صحيفة المثقف

تفكيرٌ في الدِّين (15)

مجدي ابراهيمقلنا في السابق إنّ هنالك فجوةً يتأرجح معناها بين "القيم القرآنية" ساعة أن يكون وجودها مغروساً في القلب وبين الدلالة الواقعية والتطبيقية لها. لنستكمل ما توقفنا عنده حيث نقول إن التطبيق الفوري العامل البناء للعلم بتلك القيم؛ لعنوانُ دالُّ على تميزها وجلالها في ذاتها، وفي غيرها؛ أعنى في ذات صاحبها نفسه، ذلك العامل البناء المطبق لها؛ تنشرح بالالتزام بها الصدور ولو كلف الملتزمين بها الطاقات المجهدة في سبيل ذلك الالتزام، مهما كان العناء وأياً ما كان، فالثمرة لا شك موجودة.

والواقع الذي يصطدم مع النفس أهون بكثير من الترك والإهمال، أعني الواقع الذي تتبرّم منه النفوس، مع الضيق والنفور أحياناً، ومع الثقل والضجر أحياناً أخرى، حين يكون الالتزام مفروضاً عليها من جَرّاء تلك التطبيقات الفورية لهذه القيم القرآنية، ولكن لو علمت النفوس أن نفورها وضيقها وضجرها وعزوفها من العمل بتلك القيم؛ إنما هو بالتحقيق - فضلاً عن التجريب - أسباب تعاستها وشقاوتها، وأن إقبالها وصمودها على الإقبال؛ ولو كانت مكرهة في البداية على العمل والتطبيق؛ لهو بالتأكيد السعادة البالغة التي لا وصف لها ولا حَدّ؛ مهما وصف لك الواصفون وحدوا لك الوصف بحدودهم وتجاربهم.

غير أن المُحقق على الدوام ليس هو في الوصف ولا هو في الأمر بهذه الأعمال تأتي على وجه الكمال، ولكنه يكمن في شيء واحد لا شيء سواه : فى" التجربة". جَرِّب إنْ شئت العلاقة مع هذه القيم القرآنية بعد أن يكون لك استعداد لتلقيها من أعلى بوعي مفتوح وبصيرة حاضرة؛ وأقرأ القرآن قراءة ذوق وإيمان لا قراءة عقل مغلق وبصيرة مطموسة؛ فستجد الأمر إذْ ذاك بعد التجربة على غير ما يصف لك الواصفون، ولو كنت أنت من أشدِّ الواثقين فيما يقولون لك من أوصاف.

فعل التجربة:

في فعل التجربة؛ تقف وحدك حراً طليقاً على "اللحظة" الرابطة بينك وبين الوجود الحق الذي تمنيته وتمنيت أن تتصل به؛ وسترى أن هذه اللحظة هى أسعد ساعات السعادة عندك؛ وإنه لا يدانيها مطلقاً لحظات وجودك الماضية ولا الحاضرة؛ إن استطعت أن تُسَكِّنها فأفعل، لأنها اللحظة التي تستشعر فيها الدوام من الأزلية إلى الأبدية؛ لكأنك وقفت بفردك على معاينة السرمدية التي لا أول لها ولا آخر؛ وأنت إذْ ذاك في سعادة غامرة واتصال روحي عجيب، تنفرد به وحدك ولا يشاركك فيه مخلوق كائناً مَنْ كان.

وما من عجب! فإنها وقفة شبيهة "بوقفة" النِّفَّري، ومن جرى مجراه من الواقفين عليها من السعداء. هنالك تدرك بالذوق الروحي أن الوجود الواقعي أقلّ منك وأحقر، وأنه دونك، صغير، "كما الهباء في الهواء إنْ فتشته لم تجده شيئاً"، لأنك بلغت منزلة ما بلغها أحد من أولئك الذين يتنافسون فيها على كل رخيص؛ وإنك لأعرف العارفين من هاهنا بفقه اللحظة الحاضرة، تلك التي اتسع لها صدرك فعرفت فيها الكثير من دلالات الوجود ومعانيه؛ لا بل من حقائقه وخوافيه.

عندها ستعذر الحلاج، إذ تبدَّت له شمس الحقيقة فجذبته فصرخ فقال فيها :"أنا الحق"؛ وعندها سيأخذك العطف على شيخنا أبي يزيد البسطامي لما قال :" سبحاني، سبحاني .. ما أعظم شأني!". كانوا مثلك أصحاب لحظات فارقة، كانوا أهل وقفات في لحظات؛ بيد أنها كاشفة. شطحوا بعيداً عن معقول الناس، وما هو معقول الناس في عرف الناس؟

الإفلاس! الإفلاس في القيم العلوية : قيم القرآن وقيم الله في كلمات الله.

لا شك كانت تلك "اللحظة" هى التي وسَّعت صدرك وفتحت نوافذ قلبك وجمَّعت همتك كيما تدرك وتعلم من الله ما لا يعلمه أهل الغفلة والحجاب.

هنالك فقط متسع لمزيد من المعارف ولعزيز من العلوم، تتلقاها من علو وارتقاء، وأنت من "الحضرة" قريب دان؛ يكفي أن تتوحد معها لتشعر فيها بالقربة والاتصال. ويا للعجب من السعادة التي تغمر روحك في غيبة الكل عنك وغيبتك عن الكل، وتوحدك مع الكل وتوحد الكل معك؛ أعرف الناس من عرف نفسه فيها : اللحظة التي يغيب فيها الكل عنك، ويكون الكل معك.

في غيبة الكل تخلي، وفي كون الكل معك تحلياً وتجلياً. إن الله ليتجلى على قلوب عباده في كلامه بخطابات التأنيس ليقتربوا منه، يدنيهم دنو معنى ويرقيهم رقي معنى ليفهموا عنه منه، وهو حين يدنيهم يلحظوا مراقي أنفسهم أو لا يلحظوها، يستشعروا قربها أو لا يستشعروها لكن عروجهم الواصب أبداً لهو لحظة تتفتح فيها نوافذ القلوب وتشرق لاستقبال الحقيقة من قريب، ليس الحقيقة كلها بل قبسٌ منها، هو الشعاع المضيء لظلمة الغفلة والحجاب.

هنالك نورٌ علوي ينبعث من "كلمات الله"؛ يدنو منك في لحظات الاتصال، يهيئوها لك فعل الترقي والتطهير، ويعز عليك استقباله بغير تطهُّر واستعداد : التصافي شرطه، وأصله موالاة مصدره وخدمته، فلما أن سئل عنه قال:" نورٌ أنَّي أراه".

الصفاء والاستعداد والتأهب للترقي؛ خصالُ من يريد أن يكون داخل المعية لا خارجها. واجتماع الخصال وسائل موصِّلة لكنها ليست الغاية، فالغاية هنالك بعيدة بعيدة، بيد أنها قريبة بل أقرب ما تكون مع الإحسان. ودوام البقاء مع الوسائل ظلمة حاجبة؛ والفراغ منه مطلوب في ذاته، ليتفرغ السرُّ لورود "اللحظة". وإنها "اللحظة" النورانية الكاشفة تشع من باطن القلب، ينغمر فيها النور؛ ليعطيك من فورك ما لا يخطر لك على بال؛ يعطيك السلامة في الحسّ وفي الذوق وفي الوعي وفي الإدراك. وإذا أدركت اللحظة النورانية العجيبة أدركت السعادة كلها طمأنينة قلبية لم تعد تزلزلك بعدها الزلازل من حولك ولا التهاويل؛ أدركت الدلالة وأدركت القيمة وأدركت من عالم القيم القرآنية مُوحياتها مما ليس يدركه الغُفْل الجهول.

ليس عبثاً ذلك الذي تحسَّه وليس شعورك في هذه "الحالة" باللهو الذي ينقضي معه الزمن أو يقضي هو على الزمن؛ فلو أنه كان كذلك لكنت في غيبة وحجاب أي كنت في غيبة عن اللحظة؛ لكنك في حيرة من أمرك : على أي وصف يمكن أن يكون "حالك"؛ لست تجد لورود اللحظات عليك تفسيراً ولا تعليلاً، أنت هاهنا خارج نطاق التفسير والتعليل. أنت معه بكليتك، ومعية الكلية لا تستلزم وصفاً ولا تقتضي شرحاً؛ الكلية بقاء تريدُ فيه من خالص قلبك أن تسكِّن الزمن لحظتها، يدوم ولا ينقطع، ولكنه رغماً عنك ينقطع فلا يدوم, وانقطاعه حجاب، مع بقاء اللحظة حاضرة في "عين اليقين".

كثيرون من أهل الله تمنوا لو دامت لحظات وصالهم فما احتجبوا؛ لكن الحجاب لطيف معنى به تحيا قلوب العاشقين. إياك أن تظن أن الحجاب عن "اللحظة" نقيصة، وأن الغفلة في ذاتها هنا رذيلة، فهذا ظن الغافلين، بل حجبك ليكملك وليعطيك استعداداً أعلى من استعدادك الأوَّلانيِّ وأفضل؛ لتكون بخصوصية اللحظة جديراً وبالحضور معه على غاية التأهب والاستعداد.

وإذا كانت الاستعاذة من شر الغفلة واجبة شرعاً، فهى في رياض التحقيق جائزة على الذين لو اقتربوا لتاهوا فما عادوا؛ وأن الحجاب في مقام التحقيق ليس ألا معنى لطيف به تحيا قلوب العارفين. الاستعاذة من شر الغفلة واجبُ للحفاظ على التكاليف الشرعية، ووجوب الغفلة في الدنو والقربة واجب كذلك يحفظ شرعية التكليف. فالغفلة هاهنا صحو للعقل وحضور للتمييز؛ بقاء بعد فناء، يقظة بعد غيبة، ولو أنها غارت واختفت لغار معها العقل وغاب التمييز؛ فما يبقى إلا التخليط ! التخليط الذي يظنه العقلاء محض جنون وضرب هوس يقتضي القتل والتنكيل. ذُلُّ الحجاب أهون بكثير من العبث الذي يصفه العقلاء بالجنون فيقيمون عليه الحد، ليقتل من يقتل، وينكل به من ينكل، هنالك تجد عاطفة الوجدان وحرارة العاطفة وحدها تعطي التصرف ولا تجد العقل ذا تصريف.

إنّ أرقى مراقي السعي دوماً إلى الحقيقة شعورنا الدائم بالنقصان عن بلوغها والعجز عن الاتصال بها والإقرار بضعف القدرة عن إدراكها، لكنها لو شاءت لشئنا، وإذا شئنا ترقينا في أنفسنا لنحوز آيات القبول.

عَجَباً لإدراكِ الغَافِلِينَ .. مَا بَالَهُم يَحْتَجِبُونَ ..!

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم