صحيفة المثقف

الفن بين الدين والعلم

علي المرهجمن الكُتب المتأخرة لأستاذنا الدكتور حسام مُحيي الدين الآلوسي كتاب (الفن البُعد الثالث لفهم الإنسان) نُشر في بيت الحكمة ببغداد عام 2008. طرح الألوسي في كتابه هذا رؤية للفن بوصفه بُعداً ثالثاً للفهم يُناظر العلم والدين، إذ يعدَهُ شكلاً مُستقلاً من أشكال الوعي الأخرى.

دعم الآلوسي رأيه هذا بالاعتماد على مجموعة من الفلاسفة والمفكرين، أهمهم: كولن جوود وشارل لالو وسوزان لانكر وهربرت ريد وجورج سانتيانا وجورج تومسن، ومن دون الخوض بآراء هؤلاء الفلاسفة والمفكرين لأتركها لمن يرغب بقراءة الكتاب أقول أن الآلوسي: اعتمد على توظيف رؤاهم ومواقفهم المدافعة عن قيمة الفن في نقد موقف الوضعيين والوضعيين المناطقة وبعض الماركسيين، بل وحتى البراجماتيين باستثناء دوي الذي ربط الفن بالخبرة في كتبه (الفن خبرة)، إذ ربطوا قيمة الفن بالمعطى المباشر، أو "القيمة الفورية" بتعبير وليم جيمس في كتابه (البراجماتية)، أو في تهميش دور الفن في الماركسية بالقياس للعمل وتخوفهم من أن يؤدي الهيام بالفن والشعور باللذة الجمالية لتحجيم دور الإنسان في العمل، أو كما يرى الوضعيون أن البهجة في الفن تبعث على السعادة لكنها غير مُفيدة من الناحية العملية.

ليست مهمتي في هذا المقال شرح محتويات الكتاب ورؤية الآلوسي التي أختلف معه في كثير من المواطن، أولها اسهابه في شرح آرء المفكرين وغياب الوضوح في الرؤية بسبب كثرة الاستشهادات والتنصيص، ولا أهمية للكتاب سوى أن مؤلفه قد جمع بحرفية آراء حول قيمة الفن أو نقد هذه القيمة ولكنني حاولت مُشاركة أستاذي الألوسي في الدفاع عن القيمة الإنسانية والثقافية للفن التي ضيَع أصالتها في انهمامه برصف نصوص الفلاسفة والمفكرين.

لم أجد في أجوبة هذه المدارس فيما يتعلق بتهميش الفن أو رفضه ما هو مُقنع، لأنني أرى أن قيمة العلم وفائدته العملية لا تنفك عن الشعور و"الاحساس بالجمال" فخذ مثلاً على ذلك وجود الكهرباء في حياتنا وهي نتاج علمي مُبهر له فائدة عملية جمَة، ولكن الشعور بقيمته الجمالية أجدى، ونحن العراقيين نستشعر "القيمة الفورية" للكهرباء بمعية شعورنا بالقيمة الجمالية، فبين انطفاء الكهرباء تارة وعودتها تارة أخرى نحن ننتقل بين شعورين هما: "اللذة" و"الألم" وكلاهما مفهومان جماليان، أحدهما قريب من ربطنا له بـ "القُبح" والآخر نهيم به لما يمنحنا من لذة جمالية وشعور بالسعادة، فضلاً عن منفعته العملية.

الفن يُعطينا مساحة للعيش في عوالم مُتخيلة وحالمة، وهذه العوالم هي التي منحت الإنسان العلمي دفقاً حيوياً وثقة أن بامكانه الكشف علمياً عن عوالم وتجارب بدَت في وقتها وكأنها ضرب من ضروب الخيال، فمن منَا كان يدَر في خُلده أنه سيستطيع في التوَ واللحظة التواصل مع الناس والفكر عبر فضاء المعلوماتية هذا؟. ألا يقترب هذا اليوم من عوالم السحر والشعوذة قبل زمن؟!.

الطاقة الخلَاقة في الفن هي التي تمنح العلم بعض من كسر نمطية التفكير المنطقي الصارم في العلوم التقليدية لنجد بعض من العلماء الحالمين يكشفون لنا عن علوم وعوالم جديدة.

خذَ مثلاً على ذلك أي نتاج تقني وعلمي في استخداماتك اليومية، كالسيارة أو الكرسي أو (السبلت) وغير ذلك كثير: هل يُمكن لعالم أن يُنتجه من دون وجود مصمم لشكله ليجد هذا المنتوج (مقبولية جمالية) في عوالم التنافس بين الشركات؟!، أظن أن الجمال هو الذي يختم عملية المخاض العلمي كي يُشترى ويُباع هذا النتاج!!.

ولا يفوتني أن أذكر أن الفن يخترق الدين وطقوسه وشعائره رغم أن كثيراً من المُتدينين يُعلنون رفضهم الصريح للفن، ولكني أخاطبهم بالقول: ألا تستلذ عزيزي المؤمن بسماع القرآن بصوت عبدالباسط، وهو صوت قيل عنه أنه من (ألحان السماء)؟، وألا تستلذ بصوت عبدالزهرة الكعبي حينما يقرأ مقتل الإمام الحُسين (ع)؟، ولك في باسم الكربلائي حينما يُنشد بصوته عاشورائيات ومأساة كربلاء، وهكذا هو محمد صديق المنشاوي حينما يقرأ القرآن، ينقلك لعوالم الرحمة الإلهية جمالياً، ولك مثال يُحتذى في ألحان بليغ حمدي للشيخ سيد النقشبندي مثل: (مولاي أنَي بباك قدَ بسطت يدي، من ليَ ألوذ به إيَاك يا سندي).

وفي الدروشة والطريقة المولوية فن وافتتنان بعشق الله والفناء فيه، والانقطاع عما سواه.

في بلاد الرافدين الموسيقى رديفة المعبد وهو سبب نشؤها ومنبعها، وفي المسيحية موسيقى القُدَاس التي أُستخدمت الغناء عبر (الكورال الجماعي) أو الغناء الفردي فيما سُمي بالموسيقى الدينية.

ولك في تشكيلات العظيم ميكيلانجلو النحتية: العذراء والسيد المسيح ونحت تمثال داوود وسقوف كنيسة سيستاين...إلخ.

وطقوس الشيعة في عاشوراء في تنظيم المواكب وما سُميَ بـ "التشابيه" إنما هي أعمال فنية، أو (فن شعبي) يصلح أن نُسميه فن ديني.

وهكذا هو حال بقية الشعوب إنما تُعبر عن طقوسها وتوصيل مشاعرها الدينية عبر الفن.

لذا يُمكننا القول أن للفن قيمة مُضافة، فهو مجال يشترك فيه مع العلم ويُشارك أهله بتزيين نتاجهم واستحسان قبوله في المجتمع، وكذا الحال في الدين وطقوسه وشعائره، فهي مقبولة اجتماعياً حينما يُجيد أهلها التعبير عنها جمالياً في الإنشاد أو الرسم أو النحت.

لا يُمكن إنكار وجود فوارق شتى بين الفن والعلم، وبين الفن والدين، ولكنني أجد أن كلا المجالين: العلم والدين هما أكثر حاجة للفن لتحقيق المرام والقصد والغاية، ولا أجد للفن حاجة كبيرة لهما، وإن استعان بمعطيات كلا المجالين بعض الفنانين، فأنا أظن أن هناك امكانية لمقبولية وجود فن من دون الحاجة للتدين أو العلم، فقبل أن تشرق شمسي الدين أو العلم كان الفن موجوداً في الطبيعة وجمالها وبعد ذلك في حياة الإنسان البدائي حينما صنع آلاته بحكم الحاجة، فهي تصميم على غرار تشكيل بعبارة أستاذنا الكبير مدني صالح.

من جمال توصيف الخالق أنه خلق الكون مُتقن وتشكيل ليس على غرار تصميم كما هو الإنسان الفنان الذي يصنع تشكيلاته على غرار تصميم سبق.

"إن ربَنا زيَن السماء الدُنَيا بزينة الكواكب" (الصافات/6)، "ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيَناها للناظرين" (الحجر/19).

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم