صحيفة المثقف

المقامة الرمضانية

امين صباح كبةحللت بوادٍ أنبط حفره، واعشوشب قفره، وبينما أنا فيه أسير، والهلال في سماءه أسير، آرقني استبطاء النوال، وتبخّرُ الآمال، فقد برزت لي الحقائق مكسوفة الأنوار، ولم يأذن الله لي فيها بالإظهار، وقد أنعم الله عليّ بالتعبير (ومن أذن له في التعبير، فهمت في مسامع الخلق عباراته، وجليت إليهم إشاراته)، فلما توضأت أذنيّ بنحيب المآذن، واصبحت بذكر آياته آمن، ألفيت جمعًا نصفه يبكون ويلطمون ويتصايحون ويتلاومون، والنصف الآخر يستبشرون، وبقدومه يرحّبون، قالوا إن هلّ زل، وإن فراقه عيد، وللمتخلف عنه حسابٌ ووعيد، فلما انتهى من كماله، وبلغ النهاية من آماله، ألفيته معبأً بالاغاني، وصوّب نحوهم وأنشد:

(قوموا إذا ما أردتم أن يقام بكم

فقد يؤخر من خير تمنيه

بئس انتظاركم القوم اللذين مضوا

إن انتظاركم حبس وهم فيه)

ثم قال: (ليس صوم جماعة عن الطعام.. وإنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام.. وصمت اللسان عن فضول الكلام.. وغض العين عن النظر إلى الحرام.. وكف الكف عن أخذ الخطام.. ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام)*

فقلت: مرحبا يا حلة الشهور، وياباعث السرور، أشكو إليك انحطاط الخطرات، وانفلات اللفظات، واشتعال الشهوات، واشتغال الشبهات، وتضييع العبادات، وتحكّم العادات، واستلاب الأوطان، وتمكين الغرباء، فقد تفيئوا ظلالنا، وأكلوا حرامنا وحلالنا،

 وقتلوا أولادنا، وظلوا و ما انتهى فسادهم، ولا فنيت آسادهم، ولا تحركت ضمائرهم، ولا اهتزت شواربهم، وأما عن نهارنا فمعظمه نوم، وفيه سويعة صوم.وأمّا من وددتها فقد ناجيتها أن تعود، ونثرت لها الوعود، وقد غاب طيفها ولم يغب تذكاره، وودّع وشيّعتني أثاره، فقد عاقبتني بالهجران، بعد الأمان، وكنت قد صارحتها بعد فوات الأوان، وقَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ إيلاف حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ

(هواها كعبةٌ والكونُ وفدٌ

له لجبٌ وتلبيةٌ تدوّي

وفي بالي حمامٌ لا يبالي

بهم يأوي إليها حين يأوي

كأن الله أقطعه سماءً

فأكرم هذه الدنيا بجوِ)

 فقال: أهلكك العزوف عن العمل، وكثرة الزلل، وقتلتك الأماني، وألحان الأغاني، وإنما احتجب خيالها لشدة ظهوره، وخفي عن الأبصار لعظم نوره.وفرّغ قلبك من الأغيار، يملأه الله لك بالمعارف والأسرار، (فما أحببت شيئا إلا وكنت له عبدًا، وهو لايحب أن تكون لغيره عبدًا)، فلا تتفعه طاعتكم ولا صيامكم، ولا تضره معصيتكم، وإنما أمركم بهذا لما يعود به من خير عليكم.

ثم قال خذ بيدي أيها المفتون، إلى حيث لا ترانا العيون.

و قبل ان أمد يدي أوقفني شيئ عند حدي:

دم.. دم.. دم دَدَم دم 

سحور.. سحور.. سحور

* ابن القيم

***

أمين صباح كُبّة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم