صحيفة المثقف

كالمعتاد!

محمد الدعمي“كالمعتاد” هذا هو لفظ طالما استعملناه على نحو يومي كناية عن اعتماد ذات الأنساق الاجتماعية والأنماط السلوكية “المعتادة”: “أين سنلتقي؟” الجواب: “كالمعتاد!” بيد أن على المرء أن يتذكر هذه الأيام بأن “كالمعتاد” لفظ مغادر من حياتنا، ليفسح المجال لــ”معتاد” آخر، أي لمعتاد “جديد” لم يسبق لنا أن خبرناه، هو من معطيات تفشي جائحة فيروس كورونا Covid-19، الذي عصف ويعصف بالعالم الآن فصدمه بحقائق ضآلة ما وصل إليه الإنسان من علم، كما صدمه بهشاشة حضارته وضعفها برغم الطائرات، والصواريخ التي راحت تمخر السماوات والأجرام بحثا عن المجهول وعن ثروات وعوالم جديدة.

بيد أن عالم الفيروسات، من الجانب المعاكس، قد قدم “رجة وعي” عنيفة للإنسان الذي نفخ به الغرور حتى تجبَّر وأخذ يعبث بالكائنات في دواخل مختبرات سرية يمكن أن تبيد النوع الآدمي، بضمن برامج الحرب البيولوجية، تلك البرامج التي أضحت مفاتيح للتفوق العسكري، وما جرته من تهمة لطرف ضد الآخر.

هذه التهمة بحد ذاتها تكفي للتنبؤ بظهور “معتاد” جديد لم يسبق للإنسان أن خبره: فالأمر لا يتعلق بثلة من الأنماط السلوكية اليومية من نوع المحافظة على مسافات بين الأفراد وارتداء الكمامات في الأماكن العامة، وربما في دواخل منازلنا كذلك. إنه يتعلق بما هو أخطر وأسوأ توعدا بالويل والثبور بقدر تعلق الأمر ببقاء النوع البشري وعلى بقاء العالم المعاصر على أطره المعاصرة، أي كما عهدناه.

إن احتمالات حرب كبرى مفاجئة أو بالتقسيط المريح (أي بواسطة الوكلاء) غدت قاب قوسين أو أدنى، باعتبار ما شاب الأجواء الدولية من مخاطر وجودية وتوترات وتنابز (1) الولايات المتحدة والصين (أقوى اقتصادين وماكينتين عسكريتين في العالم؛ و(2) الصين ودول أوروبا (مع روسيا)، وما حصل من تبادل للاتهامات بشأن مصدر الفيروس.

إذًا، المسألة ليست مسألة الحجر الذاتي الاختياري في الدار، أو الاستغناء عن الذهاب للتبضع في الأسواق العامة، ولا مسألة الحرمان من حضور دور السينما والمسارح، ولا مشاهدة مباريات كرة القدم أو مسابقات الرياضة على مدرجات الملاعب. هي مسألة الأبعاد الخطيرة لــ”قلب” المسؤول أو الدولة المسؤولة عن تفشي الفيروس القاتل لكل ما هو “معتاد” وتقليدي من دهور لا نقوى على تحديد تواريخها. وهذا أمر جلل، خصوصا وأنه قد يعني صعود كفة دولة كبرى وهبوط دولة أخرى، خصوصا بقدر تعلق الأمر بسباق التقدم والهيمنة الدولية.

لا أتوقع أن تبقى منافسات من نوع صناعة السيارات السريعة أو الطائرات التجارية الرابحة، نظرا لأن “عولمة” فيروس كورونا ستخنق “العولمة” المعتادة التي نعرفها، تلك التي عهدناها حتى اللحظة ككل: فحال وصول نبأ الفيروس المميت أية دولة، مهما كانت، عمدت حكومتها إلى إغلاق مطاراتها ومنع القدوم أو المغادرة من أراضيها. وهكذا، فإن أول ما فعله فيروس لا يرى حتى بالمجهر التقليدي إنما هو قص حبال ووشائج التواصل التي اعتمدتها موجة العولمة لضغط الأرض إلى “قرية كونية”! العالم يغلق فصلا من تاريخه، ويفتح فصلا جديدا.

أما في أميركا فإن ضغط الفيروس الشبحي تسبب بإرباك أكبر وأكثر كهربة للمواطنين الأميركان الذين لم يعودوا قادرين على الذهاب إلى “بلاجات” سواحل البحار والمحيطات للاستجمام والتشمس، كما لم تبق لديهم أية فرصة لتناول العشاء أو الغداء في المطاعم، كما كانوا يفعلون تفضيل أكل المطاعم الجاهز على الأكل الذي يطهى في منازلهم. بل إن هناك من العاملات الأميركيات أعدادا هائلة ممن لا يحسن مهارات الطبخ البسيطة، بل ولا يحتملن البقاء في المطبخ لربع دقيقة، ناهيك عن مستجدات الحرمان من مدرجات الملاعب والمسارح والمراقص. أما مأزق العاشقين فيبقى هو الأكثر كبتا وضغوطا نفسية لأولئك الذين كانوا يقضون لياليهم مع “صديقاتهم” أو “أصدقائهم” كل يوم. لم يعد هناك مجال، مقبول صحيا، حتى للمصافحة، أما “التقبيل”، فحدث ولا حرج!

 

أ.د. محمد الدعمي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم