صحيفة المثقف

"مابعد الحداثة" وسيرة أيام لم تُلد بعد

من المحتمل بأن ليس هناك مفهوم خلافي، أشد تعقيداً من "مابعد الحداثة"، سواء في تحديد أبعاد المفهوم أو في التفسير، وهو مفهوم يشق طريقه، وإن بصعوبة، في محافل الفلسفة والفكر والنقد والأدب والفن والعمارة، بين نخب المجتمعات العربية. أقول بصعوبة لإن مفهوم "مابعد الحداثة" بدأ يتبلور في أوربا وأمريكا تمرداً على مفاهيم "المعاصرة" و "الحداثة". وهذان المفهومان، الاخيران، مرتبطان بما وصلت اليه المجتمعات الغربية من تطور هائل في العلوم والفكر والفلسفة والأدب والفن والشعر والعمارة، وبشكل خاص، خلال القرنين المنصرمين. أقول هذا مقارنة بالمجتمعات العربية التي إنعتقت عن الاستعمار الغربي قبل عقود قليلة ولا يزال غبار ذلك الاستعمار يلوث عواصم تلك المجتمعات. وسأعود الى هذه النقطة في مكان آخر من هذه المقالة.

لعل ما يزيد الإلتباس تعقيداً، هي محاولة الفصل التام والصريح بين مايمكن تسميته "بمعرفة حداثوية" و "معرفة مابعد الحداثة "، فالمعرفة "هي إبراز للقواعد التي بفضلها يمكن لممارسةٍ ما أن تُنشئ تصنيفات لموضوعات ومجموعة من العبارات وشبكة من المفاهيم وسلسلة من الإختيارات النظرية، يتكدس بعضها الى جانب بعض، ولا جامع أو رابط بينها سوى تماثل الذات التي توجد بحوزتها تلك المعارف" (أركيولوجيا -حفريات-المعرفة، ميشيل فوكو، ترجمة: سالم يفوت. ص 167 . الناشر: المركز الثقافي العربي 1987). وسبب الإلتباس يكمن في صلب المعرفة ذاتها، فهي تنطلق من الانسان وهمومه وقلقه وشكوكه، وهي تتجه اليه. وهذا الهم الإنساني، الذي قد يميل الى التشاؤم أو الى التفاؤل أو الى الاستسلام أو الى التمرد، يشكل العمود الفقري الاساسي للمعرفة. وهو الديناميكية المحركة لجميع مراحلها وتلوناتها.

 

وعليه، فإن مفهوم مابعد الحداثة يجب ان لا يُؤخذ منفصلاً عن تاريخ الفكر البشري، ولا ان يُفهم على ان هناك حركة في الحضارة، بمجموع مكوناتها من فكر، وفلسفة، وتحليل نفسي، وآداب وفنون وعمارة، تلغي ماقبلها او تُركِن أو تُهمل ما إنبثق عنها من تراث فكري وإبداعي تراكم لدى المجتمع. على العكس من ذلك، فإن أيّاً من الفلاسفة والكتاب والفنانين، على مدى تاريخ الفكر والإبداع الإنساني، ومع كل ما يمكن حصره من إختلافاتٍ فيما بينهم جميعاً، إلاّ ان كل فرد منهم نهل من المعارف التي سبقته وبدأ، على إمتداد حياته، في خلع رداء تلك المعرفة والوقوف عارياً أمام تاريخ أخرس، وفي قبضة كل منهم مواهب وقدرات تسمح بحياكة مايمكن ان يفصّله، على مقاسه، من "معرفة" تتظاهر بانها غير مبنية على تراكم غيرها. فالتاريخ، هنا، "يعطي لكل علمٍ من علوم الإنسان خلفية تُثبّته، وأرضاً ووطناً يحدّد الفسحة الثقافية، حيث يمكن الإعتراف بشرعية هذه المعرفة. ولكن يجعل حولها، جميعها، حدوداً تحدّها وتُلغي سلفاً نزعتها الى الشمولية" (الكلمات والأشياء، ميشيل فوكو، ترجمة فريق من المترجمين. ص 303) ) الناشر: مركز الإنماء القومي. بيروت 1990 ). هي إذاً معرفة تتم وتتكامل بتراكم لامتناهي وبتأكيدات يستدعي بعضها البعض الآخر. ولهذا فإن التاريخ، في دوراته اللامتناهية، يُعيد نفسه، ولكنه يُعيد نفسه فقط حين لا يجد من يستمع اليه، أو حين يُواجه بصمت مطبق وبتجاهل لا يُطيقه.

اما عن بدء ظهور "مابعد الحداثة"، فهناك إرتباك شديد آخر بين المؤرخين والنقاد والمفكرين. ففي حين ينحو بعض المؤرخين الى الإعتقاد بأن هذا المصطلح يعود الى القرن الثامن عشر، يحدد المفكر والناقد الامريكي، من أصل مصري، إيهاب حسن فترة ظهور هذا التيار الى نهاية الخمسينات وبداية الستينيات من القرن الفائت، والدكتور حسن هو المرجع الاساسي، المرموق، في تطوير مفهوم مابعد الحداثة وإشاعته في أمريكا. بينما يذهب الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار الى ان البداية الحقيقية لهذا المفهوم هي أحداث ربيع باريس (مايو/أيار 1968) حين عمت مظاهرات الطلبة والعمال باريس وشلت مرافق الحياة وطالبت بتغييرات يسارية وصفت في حينها بالجذرية. ويُعتبر كلّ من ليوتار وفوكو ودريدا المفكرين الاستراتيجيين لما بعد الحداثة في فرنسا كما في أوربا.

فمنذ الثورة الصناعية في أوربا وبدء حركة التنوير، مرّت هذه المجتمعات بالعديد من تيارات "الحداثة"، ثم تلى ذلك، تيارات تناقضها في الظاهر ولكنها تكمّلها، من حيث المسيرة التاريخية. ولربما من الممكن الآن، بالفهم الحالي، وبكثير من المرونة، تسمية تلك الحركات بطريقة ما ب "مابعد الحداثة"، (وإن كانت قوى التمرد الداخلية فيها أضعف وأقل أهمية مما توصلت اليه الحركة مؤخراً). لنستطيع ان نستنتج من ذلك بان "مابعد الحداثة" هي مرحلة مؤقتة -نسبياً- بانتظار صياغتها كتيّار فكري، وأدبي، وفني، وإجتماعي أكثر صلابة في المفهوم، وأكثر شمولاً في معاني القيم، وأكثر إتساعاً من إن يُعزل كمفهوم أو يُعتقل عند النخب الفكرية. ولعل قول إيهاب حسن مايؤكد ذلك "إن منطق مابعد الحداثة هو التعارض لكن مع التعايش" (مابعد الحداثة، فلسفتها، ص 20 إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي. دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب 2007)

بناءً على ماتقدم، سيكون من المفيد أيضاً التأكيد على ان محاولة تحديد مفهوم واحد، سريع، وواضح، ودقيق، لمابعد الحداثة، سيعني الشروع بمغامرة لاتخلو من عواقب غير معروفة. إن تعبير مابعد الحداثة، وفق الفيلسوف جان فرنسوا ليوتار، "يشير الى حالة الثقافة بعد التحولات التي أثّرت على قواعد اللعبة التي تتحكم بالعلوم والآداب والفنون" Jean-François Lyotard (La Condition Postmodernisme, Ed: De Minuit. Paris 2018). وقواعد اللعبة، بما يقصده ليوتار، هي القوانين والأشكال والقوالب الفكرية والاجتماعية التي تحدّ من فضاء الإبداع الإنساني وتيّسر مهام تنميطه. لذا فهو يدعو الى نظام "معرفي" آخر او جديد يملك شرعيته بذاته، ليتمكّن من تغيير الواقع وإضفاء "المعنى" الحقيقي لمصطلحات تُتداول إجتماعياً وسياسياً، لكنها مفرّغة من معانيها مثل: الحرية، وحقوق الانسان، والديموقراطية … الخ. يذكر ليوتار في نفس المصدر بأن "في المجتمع المعاصر، وفي الثقافة المعاصرة، نجد أن مجتمع مابعد الصناعة، وثقافة مابعد الحداثة، ومسألة إضفاء الشرعية على المعرفة ستتطلب شروطاً أخرى. حيث أن الروايات التي نشأت لإضفاء شرعية عليها لم تعد صالحة".

أميلُ، شخصياً، الى المجازفة في فهم مابعد الحداثة بإعتبارها موجة نخبوية متمردة ورافضة لقوانين "الحداثة"، كما هي رافضة الى قواعد ماسبق ذلك. وهذا الرفض لم يكن رغبةً في الخروج عن المألوف، بل هو حالة تمرّد ثائرة على الأطر الفكرية والاجتماعية المقيدة لجنوح الإبداع وبصفة خاصة تلك التي تؤثر بشكل يومي ومباشر في حياة المجتمع البشري وتوغل في إفقاره إنسانياً، كما توغل في إنتزاع معايير العدالة منه. فوجدت بأن العمل من خلال آليات "تفكيكية" لما هو معروض زيفاً "كمقدس ومصان" وإعادة تركيبه بقيم، تبدو جديدة، غير انها عودة الى نبع المعنى الاصيل لتلك القيم الإنسانية والفكرية التي أمتدت عبر التاريخ وإعادة إحيائها كقيم مشبعة بفلسفة ومعارف وأخلاق مابعد الحداثة . وهذه القيم هي التي تفضح المعاني المراوغة في الفكر الاجتماعي والسياسي، حيث أنها قيم تشكك، وتعاند، وتسعى الى تغيير المفاهيم السائدة والمخاتلة لقيم مثل "الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان والمساواة والعدالة" وتعمل على إعادة بلورة المعنى الاصيل الحقيقي والإنساني والعادل لهذه المفاهيم لتشمل كافة المجتمعات ولاتنحصر بمجتمع بعينه. اي ان تعيد المعنى الحقيقي للوجود الإنساني ذاته.

وأشير هنا الى ستيفين هايكس في كتابه الشامل ( شرح مابعد الحداثة، الشك والاشتراكية من روسو الى فوكو)

 Explaining Postmodernism, Skepticism and Socialism from Rousseau to Foucault. Stephen Hicks. Kindle Edition.. 

والذي يؤكد فيه بان المناقشات الحديثة حول "الحقيقة والواقع، والعقل والتجربة، والحرية، والمساواة والعدالة، والسلام والتقدّم. إنما جميع هذه المفاهيم تُذكر ضمن علامات الإقتباس. أما فكر مابعد الحداثة فيعلو صوته بحدة ليقول لنا ان الحقيقة هي أسطورة، وإن العقلانية هي بنائيات الرجل الأبيض الموغل في التعصب لأوربيته. اما المساواة فهي قناع للقمع كما ان مفهومي السلام والتقدم فهما تذكير ساخر ومرهق بالسلطة". 

تتمرد أفكار مابعد الحداثة على القوالب والأشكال والأسوار التي تحدّ هذه الافكار من التحليق بعيداً عنها الى آفاق، غير مكتشفة، تسطع فيها شموس جديدة للحرية. غيران هذه الافكار المتمردة لاتسعى، عبر تحليقها، الى صياغة قوالب وأشكال وأسوار جديدة. لإنها أفكار متمردة على الواقع المعاش، الذي يمس ويؤثر في يوميات حياة جميع البشر، وتحفز على التغيير. ذلك التغيير الذي يبدأ بإعادة "المعنى" الأصيل والإنساني للمفاهيم الفكرية، والسياسية، والاجتماعية الشائعة والمفرّغة من معانيها بفعل المصالح السياسية والاقتصادية والإيديولوجيات المتعددة، والتوسع بها لتخرج من الحلقة المغلقة للنخب السياسية، والفكرية، والأدبية، والفنية لتشمل المجتمع الإنساني، برمته، أينما كان، بكل أعراقه، وبكل تنوعه الفكري والعقائدي. ف "ليس التمرد بحدّ ذاته هو النبيل، بل هو مايهدف اليه" كما يقول ألبير كامو.

إذا كانت مفاهيم مابعد الحداثة تلتقي جميعها عند رفض ما هو مزيف ومخاتل من قيم الحاضر والتمرد عليها، فلنا أن نتسائل من اين يتأتى هذا "التمرد". لعلنا نجد الجواب عند أحد أركان هذه الحركة، وأعني المفكر جاك دريدا حيث يقول: "… لم يحدث من قبل أن أثر العنف، وعدم المساواة، والإقصاء، والمجاعة، وبالتالي الإضطهاد الاقتصادي على هذا العدد الكبير من البشر في تاريخ الارض والإنسانية". أهي إذن دعوة للتمرد ام إنها ثورة على واقع مجحف بحق الانسانية؟ أعتقد انها أولا محاولة قدح شديدة لشرارة الوعي الجمعي في المجتمعات المختلفة، والذي لابد ان يقود الى التمرد وربما الى الثورة ضد المياه الراكدة.

إن المصطلحات المتداولة حالياً من حرية، وحقوق إنسان، وعدالة، ومساواة، وديموقراطية وشفافية كلها، وبدون إستثناء، تحمل كافة المعاني المُخاتلة ولكنها تفتقر الى معانيها الحقيقة المنبثقة من قيم فكرية وفلسفية وأخلاقية لصيقة بالإنسان مهما كانت هويته وعلى أية قارة يعيش. حيث أن في المعنى الفكري والواقعي والأخلاقي الحقيقي نجد ان تحت عباءة الديمقراطية تدخل قيم الحرية، وتحت عباءة القضاء المستقل تدخل قيم العدالة والمساواة وحقوق الانسان والمساءلة والشفافية. ولكن اين هذه المصطلحات في الممارسات السياسية اليومية، وما مدى تأثيرها على الشعب، وخاصة الطبقات الفقيرة منه. هنا أيضاً سيكون من المفيد أخذ الحذر تماما في تناول هذه المصطلحات بشكلها المجرّد، وبعيدة عن حركة التنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. واضعين في عين الاعتبار بأن الديمقراطية والقضاء المستقل، هما منتج الرأسمالية في الدول الغربية. ولعله من المفيد التذكيّر بأنه يجب التفريق بين أنظمة الرأسمالية الليبرالية كما هي موجودة في الدول الأوربية وفي أمريكا وبين أنظمة الرأسمالية السياسية، (والبعض يصّر على تسميتها بإشتراكية الدولة للهروب من مصطلح الرأسمالية) والتي كان الاتحاد السوفيتي آنذاك المثال الأبرز لها. في حين ان الصين وبعض دول آسيا هي من يمثل هذا التيار الان وإن كان بشكل أقل صرامة.

أصبح الآن من الواضح والجلي الحديث والاستنكار لإنحرافات الديموقراطية في الشرق وفي الغرب، وخاصة من قبل نخب تلك المجتمعات. وكمثال على ذلك، تُظهر نتائج المسح العالمي الذي أجراه "مركز مستقبل الديموقراطية، في جامعة كامبريدج"، (نُشر في الموقع الألكتروني للمركز في يناير/كانون الثاني 2020 (عن عدم الرضا عن الديموقراطية في المجتمعات الغربية، ويذكر المركز بان "عدم الرضا هذا هو الأعلى منذ خمسة وعشرين عاماً". ويؤكد المسح أيضاً بان "الثقة في الديموقراطية إنحدرت بسبب أن المؤسسات الديموقراطية فشلت في معالجة بعض الأزمات الرئيسية في عصرنا والممتدة من الإنهيارات الاقتصادية الى أخطار الإحتباس الحراري العالمي". 

إضافة الى ذلك، فاننا نجد أن هناك حكومتين ذهبتا أبعد بكثير من تلك الإنحرافات والتشوهات التي لحقت بالديموقراطية، وذلك بتقسيم الشعب الى فئتين، فئة تستحق الحياة وأخرى لاتستحقه. ويمكن تسمية هذا النمط الفريد والفاشي من "الديموقراطية" بديموقراطية الأبارتايد والتي تجمع جمهورية جنوب أفريقيا، قبل إستلام المناضل الكبير مانديلا السلطة، و إسرائيل منذ تأسيسها الى اليوم. 

الديموقراطية السائدة في المجتمعات الغربية - وهي ذاتها التي فُرضت على مجتمعاتٍ مختلفة عنها جذرياً في نواحي الارض الأربعة - هي الديموقراطية التمثيلية. لنتفحص قليلاً وبإيجاز تام مصدر عدم الرضا او بمعنى آخر أماكن العيوب فيها. إن الديموقراطية التمثيلية تقوم على الإنتخابات الدورية وهي النظام السياسي المهيمن في أوربا وأمريكا.

أولاً. إن الأغلبية هي أساس الديموقراطية التمثيلية. وهكذا تُؤخذ كافة القرارات السياسية التي تمس الشعب بأكمله. ولكن التساؤل هنا اذا كانت الأغلبية هي 51 بالمائة من الناخبين فما مصير ال 49 بالمائة من السكان. إن الملاحظ، ان الغالبية المشكلة هي عادة من نخب التدرج الاعلى في الطبقة المتوسطة ولهذه الطبقة طموحات ومصالح تتضارب مع الطبقات الدنيا وخاصة الفقراء. إضافة الى ذلك فإن كانت الأغلبية لا تتمتع بالأخلاقيات اللازمة فيمكن ذلك ان يهدد ويخلخل هيكل الحكومة دائماً، وأستشهد ثانية بما حدث ويحدث بنظامي الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، قبل التحرير، وإسرائيل اليوم.

ثانياً. إن الديموقراطية التمثيلية تأتي بالنخب الى موقع السلطة، في كلا السلطتين التشريعية والتنفيذية للدولة. هذه النخب الفكرية، والمالية، والتكنوقراطية ليست ملزمة، واقعياً، بمطالب ورغبات الناخبين. ففي حين يُفترض بهذه النخب إعتماد سياسات وإستراتيجيات تخدم الشعب، ولكن نجد بان قوة ما تلوي مسار تلك السياسات والإستراتيجيات تحت بنط عريض هو العمل باتجاه خدمة المصالح العليا للأمة، وبهذا تُهمل القضايا الأكثر الحاحاً في المجالات الاجتماعية والتعليمية والصحية. ومما يثير الفضول، وربما الأسى، ان هذه النخب تتناسخ من جيل الى جيل وبذات الفعالية. 

ثالثاً. وحيث ان سلطة الشعب تتوقف، عادة، بعد إجراء التصويت، فان هذا يسمح للمسؤولين بإن يكونوا مخادعين ويجعلهم غير موثوق بهم، فالكثير من هؤلاء لن يكونوا عرضة للمسائلة بعد إنتهاء مرحلة الانتخابات. لانهم يهملوا وعودهم الانتخابية ويتجهوا بشكل أساسي لخدمة أحزابهم.

 نلاحظ مما سبق قدرة السلطات والنُخب السياسية على بذل الجهود الخارقة لتفريغ مفهوم الديموقراطية من معانيه الإنسانية، والحفاظ (شكلياً) فقط على فعاليّة الانتخابات والتي غالباً مايتم التجاوز عليها بالتزوير.

                                ***

إذن بعد كل هذ، سيكون من المدهش أن لانتساءل الى أين نحن ذاهبون في منطقتنا العربية؟ أي بعبارة أخرى، ماهي سيرة الأيام تلك التى لم تولد بعد؟ للجواب على ذلك، إنبرت الكثير من مؤسسات البحث الاجتماعي والسياسي وكذلك الكثير من الكتاب وعدد لا يُحصى من المنجّمين والمبصرين لوضع الخطط ولرسم واقع جديد لما سيحل بالعالم بعد تفشي وباء كورونا. لكنها، في جلّها، أستخدمت آليات ومُحدّدات ومنطق الحاضر. وهذا مايُقيّد الافكار من التحليق فعلياً نحو الأيام القادمة. ولنتذكر بأن مصائر الشعوب لا تُحلّ ب "ألا ليت شعري" بل بالتخطيط القادر على إستشراف المستقبل على أكبر درجة من الدقة والوضوح وبأقل الخسائر الممكنة.

إن من المؤكد الآن أن المقولة الغربية "تسييرالاعمال كالعادة" (Business As Usual) إنتهت ولم تعد صالحة، لإن الإشارات القادمة من الفكر النخبوي المتمرد، ذو الاتجاهات العالمية عابرة الحدود والأفكار والقوالب والقوانين، في هذا الظرف الموغل في الحرج والذي تسيدته كورونا، بدأت هذه الإشارات بالتحضير وبشكل تدريجي لرسم عالم آخر، ورصد ملامح الأيام القادمة. وسأجازف بأن أسجل هنا بعض من سيرة أيام لم تُولد بعد، مع أنني أضع يدي على قلبي خوفاً من مغامرتي هذه.

حين ذكرت، في المستهل عن إنتقال مفهوم "مابعد الحداثة" الى نخب المجتمعات العربية، إنما أقصد بذلك "شرعية" هذا الانتقال الى مجتمعات لم ينلها مانالته المجتمعات الغربية من ثورة صناعية، وتنويرية، وعلمية، وتقنية هائلة. ومن مآسي ودروس حربين عالميتين مدمرتين، ومن فيض مدارس فكرية وأدبية وفنية فتحت لنخب مجتمعاتنا العربية ترف إستهلاكها. في حين أن مجتمعاتنا العربية، بمعظمها، وعلى النقيض من المجتمعات الغربية، مستلبة الإرادة وغير قادرة على التحكم بمصائرها، وبتعبير آخر فان المستقبل لايعني لها اكثر من حياة قادمة مستلبة تماثل ثبات الحاضر . فهل ، بعد ذلك، لهذه المجتمعات المقيدة في العتمة ان تتناغم وتتجاوب مع حركة الحداثة المنبثقة من حركات التنوير في الحضارة الغربية؟ الجواب ربما يكون مع النخب العربية، فإن كانت هذه النخب ستستجيب لمتطلبات وشروط مابعد الحداثة فإن التمرد سيكون هو البرهان. تمرد على المفاهيم المُخاتلة والزائفة والقيم الواهنة والمفّرغة من معانيها والتي تتحكم بمصائر المجتمعات، هذا التمرد الذي سيعطي إشارة البدء من أجل تغيير ودمج مجتمعاتنا الإنسانية، على إختلافاتها، بعولمة جديدة تتنكّر لسابقتها، عولمة تستمد جذروها من الانسان وتتجه اليه، وتكف عن ان تكون عربة عمياء لرأسمال الغربي. وبهذا فإن هذا التغييرّ سيشترك مع غيره من مجتمعات عابرة للقارات والقيود والحدود، وكل مايمكن ان يقيد الفكر والحرية وما يتبع ذلك من ممارسات إنسانية. اي أن مهمة التغيير ستكون في المساهمة ببناء مجتمع عالمي إنساني موحد في تنوعه وثريّ في إختلافاته. وهذا العالم، هو في طور التكوين الآن، وللنخب العربية دوراً أساسياً في المساهمة في صياغة المفاهيم والقيم التي ستحكمه.  

ولمزيد من الإستدلال، لنقرأ كيف تنظر النُخب الفكرية الى واقع مايجري داخل مجتمعاتهم، فالسنوات القليلة الماضية تميّزت "بألفية مقلوبة أُستعيض فيها عن نذير مستقبل كارثي ممتلئ بالشعور بنهاية هذا الشئ او ذاك، كنهاية الإيديولوجيا والفن والطبقات الاجتماعية ودولة الرعاية الإجتماعية، وما الى ذلك. كل هذا مجتمعاً، ربما هو مايسمى على نحو متزايد: ما بعد الحداثة" (إيهاب حسن. نفس المصدر). هذا الإحساس بفقدان الأمل هو الذي قاد الى الشعور بنهاية الإيديولوجيات ونهاية التراتبيات في الفكر والفن والممارسة السياسية والمجتمعية وهو الذي يُنهي بدوره ماهو – زيفاً – مصان ومقدس. حيث أن هذه الممارسات تعمل بالضد من مصالح مجتمعاتها. لاشك بان هذا بكليّته هو الدافع والموُقد والمحرك "للتغيير". وهذا التغيير، بطبعه، سيكون حتمياً، بل وربما يكون غريزياً من الناحية الاجتماعية، حيث ان كافة الظروف الموضوعية الحالية، والموجبة للتغيير، بِدأً بالكوارث الاقتصادية التي خرجت عن كل مقاسات رأس المال والتي تضرب في البلدان الغنية والفقيرة على السواء. ومروراً بالزيادات الفلكية لأعداد العاطلين عن العمل، وإنتهاءً بزيادة أعداد الفقراء في كل أنحاء العالم جراء سياسات ساهمت بإفقار او شبه إنهاء للطبقات المتوسطة في معظم المجتمعات وتحولهم الى "فقراء جدد" حسب تعبير فرنسوا ميتيران، (الرئيس الفرنسي الأسبق، الذي وصف هذه الظاهرة ليقابل بها مصطلح "الأغنياء الجدد" والذي عمّ المجتمعات الأوربية بعد الحربين العالميتين.) كل هذه الظواهر مجتمعةً أفقدت المجتمعات في الدول الغنية والفقيرة الثقة بالديموقراطية وما تفرزه من سلطات تشريعية وتنفيذية. كما أنها أزالت اللبس عن المعاني المُخاتلة والتي تقف وراء جميع المفاهيم التي تبدو في ظاهرها إنسانية ومتجهة الى خدمة المجتمع.    

الى اين نسير اذن؟ إن مراقبة الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تحكم العالم اليوم، ومن المنظور المعرفي "لما بعد الحداثة" والتغييرات التي يتجه اليها العالم بعد وباء كورونا، الذي سيكون له فضل كبير على إعادة الاعتبار للقارة الآسيوية، خصوصا، (والتي نشأت فيها وتعددت مراكز القوة الاقتصادية والسياسية، من الصين الى سنغافورة مروراً بالهند وماليزيا ومن اليابان الى تركيا مرورا بتايوان، وكوريا الجنوبية، وإندونيسيا). والى تأكيد حضور وتصاعد وتنامي هذه القوة الآسيوية. وهذا الحضور وهذه القوة سيكون بمباركة غربية، أمريكية وأوربية، آخذين في عين الاعتبار، إن القوى الاقتصادية وبالتالي النفوذ السياسي للدول الغربية سيستمر بالتراجع.

وأمام هذه القوة الاقتصادية (ونتائجها السياسية على الصعيدين الإقليمي والعالمي) وتدهور قوى الغرب، وبروز مظاهر ضعفه في التعامل بفعاليّة مع إشكاليات العالم على الصُعد الاقتصادية والمناخية وحتى على التعامل مع الإشكالات السياسية والمسلحة في أقاليم مختلفة من العالم. هنا ستبرز الحاجة الفعلية لإعادة إكتشاف كافة المفاهيم المهيمنة. وهو ماسيستدعي، إذاً، صناعة "ديموقراطية جديدة" تسمح لرأس المال بالحركة في كل الاتجاهات، وبنفس الوقت، وضع الضوابط الكفيلة بالحد من الفقر ودعم الرعايا الاجتماعية، وإن بشكل محدود. مع ممارسات تكفل العدالة والمساواة (وإن كان ذلك بشكل نسبي) مع ضمان إبقاء التراتبية الطبقية في المجتمع. لعل هذا هو شكل النظام الرأسمالي القادم فهو سيكون مزيج من الرأسمالية الليبرالية الغربية مع الرأسمالية السياسية الشرقية. أي بأخذ بعض مكونات الديموقراطية الليبرالية ودمجها بالكفاءة الاقتصادية الشرقية. ثم العمل على تثبيت ودمج سيادة القانون وحرية التعبير وحقوق الانسان ضمن خطط وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية. والجدير بالتنويه، ان خطط التنمية هذه، بالطريقة المذكورة، ستكون مصدر إستقرار لنظام الدولة ، كما ستكون مصدر رفاه إجتماعي يساهم بتثبيت مبدأي السلام والتقدم إقليميا وبالتالي على صعيد العالم.

كما ذكرت، ربما يكون هذا هو النظام العالمي الجديد مقابل "النظام العالمي الليبرالي" الحالي. نظام يستنطق الصمت الذي يكبل أفواه فقراء العالم بهدف إشراكهم بالسلطة ومنحهم إمكانية التحكم بمصائرهم، ولو نسبياً. نظام يتجاوز الايديولوجيات الشمولية ومفاهيم الديموقراطية التمثيلية والنسبية القائمة على قمع الأقلية وعلى نموذج الحريات السائدة والتي تحمل في ثناياها أسباب الاعتقال القسري والإضطهاد.  

وفي الختام، وبموازاة ما يمكن ان تلده الأيام تحت مسمى النظام العالمي الجديد، قد تحمل الأيام مفاجئات أخرى، من بينها، ربما ستتضاءل الأسئلة عند الفرد الى أدنى مستوى ممكن (ويجب أن لايفهم هذا بأنه منبثق بالضرورة عن حالة الرفاهية التي يمرّ بها الفرد، لإن ذلك يمكن ان يحصل في حالات القنوط) لإن التقنيات الحديثة ستأتي بأجوبة لانملك لها أسئلة أساساً. اي ان التكنولوجيا القادمة ستستبق إمكانية السؤال. غيرأن هموم وآمال البشر لايمكن تنميطها على الإطلاق، مما يمنح الانسان فرادته الدائمة في إبتداع ما لاتستطيع التكنولوجيا إستباقه في السؤال أم في الجواب.

وأخيراً لعلّي أسرفت في الحلم لسبر سيرة الأيام ، تلك التي لم تُولد بعد، ولكن هكذا هي سيرة الأيام تبدأ بأحلام تخالف الواقع، إنما الأحلام لا تفلت من قوانين "الديالكتيك" فهي تتغيّر مع أول إشارة تمس الواقع.

 

علي ماجد شبو

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم