صحيفة المثقف

لقحونا وإجعلونا عبيداً لكم!!

جمال العتابيمقاربة في (العالم الطريف) للروائي ألدوس هكسلي .. وعالم الكورونا

رواية (العالم الطريف) للروائي الانكليزي ألدوس هكسلي صدرت عام 1931،أعادت طبعها مؤسسة المدى عام2006، ويعد الدوس هكسلي (1894_1960) أحد الكتاب البارزين في العالم، كتب روايات وقصصاً قصيرة، هيمنت عليها القضايا الإنسانية، كان مثقفاً بارعاً معادياً للحروب، له تأثير واضح على جورج أورويل مؤلف رواية 1984.

والروائيون من هذا الطراز إكتشفوا الواقع الإنساني بكل تضاريسه، وعبّروا عنه بأساليب تفوق أحياناً على تلك يلجأ اليها علماء الأنثربولوجيا والفلاسفة، وخلافاً لوعود هؤلاء بمستقبل مشرق، إعتماداً على العقل ومنجزات التقدم العلمي، حذر الروائيون من مخاطر مقبلة تهدد الوجود الإنساني، بمواضيع عميقة في الحياة، مشبعة بخيال ثري، وفي سياقات نصوص سردية، بما يجوز أن نسميه مقاربات سايكولوجية وأنثروبولوجية، تعتمد على ما تختزنه عقول مبدعيها من معرفة وإنشغالات جادة في تلك الأجناس الأدبية، وعلى مدى العصور قدم الروائيون أعمالاً مميزة أسهمت بتطور الأدب العالمي بأسره.

رواية (العالم الطريف) قصة خيالية تصف عالماً جديداً تصوره هكسلي، يقوم كل شيء فيه على أسس مقننة، حتى الأطفال لا يولدون بالطريقة البشرية الطبيعية، بل يولدون داخل قوارير في معامل خاصة. عالم المستقبل الذي يتحكم فيه العلم، لا مجال فيه للعواطف، انه عالم ممل سخيف، يسخط عليه هكسلي، بأمل إنقاذ البشرية منه قبل فوات الأوان، في العالم الجديد يفقد الفرد حريته، ويقوى نفوذ السلطة لتعيد صبّ الناس في القوالب التي تريد، وإلغاء صفة التفرد الإنساني، وإخضاع التنوع الإنساني إلى لا إنساني، أو تطويع الحرية للعبودية.

يتخيل الروائي أن يلجأ العالم في المستقبل إلى إستخدام وسائل كيمياوية معينة توجه العقل وجهة معينة، أو تجعله قابلاً لإطاعة الأوامر في يسر ودون مقاومة، العقار الكيمياوي المتخيل في العالم الطريف يسميه هكسلي (السوما)، يخدر العقل بغية تعطيله عن الإعتراض، ويمنح الشعور بالسعادة لمن يتعاطاه بجرعات صغيرة، كما يمنح المرء رؤيا خيالية بجرعات أكبر، دون آثار فسيولوجية أو عقلية ضارة، وبهذه الطريقة يمكن لسكان العالم الجديد أن يغيبوا في إجازة عن حالات الحزن ومضايقات الحياة اليومية، وبإمكان الدكتاتور أن يستغل العقار لأغراضه السياسية، التأثير على كيمياء الأذهان، ليجعل أصحابها راضين بحالة العبودية.

ان السؤال الذي يختتم به هكسلي روايته: ماذا عسانا فاعلين إزاء المشكلات التي تهدد العالم؟ يقودنا الى عدة أسئلة أوسع وأعمق، بالأحرى إلى منظومة أسئلة شائكة ومعقدة، ليس منها ما يتعلق بالجانب السردي او الفني في الرواية،

انما تلك التي تواجه جدوى التقدم العلمي والتكنولوجي وإنفجار الثقافة المعلوماتية ومقولات (نهاية التاريخ) وموت الحداثة وسواها، وأحدثت جدلاً ما يزال مفتوحاً، يزيد من واقع الإضطراب والإزدواجية، في المواقف بين التشبث بالماضي والقدرية، وبين إنبهار بحياة الغرب بإعتبارها قيمة كونية.

ماذا عسى العالم أن يفعل؟ بإعادة ترتيب سؤال هكسلي بالمقلوب، أمام التحدي الأخطر (الجائحة)؟ هل يمكننا تصديق (نبؤة) روائي أطلقها قبل تسعين عاماً محذراً البشرية من خطر قادم يعصف بالحياة ويكتسحها؟، وهل يصح القول ان المخيلة الروائية تتحول الى حقيقة، يقف أمامها الإنسان عاجزاً وخائبا؟ رغم كل ما توصل اليه من تقدم وإنجاز علمي وتكنولوجي، لم يمكنه من إنقاذ البشرية من محنة وجودية! لا يلتفت فيها مشعلو الحروب إلى أعداد الموتى! والممكنات حائرة وشاردة.

أوما كفى الرأسمالية ومضارباتها في سوق (الدواء)، لا العلاج! ان تتوقف عن إبتزاز الإنسان وتعيد حساباتها من جديد؟ غير آبهة بمشهد بيت يحترق، لا سبيل للبشرية أمامه، إلا أن تستعيد الألم بمفارقة تشبه المعجزة في إحتمال الحياة، كيف لفعل القتل(الحضاري) أن يقايض أرواح الملايين ليظفر بنجاح بائس في بورصة التآمر.

البشرية في حالة نزال مخيف على مسرح كبير هو كوكب الأرض، في ظل نظام دولي جديد فقد توازنه وإهتزت أركانه، يكاد هو (العالم الطريف) الذي تخيله  هكسلي في الرواية، يشعر فيه الإنسان بالعزلة والتفاهة، لا يجد فيه معنى لوجوده، والحكام المستبدون عاجزون من توفير الخبز للجياع الذين(يضعون حرياتهم تحت أقدام من يحكمهم كما عبّر عنه ديستويفسكي في إحدى رواياته بالقول: اطعمونا وإجعلونا عبيداً لكم).

في الثلث الأول من القرن الحادي والعشرين، ما الذي تغير في هذا النداء المرير؟ من يعين البشرية اليوم وهي تستعيد الإستغاثة من جديد، لم تستبدل  في النص سوى مفردة واحدة منه، ليكون نداء الإنسانية : لقّحونا، وأجعلونا عبيداً لكم

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم