقف الإنسان من الحقيقة والتاريخ والثقافة، من هذا المنظور، يُعَدّ التأويل " عمل الفكر الذي يقوم على تفكيك المعنى الكامن في المعنى الظاهر، وعلى نشر مُستويات الدلالة الكامنة في الدلالة الأدبية " 3.

تتكون الرواية من خمسة فصول: التحوَل – طيف لعرش – الحورية – طيف آخر لعرش آخر – المشنقة.

منذ بداية الفصل الاول، والمْعنَون "الحوَل "، يجعلنا السارد نطلع على حيثيات تحوَل طاهر عوانة، وهو منفي في الرقة، مرتعداً من عينا رملة الأرمنية، لينبعث منهما غريباً، متجاوزاً الاطوار كلها، بمساعدة الشيخ بركات – الذي سيصبح فيما بعد مساعده ومستشاره في الطويبة – وذلك عندما يشْيع بين الفقراء بان "طاهر عوانة" باركه ولي الله الخضر وتكلم معه، ومنحه الاذن ليكون وكيله في الارض، وليصبح " في غمضة عين: معجزةَ وبدعة – ص 10 الرواية "، ويطلق عليه لقب الطويبي من قبل صادق العروضي – مساعده ومستشاره الآخر-، حيث يقوم بتهجد اسمه وهو غير مصدق مع الذي يشاركه الجسد: " أنا الطويبي. هذا هو الطويبي. الطويبي يا طاهر عوانة – ص 17 الرواية " ، وكلما يتعمق الحوار بين الطويبي الذات الرئيسة التي تمثل الانبعاث، والقوة والمال ومغامرة السلطة والتسلط الى حد التأله ومحاربة الحكومة، وبين طاهر عوانة الذات التي تمثل الانكفاء، والبساطة والمسكنة والفقر واليتم والاصابة بالصَرعَ، تخف حدة ازدواجية الذاتين المتواجدتين في الجسد الواحد، ويخف حدة الصراع، وتبقى ذات طاهر عوانة في الظل الى الاخير، ومسيطر عليها، الى حين يسوقوا الطويبي الى الاعدام. إن التوسير يقول: " إن الذات وجودُ خاضعُ مُذعن لسلطة التكوين الاجتماعي، كما تتمثل في الأيديولوجيا كذات مطلقة. وتأخذ هذه الذات المطلقة في الاعتبار " تكاثر الذات الى ذوات " 4. وتْكون هذه الذات المطلقة في ثقافتنا الدينية – الاخلاقية في البداية بوصفها الإله، ثم يتم تكاثرها من خلال الاستعارة إلى أوجه مختلفة: المرشد الاعلى - الملك – الرئيس – زعيم الحزب – شيخ العشيرة، ففي هذا يتبين لنا إن الذات التي تنبثق من تأويلية الوعي التاريخي والتي تشبه شخصية الطويبي، ليس في استطاعتها أن تفهم نفسها من " خلال مَوْضعات المعنى في كُبريات " النصوص " الأدبية، والفلسفية، والدينية، التي آلت اليها عبر تاريخ البشرية " 5.

ازورَ الطويبي وردد: ماذا تنتظرون؟ هجم صوت عوانة من جسر على الفرات إلى صدر الغرفة: أن تعود إليَ. ازورَ متأوهاً: عمرك ما فرقتني. لا أنت قدرت ولا أنا. كنتُ ميتاً فيك وكنتَ حياً فيّ – ص 187 الرواية.

هذه الازدواجية " كنتُ ميتاً فيك وكنتَ حياً فيّ "، لو دققنا فيها قليلاً، لكنا علمنا لماذا قال الطويبي ذلك رغم رغبة طاهر في عودة الطويبي داخله، اي الغاء الانسلاخ، الغاء الانقسام، العودة الى التوحد، والتجلي في التفرد، ولكن بسبب المرجعيات الدينية – السوسيولوجية – الايديولوجية، يبقى الانشطار، وتبقى حواريات الصوت الواحد المنشطر، لأن الروائي " لا يستأصل نوايا الآخرين من لغة أعماله المتعدِدّة الأصوات، ولا يُحطم المنظورات والعوالم، والعوالم الصغيرة الاجتماعية – الإيديولوجية التي تكشف عن نفسها فيما وراء التعدد الصوتي: إنه يُدخلها إلى عمله "6.

مما يعني ذلك، انسلاخ الذات عن صاحبها ! أن طاهر عوانة بوضعه الحالي الجديد ليس هو طاهر عوانة الهارب من الخدمة العسكرية، والمنفي في الرقة، انه التحوّل في اعلى مراتبه السايكولوجية ! وهو ليس تبدلاً جسديا بل تبدلاً ذاتياً (وليس انفصاماً لان الشخصية المنفصمة لا تعلم بما تفعله الثانية)، تبدل الذات في التفاعل والاتصال مع الاخرين والعالم، مما يسفر أمكانية تواجد هذه الذات في حضور الذوات الاخرى،ولكن في اختلاف الرؤية والفعل.

نستطيع أن نتعرف على الكيفية التي تصغي بها ادراكات طاهر عوانة المتغيرة للذات وهو بجانب مرقد النبي يحي، عندما يصرخ به:

من أكون ؟ ص18 الرواية.

هذه الجملة، تجعل المتلقي يتسأل، لماذا لم يقل " أنا اكون " بدلاً من " من أكون "، رغم أن جملة " أنا أكون " فيها من العمق الابستمولوجي والسايكولوجي الشيء الكثير، لقد وردت في سفر الخروج، عندما خاطب الله النبي موسى " اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به " 4 / 12، وبهذا التفسير نستطيع أن نجمع، الجملتين، التأكيد المطمئن: " أنا أكون " والشك المؤلم: من أكون ؟ "، ولكن ما دامت الأنا في وضعية التيه، يبقى التساؤل مشروع، وتبقى الاجابة قائمة، ولأن وَهْم وعي الذات متشبث بـ الأنا، يكون التيه مصيرها كما قلنا، " إن الوعي، كما يقول التحليل النفسي، " يقاوم " فهم نفسه، وقد كان يرفض أن يعرف نفسه في هذا الرجل الذي كان هو ذاته يلعنه. فمعرفة النفس هي المأساة الحقيقية، وأما مأساة الوعي – مأساة الرفض والغضب – فتضاعف مأساة البدء، مأساة الكينونة أن يكون ما هو عليه " 7، وذلك لأن من شْكّل وعي هذه الشخصية هي المرجعية الدينية، التي كان يمثلها الشيخ بركات بكل تخلفها وتحجرها وقبحها، فقد نقل الشيخ بركات للصبي المصروع طاهر عوانة ما يعرفه من معلومات خرافية، اسطورية مظللة، وهي بالأساس تتسم بكونها متطرفة، متحجرة، مشوهة، لينبثق منها الطويبي، بعد أن ادعى اتصاله بالخضر، ومن ثم تقمصه للولي " ابو العباس الطويبي "، يبدأ بالتبشير بدين جديد، قائم على وعي مزيف ميتافيزيقي، ليس له اية علاقة بالواقع، مستخدماً الاوهام السابقة على المعرفة، ولكن لولا الشيخ بركات لما كانت هذه الشخصية، فهو المعلم له في الاول، والداعية / المْبشّر له الى الأخير، في دروس الشعوذة والاحتيال على الفقراء باسم الخطاب الديني:

" وبين شفاء وشفاء أخذت الطويبة تصدق الشيخ بركات:

طاهر عوانة يكلم سيدنا الخضر، سيدنا الخضر مسح على الجبين المحموم فطهّره وأبرأه. وعلى هون ألفَ طاهر عوانة أن يرى وجوهاً خائفة ومتلفعة لرجال ونساء آوته صغيراً أو أنكرته، تطوف بالبيت الذي تقدس، وترنو الى السقف – ص 8 الرواية ".

" ومثل عيني رملة يَصدُق الشيخ بركات: الماء ينقط من السقف، وربما اللبن. صوتُ جليل يهتف بالناس الذين تكوموا قبل طلوع الشمس: هذا هو الكوثر الذي توعدون – ص 9 ".

" ويقسم له أمام الناس أنه رأى سيدنا الخضر في المنام يطير بين الجبل والبحر هاتفاً: هذا رسولي اليكم – ص 9 الرواية ".

"أما الشيخ بركات فيبدل القربة التي أخفاها السقف بأخرى أكبر. وبدلاً من ثقب واحد للأولى يجعل للأخرى ثقبين – ص 12 الرواية".

بهذه الاحترافية في التدليس والخداع والغش والكذب على اهل الطويبة، امتلك الطويبي القوة والسلطة والاعوان، الذين يسميهم صادق العروضي " الأنوار "، ويكبر نفوذه ويتعاظم، مع دينه الجديد، فَيصبح خطراً على الدولة التي تحاول أن تأمن جانبه الى خروج الاحتلال الفرنسي، لتتبدل اللعبة.

لقد قام الروائي نبيل سليمان، في رسم شخصيات الرواية، في ادق التفاصيل الصغيرة، واظهارها على حقيقتها المخيفة، من خلال دلالة الاسماء التي لعب عليها، حيث جعل الدال عكس المدلول، اي ان يأتي فعل حامل الاسم عكس الاسم المحمول، في دلالة مقصودة محسوبة: طاهر- مدنس، بركات – لعنات، صادق – كاذب. هذه العملية شملت الاسماء القريبة من الطويبي فقط، اما بقية الاسماء الاخرى فجاءت اعتيادية، ففي هذه التقنية السردية الرمزية المتسمة بالتداخل النقدي- الابستمولوجي، تكشف للمتلقي عمق التمزق في الوعي والازدواجية الوجودية، وسيطرة المعتقدات الغيبية التي تدفع الناس البسطاء للخضوع المطلق للطويبي وتنفيذ كل ما يطلبه منهم.

تنحصر احداث الرواية، ما قبل الحرب العالمية الثانية، والى ما بعد انتهائها8، ويمكن تقسيم الأحداث المتوالية في " اطياف العرش " إلى أحداث جرت قبل الحرب وأحداث جرت بعدها، ولكن لاستحالة مطابقة الوقائع الموجودة في الرواية مع أحداث الزمان التاريخي الفعلي، ما يحدث هو العكس تماماً، لأن السارد وبقية الشخصيات الأخرى هم محض تخييل روائي، لذا " فإن جميع الإحالات إلى الأحداث التاريخية الواقعية مجردة من وظيفة تمثيل الماضي التاريخية، وهي موضوعة على قدم المساوة مع الأحداث اللاواقعية الأخرى، فالإحالة إلى الماضي، بعبارة ادق، ووظيفة التمثيل نفسها يتمّ إدراكهما ولكن على نحو تحييدي، مشابه للطريقة التي يصف بها هوسرل المتخيل ويحدد خصائصه، وبهذه الطريقة يمكن ايضاً إفراغ كامل نطاق الأدوات التي تفيد في علاقة الترميز أو التمثيل، واعتبارها عملاً من أعمال الخيال " 9.

إن الايديولوجية الدينية رغم اشتغالها بالأساس على الميتافيزيقيا واساطيرها وعلى تكريس الخرافة، ستبقى مترابطة، ومتحالفة، ومتداخلة مع السياسة التي تشتغل على الواقع، نتيجة لذلك تنشأ الأحزاب الدينية - السياسية المتطرفة، وهنا نرى أن لعبة الطويبي السياسية، قد تأثرت بازدواجية الشخصية الواقعة بين التمرد والخنوع، وبمواقف زوجته حورية، وبعض اعوانه، وموقفه الضبابي تجاه الحكومة والانتداب الفرنسي، وعدم استطاعته التوفيق في التعامل معهما، ادى به ذلك الى أن يخسر الاثنين ( ص 113،114، 124،125،135 )، مما جعلت القرارات السياسية المتخذة من قبله تقع بين الحماقة والحكمة والذكاء:

"قال المحافظ:

-فرنسا الآن ضعيفة ياطويبي. أظنك تعرف ما يجري في أوربة. وكل ذنب يغتفر مهما عظم إلا ذنب واحد، ما يضرّ بوحدة البلاد واستقلالها لا يغتفر. تذكّرْ ما انتهى إليه الآخرون حين كان لفرنسا قوتها، فكيف الآن وهي تشد الرحال ؟

سأل الطويبي لهفان:

-من قال إني ضد وحدة البلاد أو ضد استقلالها؟

قال عبد الحليم آغا:

-كفَ إذن عن اللعب مع الفرنسيين. كفَ عن التطاول على سلطة الحكومة من هنا إلى حدود تركيا - ص 117 الرواية ".

لقد عمل الروائي بقصدية على عدم استطاعة المتلقي، الاحاطة بأية شخصية، أو أخذ فكرة شاملة عنها، الا بعد قيام المتلقي بقراءة متمعنة،جدية، عميقة للنصْ كله، عندئذ تتضح الصورة وتتبلور، لأن الصورة التي تُستنتج من ذلك،هي تكامل وضوح الصورة للشخصية الروائية من كافة الابعاد: السوسيولوجية – السايكولوجية – السياسية – المعرفية، من هنا يجب " فهم الهُوية الإنسانية بوصفها هُوية سردية أساساً، إنَ نظرية السرد التاريخي، التي تطوّرت بعد الثمانينيات، ستسمح بتبنّي إجابة جديدة عن السؤال في كّل فلسفة تامّلية: من أنا " 10.

ومثال على ذلك، من الشخصيات التي كان لها حضوراً طاغياً في الرواية وفي مسار الطويبي، وفي مسار السرد المتخيل، هي حورية المرهج، زوجته الرابعة، اذ يفرد الروائي لها فصلاً كاملاً باسمها، وللنهاية نرى أن لحورية الكلمة المسموعة لدي زوجها،وتدخلها في اتخاذ القرارات المصيرية، والتصرف حسب اهواها دون الرجوع الى أحد في احيانا كثيرة (ص 126 – 127 – 128)، هي الحالمة القوية، بالإضافة الى بقائها عند الطويبي هي الاحب والافضل والمدللة، عكس زوجاته الثلاث الأخريات: رملة الارمنية، ناهي بنت ناصر ميمونة ‘ غزالة بنت الشيخ ناظر، اللواتي يضلن في الظل ولا أي دور لهن بتاتاً، مجرد زواج مصلحة في تحقيق مآرب الطويبي، و للتمتع بهن كما آمر دينه:

" بدأت تضيق بامتلاء وركيها ونفور حلمتيها. ولم تلبث أن تكومت، تحت اللوكس وفي لجة النهر، تنتظر الرجل الذي نزل الهويني محمحماً مثل حصانه ، وانقادت إلى كفّ لدنة حارقة، والحلمتان المنتصبتان تتعجلان شفتين وأسناناً. نادى الطويبي بالناس أن حورية هو، وهو هي، ولا يكاد يخلو لهما البيت حتى تهصره بين فخذيها القاسيين، وتطلق شهيقه، فيلفظ الروح على صدرها، وينام – ص 87 – 88 الرواية ".

ولكن حالما يختلف معها في الرؤية للوضع الذي هم فيه، واستسلامه للحكومة في تنفيذ الاقامة الجبرية في بيروت، تعلن العصيان والتمرد ضد سلطة الحكومة، وهذا هو السبب الذي يجعل فوكو يقول بأن كل علاقة سلطة يمكن أيضاً التحاور معها بصفتها إستراتيجية صراع، " إن كل إستراتيجية مواجهة تحلم بأن تصبح علاقة سلطة، وكل علاقة سلطة تميل نحو فكرة أنها يمكن أنها تصبح هي الإستراتيجية الرابحة، إذا ما تابعت خط تطورها الخاص في أن تكون معترضة بواسطة المواجهة المباشرة " 11، وخاصة إذا كانت المواجهة غير متكافئة بين الطرفين، مؤسسة حكومية تمتلك المال والاسلحة والعتاد والجيش مع فرد لا يمتلك غير الوهم والحلم، وُيبّشر بالميتا خرافة ويدعو لها !.

لقد كان القتل من نصيب مساعديه، وزوجتيه، فصادق العروضي، مهنته كانت: الحدادة والبيطرة وحارس في الطويبة، ثم الداعية، شخصية انتهازية،وصولية، جشعة، مخادعة، فهو الذي يدبر قتل الشيخ بركات خنقاً، لكي ينفرد بأموال الضرائب والإتاوات المفروضة على الفلاحين، ولكنه يقتل على يد الطويبي بعدما يعلم بأن من عاشر زوجته الصغرى شهلا هو صادق وليس الفتى الخادم، بعد أن قتل شهلا تنفيذاً لأمر الطويبي، وحورية تقتل بيد الطويبي الذي سيحكم بالإعدام.

لعل البعض يتسأل لماذا هذا القتل المجاني؟! هل هو تطهير لما اقترفوه؟ هل هي عقوبة؟ هل موتهم جاء تحصيل حاصل؟ " ولأن السرد التاريخي يمنح سلسلة من الأحداث الواقعية تلك المعاني الموجودة فقط في الأسطورة والأدب،ولذلك، بدلاً من النظر إلى كل سرد تاريخي على أنه ذو طبيعة أسطورية أو أيديولوجية، ينبغي أن نعتبره مجازياً، بمعنى أنه يقول شيئاً ويعني شيئاً آخر " 12، وهنا يأتي دور المتلقي في القراءة بين السطور، كي يكتشف الدلالات العميقة، وأن يجد لها أجوبة عن طريق التأويل المتعدد الحامل للمعاني المختلفة.

ولعل بعض القراء يتسأل، هل شخصية طاهر عوانة تمثل شخصيتين مستقلتين؟ أم شخصية واحدة؟ لقد اعتمد الروائي على المتخيل السردي في تركيب شخصية طاهر، اي على الواقعية السحرية التي تقوم على أساس مزج عناصر متقابلة في سياق العمل الأدبي، فتختلط الأوهام والمحاولات والتصورات الغريبة بسياق السرد، وهي بالأساس تستمد عناصرها من المتخيل، عليه تكون شخصية طاهر، شخصية واحدة، ولكن من خلال الحوار الداخلي، أو المنولوج، يظن المتلقي أن هنالك اثنتين، بينما السارد أو طاهر ذاته يعرف بأن الطويبي وطاهر هما واحد فعلياَ في شخصية واحدة، ولكن بسبب الصفات التي يتصف بها طاهر من احباط وتردد وضعف وعدم المواجهة، يرتدي قناع اسمه الطويبي والذي يتمتع بصفات بالضد من طاهر، عليه تكون هنالك ذات حقيقية / خاتلة وذات وهمية / بارزة، لذا يبقى طاهر متوارياً وراء الطويبي، " فليس هناك شخصيات خارج الفعل، ولا فعل مستقل عن الشخصيات " 13، شخصية واحدة وفعل واحد، لكن هناك صراع سايكولوجي ما بين النكوص والتغيير داخل الشخصية:

" قال طاهر:

-نفسي يا سيدي تنخلع من بدني مثل السيخ. الأرض تهتف بي يا سيدي: لا مرحباً بك ولا أهلاً. كنتَ أبغضَ من يمشي على ظهري، والآن وقد وليتك فانظرْ.

طوّح الطويبي به صارخاً:

-وعما قليل يوكل بروحك ثلاثماية شيطان ليس فيهم من لا يبصق في وجهك. عما قليل تطويك حفرتك حتى يخرق كل ضلع فيك أضلاعك كلها، وينفتح عليك باب للنار يهمي بقيحها ولهبها، وهذا أهون الجزاء.

نبحَ طاهر:

-أه يا سيدي. أعلم أعلم.

وزحف من الفراش إلى وسط الحصير منادياً:

أين أنت الآن يا طاهر عوانة؟

تربّع طاهر على طرف الحصير. سُرّ الطويبي وقال برقة:

-اقتربْ. لا تخفْ بعد الآن. ما زال الحساب بعيداً. ص 19 – 20 الرواية ".

انظر هنا بتمعن عندما يقول لقرينه " والآن قد وليتك فانظرْ "، ولاه على ماذا؟ يكشف هذا المقطع عن حوار يتسم بالمكاشفة والحساب، اي العمل على طمس فعل طاهر القديم، لاستحداث فعل مغاير مختلف.

ومن خلال قراءتنا لرواية "اطياف العرش"، نعثر على دلالات كثيرة فيها، تتنبأ بظهور التنظيمات الاسلامية المتطرفة، مثل داعش والنصرة.

 

أسامة غانم

......................

الهوامش والاحالات:

* رواية اطياف العرش " نبيل سليمان، منشورات الاختلاف / الجزائر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت – لبنان، 2010.

1- ليندا هتشيون – ما وراء القص: السخرية والتناصْ مع التاريخ، ترجمة: آماني ابو رحمة، المجلة الثقافية الجزائرية 6 / 2011.

الدراسة فصل من كتاب " جماليات ما وراء القص: دراسات في رواية ما بعد الحداثة، مجموعة مؤلفين. ترجمة أماني ابو رحمة، دار نينوى للنشر والتوزيع.دمشق – سوريا، 2010.

2- م.ن.

3 – جان غروندان – التأويلية، ترجمة: جورج كتوره، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت - لبنان، 2017، ص 84.

4- برندا مارشال – تعليم ما بعد الحداثة: المتخيل والنظرية، ترجمة وتقدم: السيد إمام، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010، ص 117.

5- جان غروندان – التأويلية. ص 93.

6- ميخائيل باختين – الخطاب الرّوائي، ترجمة: د محمد برادة، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2009، ص 122.

7 – بول ريكور – صراع التأويلات: دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة: منذر عياشي، مراجعة د، جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة،بيروت – لبنان، 2005، ص 195.

8- كانت الحرب العالمية الثانية قد ألقت بظلالها على العالم آنذاك، ودخلت قوات الحلفاء في حرب مع قوات المحور، وشهدت سوريا صراعا بين القوات الفرنسية التي كانت تابعة لحكومة فيشي (الموالية للألمان) وقوات حكومة الجنرال ديغول (المتحالفة مع الحلفاء) حيث تمكنت القوات المتحالفة من إخراج قوات فيشي من سوريا في يوليو/ تموز 1941، وعلى إثر ذلك أذاع (ديغول) بيانه الشهير الذي وعد فيه سوريا ولبنان بالاستقلال وحق تقرير المصير.

وبناء على ذلك، أجريت عام 1942 انتخابات نيابية فازت فيها الكتلة الوطنية، وفي أغسطس/ آب 1943 انتخب شكري القوتلي رئيسا للجمهورية السورية، وتألفت حكومة جديدة برئاسة سعد الله الجابري. ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، حاولت فرنسا أن تعيد سيطرتها الاستعمارية على سوريا، فاندلعت الاضطرابات في كافة أنحاء سوريا، وواجهت فرنسا الاحتجاجات بقوة مفرطة، مرتكبة مجازر ضد المدنيين.

ورغم توالي الأحداث صعودا وهبوطا، إلا أن القدر حمل لسوريا بأيدي أبنائها الكثير بعدها، حيث تتويجا لنضال طويل مليء بالتضحيات، خرج آخر جندي أجنبي من الأراضي السورية في 17 أبريل/ نيسان 1946.

9 – بول ريكور – الزمان والسرد: الزمان والسرد ج 3،، ترجمة: سعيد الغانمي، راجعه عن الفرنسية: الدكتور جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت – لبنان، 2006،ص 190- 191.

10 – جان غروندان – التأويلية، ص 92.

11- برندا مارشال – تعليم ما بعد الحداثة، ص 153.

12 – هايدن وايت – محتوى الشكل: الخطاب السردي والتمثيل التاريخي، ترجمة د نايف الياسين، مراجعة د فتحي المسكيني، هيئة البحرين للثقافة والاثار، المنامة – البحرين، 2017، ص 120.

13- تزفيتان تودوروف – مفهوم الأدب، إعداد وترجمة: د. منذر عياشي، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق – سوريا،2017، ص 103.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم