صحيفة المثقف

الظِّلُّ الْمُتَكَلِّمُ فِي الذَّاتِ

احمد بلحاج اية وارهام- لماذا وضعتَ حذاءكَ على رأسك؟!

- ومن قال لك ذلك؟

- لم يَقلْه لي أحد، وإنما قلبي هو الذي رآك، حين كان يشربُ من نبْع الغيب.

- وضعتُه لأصبحَ مُنفتحاً على المنغَلِق، وعلى ما يتراءى لي مجردَ ذرَّاتٍ كونيةٍ خارجاتٍ عن مفاهيمي.

فنحن حينما نَخرج من الحالات التي تَغْرسُها فينا العادةُ نَصِير ضوءا يَقطُر بساطةً ووَعْياً، فينكشفُ لنا كثيرٌ من الأضاليل التي يُقدِّمُها لنا العقل في طبَق اللغة، وكأنها قوةُ الحياة الجوهريةُ، فنمتشقُها، ونسير عُمياناً بأعيُنٍ نخالها تَرى، نزرَعُ الأذى في كل ما حولنا كحبَّاتِ كذبٍ أخضرَ، ونُسقطُ بعض المفاهيم الحِربائيةِ على الوجود، من قبيل اعتبار العالمِ ومَنْ فيه مجردَ عُشِّ أعداءٍ، يجب إيذاؤُه وإبادتُه بأيِّ شكل.

- إنك مُفزِعٌ ووحشيٌّ يا هذا، وغيرُ سَوِيٍّ.ولا أظن إلا أنَّك خُلْدٌ صَعِد من باطن الأرض، فصعقتْه الشمسُ.ولو أنك تملَّيتَ في جهات حياتك ساعةً لانكشفَ لك فيها أننا جميعا في هذا الكوكب شيء واحد ، وأننا نتعرَّض فيه للملذَّات والأشواق ذاتِها، والمصير نفسه.

كلماتُه الصادمة أوقعَتْني في جُبِّ ذاتي، ولم أجد حِبالاً للصعود منها غير إنكارِهَا والتمعُّنِ في مرآة نَقيضِها، عسَى أَعثُرُ فيها على طريقٍ تَسَعُ خُطايَ، وعلى عُشبَةٍ ناجيةٍ من عَيْنَيْ أَفعَى أُسطوريةٍ.فالحياة الواقعية تَقرِفُني، ولا تَزجُّ بي في دائرة احترامِ كلِّ الأطرافِ المشاركة فيها، بلا لومٍ، أوكراهيةٍ، وبإصغاءٍ عميقٍ لكل المواقف، فكيف تَطْلُب مني أيها الظلُّ المتكلمُ في ذاتي أن أَضعَ بَرْزَخاً بين مَنْ هو على حقٍّ، وبين مَن هو على باطلٍ، لكي يَنعم الوجودُ بالتناغم والانسجام ، وأنا نفسي بَرزخٌ لا انسجامَ فيه؟!

(التواريخُ هنا في جسدي

جثةٌ

ميتةٌ

منْحطِمهْ

كل مَنْ أمَّرْتُه في خافقي

كان مهووساً بداء العظمهْ.

طاحونةٌ من قلقٍ

يَلعَق الإنسان فيها عَدَمهْ

لا تقترحْ لي لغةً محتشمهْ

خَلِّني كي أنزف الروحَ

كما تنزف الظلماءُ

لونَ العتمهْ

سأُسَمِّيني دروباً

غيَّبتْ كلَّ مَن فيها

وداسَتْ حُلُمَهْ

وأُسَمِّيني نهاراً ذابلاً

فوق أسوارِ البلادِ المعتمَهْ.)*

تقابلتْ فيَّ مَرائي الخارج مع مَرائي الداخلِ، فشَخَصَ أمامي وجهٌ لم يكن إلا وجهيَ السرِّيَّ الطالعَ من ينبوع الفجْر، وخَطَّ على كَفِّي: (اتَّجِهْ نحو التناغم، وليس الجزاء). ومن تلك البُرهة عَلِمتُ أنَّ أثمنَ شيءٍ في الإنسان هو شعوره الصافي بغيره، وصرتُ أشعر بالخجل والعار من عَدَمِيَّة تفكيري، ووحشيةِ عقلي، ودخلتُ في نَهارِ الاخْتِلاف بوصفه مُعلِّما عظيما، وَفَّرَ لي فُرصةً ثمينة للتعَلُّم، والنموِّ، والمشاركةِ مع الآخرين، وأعانني على تذويب حديدِ الكبرياء، وعلى نحْرِ الأخلاقيات الزائفة العاويةِ في بَرارِي نفْسي .

لا شك أنه كلما تَناغَمَ دَاخِلُنَا مع خارجِنا أَمْكَنَنا ذلك من تحويل العالم إلى مكانٍ ينمو فيه الجميعُ ويزدهرُ، وإلى تحَوُّلِنا نحن إلى عقولٍ تَفهم أنَّ كل كائنٍ أَمامَها ليس سوى جزء آخرَ منها.فالكونُ في جوهره ما هو إلا ذاتٌ واحدة، تَمَظْهَرَتْ في عِدَّة تَجلِّياتٍ، فنحْنُ لا نَجذب كائنا مَا إلينا إلا لنرى فيه أنفسَنا بشكل أفضل، ولا نرفض فيه إلا ما كنا نرفضه في أنفسنا، ونختبئُ منه خوفاً من الذِّلَّة والشماتة.

لقد انسللتُ من جوهر العقل المُتَخَبِّطِ أيها الظلُّ المتكلِّم، وضبطتُ تركيزَ العقل، ووعيتُ احتمالَ إيذائي الآخرين دون قصدٍ، وتَسَبُّبي في متاعبَ لهم ، لم أكُن منتبهاً إليها.الآن أدركتُ نفْسِي الحقيقيةَ التي كانت نائيةً عنِّي، وأدركتُ معها أن كل شيء جزءٌ من الخَلْق..جزءٌ يحتوي كل أَوْجُهِهِمْ، وأَنَّ الخَلق تُوجَدُ فيه طبيعَة الخالق.فَلِمَ إذن ينبغي أن نَرفضَ أيَّ شيءٍ حتى ولو كان ضئيلاً؟!فكلما زاد تَقْسِيمُنا للعالم تقَيَّدَتْ اختياراتُنا للحياة الكريمة فيه، وهو ما يجعلنا سُجناءَ في سُجونٍ من صُنعِ تفكيرنا.

أَسمِعْتَني أيها الظلُّ المتكلم في ذاتي؟!

إِنْ سَمِعْتَنِي فاعْبُرْ معي من البوابةِ التي لا بَابَ لها، ودون وَسْوَسةٍ.

 

أحمد بلحاج آية وارهام

...........................

*عمر عنَّاز: خجلاً يتعرَّق البرتقال، ط1، كتاب (دبي الثقافية)، الفائز بجائزة دبي الثقافية للإبداع، فرع الشعر، منشورات دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دبي 2009م، ص:15، 14.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم