صحيفة المثقف

المجمع العلمي العراقي.. من يعيد بريق زمانه الأول؟

جمال العتابيالمسؤولية الوطنية في المنعطفات الصعبة تبدو باهظة التكاليف، لانها تتطلب عقولاً متنورة، شجاعة، مبادرة، تستطيع أن تتحمل أعباء المهمات، لإدامة ماهو حي من الإرث التاريخي والحضاري الإنساني العراقي. إن الخوف المزمن من الحقيقة والمصارحة والإعتراف، يقودنا الى العطل والجمود والتخلف، بما يدعو لإثارة السؤال الوطني الأهم، ذي الصلة بحقيقة الأزمة التي تتعمق في المجتمع، أين المؤسسات الفكرية والثقافية العراقيةالتي تغيّر نمط الحياة، وتعيد إنتاج المعرفة وأدواتها.؟ أين ذاك الأثر الحضاري الشاهد على الأنساق العلمية والنيّات الصافية، والولادات المبدعة للعمل الثقافي؟

من يعيد للمجمع العلمي العراقي بريق زمانه الخاص؟ كتجربة مازالت تتحرك في أعماقنا؟ إنه الزمن الذي قطعه المجمع منذ تأسيسه عام 1947مهتماً بدراسة علوم اللغة العربية، على يد كبار أساتذتها، كعلامات مضيئة في إرثنا الثقافي ماتزال تتردد أصداء أسمائهم بقوة، لا كإستذكارات ماضٍ غائبة ، بل نماذج وطنية مخلصة، حاضرة دائماً في الموقف الرصين والإنحياز للعلم، محتفظة بأهميتها الرمزية.

لا يمكن ان نعفو أنفسنا من المساءلة عن (مجمع علمي) مهّد له الشاعران الزهاوي والرصافي، وأسس له منذ  عقود من الزمن، محمد بهجت الأثري ومحمد رضا الشبيبي ومنير القاضي ومصطفى جواد وناجي معروف وعبد الرزاق محيي الدين وصالح أحمد العلي وتوفيق السويدي، وغيرهم من الأعلام، هؤلاء شيدوا ظاهرة علمية تعرف في دول العالم المتحضرة كأكاديميات للعلوم تضمّ في العادة كبار العلماء والمفكرين والمبدعين، هم بُناة التقدم في بلدانهم.

ماالذي نفعله لإيقاظ الحكومة من سباتها لكي تلتفت الى هذه التجربة الجديرة بالرعاية والإنتباه؟ إذ لا يملك المرء إلا أن يشعر بالأسى حين يقارن مآل المجمع العلمي اليوم، بما كان عليه قبل خمسة أو ستة عقود. من الزمن، وأغلب هذا الإنطباع مصدره تلك الأمثلة التي غاب عنها التنافس العلمي، لينتمي بعضها الى السياسة القصيرة النظر، والمضحية بمصير صرح علمي على حساب مصالحها الحزبية الضيقة، وبلا شك ان هذه المؤسسة المستقلة، هي إحدى الكيانات التي صنعتها اليد العراقية بإمتياز، وليس هناك  من حق تمتلكه أية جهة تبيح لنفسها شطب جزءٍمن تاريخ العراق المضيء، وتصادر جهود تلك الأيادي.

نحن نقف اليوم على خط مفترض، فيه من خطوط الدفاع عن الوطن، إذا لم يكن واضحاً على الأرض، فإنما هو واضح في أعماق وضمائر ونفوس جيل من المثقفين والأكاديميين والعلماء، وفي زعمنا ان الخطاب الثقافي المعرفي يتسع لتنوع مناهج التفكير والرؤى في حقول المعرفة كافة، وفي جميع الخطى والمساعي لابدّ من التطلع نحو وضع دعامات راسخةٍللتقاليد العلمية الرصينة، والدعوة إلى مراجعة دقيقة ومتأنية في السبل التي حملت غير المؤهلين بالحق في منصات العضوية، ولاسيما في المدة التي أعقبت إحتلال العراق 2003، وفتح ملفات المؤسسات الفكرية والأكاديمية والثقافية، لتجديد أولوياتها  وتوجهاتها، ومفردات عملها الإداري والمالي، والتوقف عند حجم الإنفاق والتخصيصات المالية لهذه المؤسسات، بالمقارنة مع حجم الإنتاج ونوعيته.

كان المجمع العلمي العراقي، من أكثر المعاني إفصاحاً بجدارته العلمية، مأثرته، انه ظل يحتفظ بحيوية دوره في الوسط الأكاديمي، مشكّلاً وحدهُ ظاهرة ثقافية، غطت مساحة تجاوزت النصف قرن، بأبعادها الفكرية وآثارها المتميزة، وإستطاع المجمع خلال تلك الفسحة أن يجتذب عدداً ممتازاً من الأساتذة في حقول إختصاصاتهم، وأسّس المجمع نواةً طباعية تحولت بمرور الزمن الى مؤسسة طباعية مرموقة،  أنفقت عليها الدولة بسخاء، وتصدت لطباعة إصدارات المجمع كافة، ومنها مجلته الرصينة، التي كانت تصدر بتوقيتات ثابتة ومستقرة، تحولت الى مرجع مهم للباحثين، بفضل الأسماء المشاركة في التحرير والنشر.

لكن من سلّم البلاد للخراب، وأسس لحكم التغانم والنهب، أجهز على المجمع وإستباحه، فتهاوت المكتبة، وتحولت المطبعة إلى كيان من حجر، وإختصر المبنى الجميل في طرازه المعماري ومهندسه الخالد رفعت الجادرجي، كل أجواء الموت والعدم، التي ظلت تتفجر دماءً وحرائق وحروب طوائف، بعد إحتلال العراق.

إن إلتباس مرجعيات الثقافة والمعرفة مع مناورات أهل السياسة، لا يمنع من إعادة الحياة للمجمع بما يستحقه من رعاية، على وفق رؤى واضحة، صحيحة التكوين وصفاء التوجه، مع ما تحمل بعض الاجراءات المخلصة والمتأخرة من إشارات إيجابية. لترميم المجمع من الداخل، (إستبعاد سطوة الأحزاب)، والعودة به الى الدور الأصيل الذي تبناه، ليستعيد حيويته وحريته.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم