صحيفة المثقف

تفكيرٌ في الدّين (14)

مجدي ابراهيمألا ينتهي هذا التفكير في الدّين؟ وكيف ينتهي التفكير في الدّين والروح محبوسة في إطمار الفاقة الجسدية؟ وليس لظمأ الروح عندنا من سلوى سوى هذا التفكير. ولا بدّ من نهاية من جانبنا على أقل تقدير. ولقائل أن يقول: خزلتَ كل التفكير في الدّين الإسلامي، والتفكير نفسه أوسع من الدين الإسلامي وأعمّ وأشمل من ذلك بكثير وهل يقتصر التفكير في الدين على الإسلام وحده أو على القرآن مهملاً سائر الأديان والعقائد الأخرى؟

بداهةً، لا يمكن لباحث في القرآن أن تغيب عنه مثل هذه اللفتة، غير أن المنطقة التي نتحدّث منها ولا نغفلها لم تكن بغائبة عن هذا التفكير، وعلينا من ثمّ تحديدها بما يناسب علة هذا التفكير، وبما يخضعه لها من حيث كونها مبعث شمولٍ لحركة الوعي الخاصّ بها على الجملة فضلاً عن التفصيل. لم تكن منطقة الإظهار في القرآن بالمنطقة التي ينفصل فيها الوعي الكوني عن هيمنة المقدّس واحتوائه.

منطقة الإظهار:

في القرآن قوله تعالى:"هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً". من هذه المنطقة يظهر الدّين الحق برسالة الرسول الخاتم مهيمناً على سائر الكتب السماوية الأخرى بمطلق ما جاء فيه من هدى ومن دين الحق. وعليه؛ يصبح التفكير في الدين هو بالأساس تفكيرٌ في القرآن مع كفاية الله للشهود الذي أرسل، وللهداية التي أوجبها، وللدين الحق الذي ارتضاه. وما دام تفكيراً في القرآن فهو لا شك تفكير يصدر عن منطقة الإظهار. تلك المنطقة التي أرسل الله منها رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله؛ فالتفكير فيها ومنها هو تفكير بهذه المثابة في الدين كله، بمشكاةٍ من الوعي النبوي، على هداه، وعلى شرطه، لا على هدى غيره ولا على شرط سواه.

قراءة الإيمان للقرآن:

على هذا الشرط، يلزم لقراءة الإيمان للقرآن أن نستحضر منهج المتصوفة الذوقي في الجلوس مع الله على بساط الفكرة فيه ومن أجله؛ تمييزاً له عن مناهج المتكلمين والنّظار من جهة، واستشعاراً لتلك القراءة الإيمانية للقرآن تجربة وحياة من جهة أخرى؛ فكيف يقرأ الصوفي القرآن؟

يستمد التصوف أصوله من التأمل في الآيات القرآنية، والعمل بها، واستنباط معانيها، فضلاً عن استبطانها ومعايشتها من الداخل؛ فما من موضوع من موضوعاته إلا ويرتكز على فهم خاص للآيات القرآنية. يظل الصوفي على الدوام شاعراً بكل حرف من حروف هذا الكتاب العظيم، وبمقتضى قوته الإيمانية يستطيع أن يتحسَّس معانيه عندما يتلوه بتروٍ، وهدوء، وصفاء، وطمأنينة. يُكْثرُ الصوفي من ترديد آيات الكتاب المبين ترديداً ينقله من حال إلى حال؛ وفي كل تلاوة صعود في معراج، وفي كل ترديد حضور مع الله. لا يتلو القرآن على غفلة؛ لأن الغفلة عنده تحجب "اللحظة"! لحظة غيبته عن الكُلِّ وغيبة الكُلِّ عنه، وتوحُّده مع الكُلِّ وتوحُّد الكُلِّ معه؛ إنها للحْظة من أرقى اللحظات تعرفها القلوب ساعة أن تكون مع كلام الله شاعرة حيّة بخطابات التأنيس.

لا يتلو الصوفي القرآن على غفلة ولكنه يردده تدبراً وتفكراً وحضوراً، ويتلون في أحواله بتلون الواردات عليه؛ ومع كل معنى يرد عليه يظل الصوفي في حالاته عارجاً إلى إصابة المعاني الداخلية فيه، مستشعراً آفاقه العليا وأجواء المعاني فيه، قاصداً غاياته العلوية ومراميه الباطنة؛ وهو في ذلك كله على يقين من أنه لا يستطيع أن يصل إلى معنى واحد من تلك المعاني الفياضة عليه مواهب ومنناً لدُنِيَّة؛ بغير معونة الله، وبغير فتح من عند الله.

يجلس الصوفي مع الله على بساط الفكرة فيه وفي آياته؛ يرددها من دخائل روحه وبواطن ضميره، ويتعمّق آفاقها الروحية المتسعة بسعة الله وعلمه، إذْ القرآن كلام الله؛ والله واسع عليم، فالصوفي ينهج منهج القُرْبة من الله فيتقيه، ففي تقوى الله علوم؛ وعلوم التقوَى تفاضُ فيضاً من فضل الله من طريق العناية والموهبة والتوفيق. منهج الصوفي هو التقوى:"واتقوا الله ويعلمكم الله". وكلما وَصَلَ إلى معنى منها أو إلى أفق، أزداد يقيناً في تجربته مع الذكر الحكيم بصواب منهجه في التلاوة وطريقه في التعبُّد. قراءة القرآن لا تخلو منها تجربة الصوفي؛ إذْ القرآن أصلٌ أصيل في أركان هذه التجربة .. ثم ماذا؟

يمضي الصوفي ليزداد يقيناً، وكلما كثر مضاءه في الفهم وزاد ترديده الباطني لآيات القرآن، كثرت بالتالي فيوضات المعاني الواردة عليه وزادت؛ من طريق الفتح الإلهي ومن طريق التعريف، وبعد كثرة الترديد في هدوء وصفاء وطمـأنينة وثقة منه بفضل الله بما شاء أن يفهم - وهو لا يفهم إلا بتوفيق من الله - يحاولُ الصوفي أن يفهم الآيات من داخلها لا من ظاهرها، يسبر غوْرَها ببصيرة مفتوحة على الجناب الأعلى، ويستلهم إدراكاتها من ذاته كيما يقترب شيئاً فشيئاً من أجوائها العليا ومراقيها الصاعدة .. الصوفي على قناعة تامة بأن الناس محجوبون بألفاظ القرآن وعباراته عن معانيه الباطنة، وهو من أجل ذلك يشرع في فهم القرآن كأنه يتلقاه لأول مرة، كأن لم يسمع به من قبل، ولم يأخذه عن أحد، ولم يقرأه في السابق إلا في تلك "اللحظة" التي انفتحت فيها سريرته الباطنة مع ترديد الآيات ترديداً لم يسبق له من قبل؛ يقرأه وكأنه يتنزّل عليه للمرة الأولى؛ يفهم آيات القرآن لا من كتب التفاسير ولا من شيوخ عليه سابقين، ولكنه يفهمها (حالة) بفضل من الله ومعونة، يفهمها بصورة إجمالية بعد طول النظر وشدّة التفكير وبعد كثرة الإمعان الدائم في معرفة المعاني الواردة عليه من تلقاء الجلوس مع الله على بساط الفكرة فيه، والتأدُّب في حضرته، وشرط ذلك كله أن يضع الصوفي هذه القاعدة نصب عينيه: إنّ حضور القلب هو روح العبادة، وأقل ما يبقى به رمق الرّوح هو هذا الحضور.

هنالك يقوى الصوفي بقوة ما يَرد عليه من لطف العناية، لأنه يستمد هذه القوة من المدد الذي لا ينضُب ولا يغيض، ويقوى تباعاً ذلك التصوف نفسه، كفن من فنون الأدب والأخلاق في الإسلام، وكحياة روحيّة وأخلاقية فيه؛ بمثل هاته الطلاقة الروحيّة التي لا تعرف قيوداً ولا سدوداً، وليست تحدُّها من بعدُ حدود عن مطامحها العليَّة وهِمَمَها الطليقة ومراميها العارجة دوماً في مطالب الكمال.

وبفقدان التدَبُّر في الآيات القرآنية، وبفقدان التعمق الباطني في دلالاتها والتأمل في معانيها، وبفقدان الاستغراق الواصب الدائم في أسرارها ومراميها؛ يفقدُ الصوفي حيويته الباطنة وقوته الروحانية، ويذهب ليفتش عن وسائل أخرى لن تغنيه قيد أنملة عن تلك الحيوية الروحيّة التي كان استمدها قبلاً من شدة العكوف على التأمل في آيات القرآن الكريم. وليس أدلُّ على ذلك من ضعف التصوف في القرون الأخيرة، لقد كان ضعفاً مَرَدَّه إلى فقدان الخصوصية الروحيّة التي تقود إلى معرفة الله من طريق التأمل في آيات القرآن، واستبدالها (أي هذه الخصوصية الروحيّة)؛ بأساليب من التحليق والتطويح والدروشة، والتعلق بالأشخاص وتقديس المخلوقين ونسيان الخالق؛ بعد الغفلة عن كتابه وذكر آياته ذكر حضور وتبتل وانقطاع.

إنّ اصطناع الوسائل الموصلة إلى الله أمرُ لا يغني فتيلاً عن التمسك بفهم كتابه عن طريق المجاهدة فيه وبذل الطاقة في استحضار معانيه والتفكير فيه باستمرار وصرف النظر البصير إليه في كل حال، وإحالة كل ما يجري في هذا الكون على الله تعالى بقلب خاشع وبصيرة مفتوحة. لاحظ قوله تعالى:" لعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُوَنَهُ "؛ أي لعلمه الذين يجاهدون أنفسهم في فهمه ومذاكرته واستحضار رؤيته للخلق والكون والعالم والإنسان؛ لا الذين يهملونه أو يهجرونه أو يقرؤونه على الغفلة والسَّهَيَان.

وفي الحديث أنه صلوات ربي وسلامه عليه قال:" القرآنُ ذَلُولٌ ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه".

كان المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، وضع منهجاً في قراءة النصوص الدينية، والصوفية منها على وجه الخصوص؛ والنصوص المنزلة، ومنها بالطبع (القرآن الكريم)، هو أساس ما نعتمده هنا لقراءة الإيمان للقرآن. يدور هذا المنهج على "فهم المعنى" من النص المطروح للقراءة، ويتخذ أشكالاً أربعة على النحو التالي:

المعنى الأول: وهو لا يتجاوز الفهم الحرفي للنص.

المعنى الثاني: وهو الفهم الرمزي للنص.

المعنى الثالث: وهو ما يستخلصه الباحث من قراءته للنصّ، وهو أعمق من المفهومين السابقين.

المعنى الرابع: وهو "الشعور الديني"؛ المستخلص من النص المقدس. هذا المعنى الرابع والأخير هو الأكثر عمقاً؛ وهو ما يطلق عليه الباحثون "المعنى التأويلي"، الذي يقود إلى التأمل والخشوع. وبمقتضى هذا المنهج تكون قراءة الإيمان للقرآن حيوية شاعرة بما تقرأ، منفعلة بما تحس وتشعر أثناء القراءة. هنا يقوم المنهج الصوفي تأسيساً على القرآن الكريم؛ إذْ يتبيّن للباحث البونُ الشاسعُ بين منهج الصوفية في المعرفة، ومنهج المتكلمين والمناطقة والنُّظار، فبينما كانت مناهج هؤلاء الأخيرين تستند على الجدل أو العقل، قدَّم الصوفية منهجاً جديداً يقوم على الذوق الشعوري أسموه "الاستنباط القرآني".

(والاستنباط هنا: "استبطان"، واستخراج من الخفايا، وليس هو الاستنباط العقلي بحال) ومعناه: أن يُردِّد الصوفي القرآن؛ مستغرقاً فيه، حتى تنفتح له المعاني الإلهية، ثم ينتقل إلى معاناة العبارة، يخلو بنفسه بين مقامات يتردد فيها وأحوال يعانيها، حتى تنقدح المعرفة الإلهية فيه، أو تلقى فيه إلقاءً فيتذوقها. فإذا كان منهج المتكلمين والفلاسفة هو العقل، فمنهج الصوفية الذوق والحدس.

بمثل هذا "الذوق" منهجاً يطبق على موضوعه وموضوعه هنا هو "القرآن"؛ تتكشف للصوفي معانيه وتشرق في قلبه مراميه ليتلقى خطاب الحقيقة عارفاً بجميع مستوياته: مستوى اللفظ، ومستوى المعنى، ومستوى الحقيقة. يُحْسِن فهم الخطاب الإلهي لأنه كان أحسن العمل به، ويجعل القيم القرآنية في مقدمة اهتماماته؛ تطبيقاً وتفعيلاً وممارسة وحياة.

وغني عن البيان؛ أن هنالك فجوة يتأرجح معناها بين "القيم القرآنية" ساعة أن يكون وجودها مغروساً في القلب وبين الدلالة الواقعية والتطبيقية لها.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم