صحيفة المثقف

الجرذان وعابر الطريق

بكر السباتينألقم عبد الله فمه بلفافة تبغ وراح يستعرض فشله اليومي في البحث عن عمل.. تخيل نفسه كقطة منبوذة لا تجد قراها إلا في مكبّ النفايات خلف المطاعم وفي الأزقة المتوارية خلف البيوت.

يزحف إلى قوت يومه كالجرذ الذي تطوقه عيون القطط الجائعة والمكشرة عن أنيابها.

هذه المرة تخيل زوجته تنتظر منه خبراً يشعل الأمل في ظلام حياتهما.. فيلمح في عيون أبنائه اسئلة مبهمة بريئة تلح عليه كي يجلب لهم الهدايا كأقرانهم من الجيران. لن يعود إلى بيته خالي الوفاض، ثمة ما يدفعه باتجاه ذلك الركن القصي من الزقاق.

هل بوسعه لو بحث بين مخلفات هذه المطاعم أن يجد ما يسدّ رمق أبنائه المقموعين من الفقر المدقع! وتناسى أنه قبل ساعة خرج من هذا الزقاق مطروداً إلا أنه ظن أيضاً بأن أحداً لن يتذكره وقد تورمت قدماه من كثرة المشي.. فراح يعبث في حاوية النفايات عن شيء ما.

وكانت القطط التي تحتكر مخلفات المطاعم قد فزعت وأحاطت به مستنفرة.. لم يأبه بها بل راح يحرك الأكياس الفاخرة ليجد ما لذّ وطاب من أطعمة لم تلمسها أنامل أصحابها.. وراح يستصلح ما يناسب وجبة الليلة من المشاوي والمقالي وقد أصابته الدهشة.. حتى اللحظة المثيرة التي لامس فيها ظهره رأس عكاز أحدهم؛ وجاءه الصوت المُنْذِرِ من خلفه مجلجلاً:

"لستُ مجبوراً بأهلك يا هذا.. أنا صاحب هذا ألخير المهدور يا قذر! أترك قمامتنا وابحث عن رزقك في مكان آخر".

كاد ينشب أظافره في رقبة عبد الله الأنيق المطقم.. حيث بدا وجهه مكفهراً وهو ينقب عن رزقه في الحاوية المتوارية خلف مطعمه الذي يضج بحركة الزبائن والعمال وتطارق الصحون والملاعق، وكان عمال المطعم يتجمعون أمام الباب الخلفي لنجدة صاحب المطعم إذا لزم الأمر.. والذي أخذ الغضب يتوقد في عينيه المتهكمتين، لولا الرد الذي استجمعه في رأسه ليبصقه على وجه عبد الله وقد استحوذ عليه الحرج الشديد:

"تافه أنيق! من أين لك بهذه الملابس التي لا أمتلك مثلها! ألا تخجل من طولك فالفرص أمامك كثيرة كي تجد لنفسك عملاً يناسبك! مصيبة.. أغرب عن وجهي أيها المتسكع الأرعن".

عبد الله وهو "تمرجي" سابق، حدجه بنظرات فيها إدانه..

ألا يتذكره هذا المتعجرف وقد طرد من مطعمه قبل ساعة حينما جاءه باحثاً عن عمل..

يتذكر عبد الله الموقف في لحظات..

المحاسب كان منشغلاً في تقدير الكميات اللازمة لإعداد وجبة الصباح الإجمالية.. وكان يخطئ ويتعثر في الحساب بين الفينة والأخرى.. وحينما دخل عليهم صاحب المطعم بنفس هذه، الملابس العملية صرخ في المحاسب موبخاً لكثرة أخطائه وهذا غير مقبول في ساعات الذروة، فما كان من الأخير إلا أن استدار إلى عبد الله الذي كان يتبعه كظله كي يقابله من أجل العمل.. وصب جام غضبه عليه:

"أنت تنتظر هنا كالواوي منذ ربع ساعة لقد أربكتني أو حتى أصبتني بالعين.. أخرج إلى الصالة"

لم ينتظر المحاسب هدوء العاصفة؛ بل أكمل صراخه وقد انتفخت أوداجه وبدا وجهه أشد احتقاناً من شدة الحرج الذي ألم به وهو في حضرة صاحب المطعم المشهود له بوساخة اللسان والبخل الشديد:

" خذها من الآخر.. يا محترم لا توجد وظائف لدينا، والورقة الملصقة على زجاج واجهة المحل كتبت بالخطأ.. هذا باب رزق وليس تكية خيرية غادرنا بسلام".

أصيب عبد الله بخيبة.. لقد استعد للقاء جيداً.. ربما يتحمسون لتشغيله كونه يفهم في أمور السلامة العامة ومبادئ الإسعافات الأولية.. لكن أحداً لا يود الاستماع إليه.. فماذا يفعل غير الانتظار!

وقد نُصِحَ عبد الله قبل أن يأتي لمقابلة المحاسب بأن يرتدي أجمل ما لديه من ملابس حتى يرتاح إليه صاحب العمل فاستعار طقماً جميلاً من صديقه. ولكنه الآن بدا في موقف عصيب.. كيف يرد على إهانة هذا المحاسب اللئيم!

يتلعثم عبد الله في الرد حتى لا يقع في زلة لسان تخرب عليه هذه الفرصة التي جاء كي يحظى بها، حاول أن يهدئ من الوضع وصراخ صاحب المطعم يتعالا في الممرات وصالات الطعام وهو يوبخ العمال بقسوة.. قال للمحاسب بصوت مضطرب:

"يا سيدي تبعتك بناءً على طلب منك.. أنت قلت اتبعني!" فجاءه الرد ساخراً:

"أقول ذلك حتى للقطط في الحاويات.. أخرج من هنا وإلا قلبت على رأسك كيس القمامة.. أخرج من الباب الخلفي القريب.. لا وقت لدينا لنضيّعه مع حضرتك يا وجه النحس، فافسح لنا مجالاً للحركة".

وبالفعل عاجل في الخروج بعد أن اقترب صوت صاحب المطعم منهما تداركاً لأيّ موقف قد يطيّر الفرصة من يده إلى الأبد.. ولفرط جوعه وجد نفسه أمام الحاوية التي فاضت بما لذَّ وطاب من مخلفات هذا المطعم الذي لا يهجع وهو يستقبل زحام ضيوفه.. فغادر مستكملاً مسيرة البحث عن عمل في المطاعم المجاورة، ليعود من جديد إلى الزقاق الخلفي لفرط جوعه بعد أن تنعدم الحركة فيه.. وراح يتحسس بطنه الضامر ولعابه يسيل مثل كلب ضال.

وها هو يقف أمام صاحب المطعم وهو يوبخه بقسوة.. كان بإمكانه أن يكون معه لطيفاً ويعامله كالقطط التي انفضت تناجز رزقها عن بعد.. فماذا يفعل أمام هذا السيل من الشتائم التي يتقيأها فمُ صاحبِ المطعم ببطنه المندلق وأنفاسه المتحشرجة..

ربما جاء ليبحث عن طعامه في هذا الركن المعتم من مدينة لا تهجع مطاعمها ولا مقاهيها الراقية.. طقمه المستعار الذي يرتديه ربما أفضل من لباس هذا الثري التافه.. ورغم عناء البحث عن عمل طوال اليوم؛ فقد كان أمثاله يوصدون الباب في وجهه إذا ما استبدل طلبه بصاحب واسطة من هؤلاء.. تمتم عبد الله في سره هازئاً كأنه يرد عليه :

"أدهشتني والله! كأنك في قاع الحاوية تتقلب فوق مخلفات مطعمك.. أشبع بها.. ورزقي على الله"

وعاد صاحب المطعم أدراجه وهو مفعم بالحيوية موجهاً تعليماته للعمال. وعلى بعد خطوات من الحاوية أغمي عليه بسبب الإجهاد، وسقط كالجمل أمام الباب الخلفي.. وتصايح العمال طالبين النجدة.. فإذْ بعبد الله يقترب من صاحب المطعم الملقى على الأرض، والذي كان يصدر صوتاً كالخوار.. تصرف عبد الله بسرعة مصدراً تعليماته:

أنا "تمرجي" ارفعوا قدميه للأعلى" ففعلوا.. سألهم هل هذا الرجل مصاب بالسكري.. فرد أحدهم:" نسمع بذلك" فطلب منهم إحضار محلول سكري في كأس وبالسرعة القصوى.. ولكن المحاسب نفسه خرج ومعه طبيب كان من بين رواد المطعم حيث كرر تعليمات التمرجي عبد الله وقد ربت على كتفه متمتماً:" تصرفك أنقذه".. وانشغل الجميع بمعلمهم الذي استعاد وعيه.. لكنه بغتة بحث عن المحفظة في جيوبه وهو ينظر إلى "التمرجي"عبد الله بنظرات اتهام:

" أراك ما زلت هنا.. أم جئت لتقلب المحفظة في جيوبي فخانك حظك!".

واستجاب المحاسب لنظرات صاحب المصنع حيث أعطى تعليماته الارتجالية للعمال كي يخرجوا "التمرجي" من الزقاق.. بينما الأسئلة تلتهم رأس الأخير بعدما أوصد الباب الخلفي دونه:

"أنا في نظره لص ينقب عن محفظته!

هراء..

لو كنت لصاً لما نقبت عن طعام أولادي في هذه الحاوية ولتذهب حينها الفضيلة إلى الجحيم..

ألم يكن من الأجدى لي لو تركته يموت كجرذ أتخم بالطعام!

لماذا لم يقل أحد من أولئك المنافقين بأنني أنقذت سيدهم من موت كان محتوماً! آه.. حتى الطبيب ابتلع لسانه.. والله أن القطط الضالة أشرف منكم يا سفلة"

إلا أن عبد الله آثر الصمت من جديد..

اليوم سيعود إلى البيت خالي الوفاض عله يعيد الكرة غداً من جديد.

مردداً بصوت متوتر:

" تصرف كعابر طريق يا عبد الله كلما طوقتك جراذين البشر.. فالطريق لا تنتظر أحداً"

سيحاول..

***

قصة قصيرة

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم