صحيفة المثقف

السيسي وجحا والكلامنجيّة

عصمت نصاركان جحا يطالع ما كتبه الفلاسفة عن الحريّة وليبراليّة الصّحافة؛ فاستوقفه تباين نظريّاتهم في التناول، واتّفاقهم في رسالتها وغايتها، فبدأ بكتابات لطفي السيّد؛ التي دعت إلى عودة الرّقابة على الصّحف؛ انتصارًا لمصلحة الرأي العام؛ وذلك بعد دفاعه عن حريّة الصحافة منذ عام 1909م، فقد صرّح أنّ غايته من الدّعوتين هي حماية الرأي العام من جنوح مزيّفي الوعي، ثم حديث هيجل عن ضرورة الرّقابة على الصحف وتقويمها؛ إذا ما نشرت أو روّجت لأخبار أو شائعات أو آراء ضدّ مصلحة البلاد؛ واشترط على من يعمل بالصحافة أو مخاطبة الرأي العام أن يكون على علم ودراية بالجانب الذي يتحدّث فيه، وأن تكون أحكامه أقرب إلى العلميّة منها إلى الذاتيّة؛ على أن يراعي فيما يقول طبيعة الرأي العام، وثوابت المشخّصات، وأصداء ما يصرّح به من رؤى وتصوّرات؛ أو نقدات لأجهزة الدّولة، وعلى الرّغم من معارضة جون لوك لأي رقابة تقيّد من حريّة الصحافة إلا أنّه جعل القانون وحده هو الضابط لحدود تلك الحريّة، وأضاف الإنجليزي بلاكستون في هذا السياق أنّ الصُّحفي الكذوب يجب أن يعاقب؛ لأنه أسهم في تزييف الوعي من جهة، وخالف القوانين التي تحمي المجتمع من جهة ثانية، وأدرك جحا أنّه على الرّغم من تحيّز المفكر السويدي دينس ماكويل لحريّة الصحافة، إلا أنّه لم يغفل أمرين؛ أوّلهما: أخلاقيّات المهنة.

وثانيهما: وعي المحرّرين؛ وذلك للحفاظ على الأخلاق التطبيقيّة الكامنة وراء رسالة الصّحافة والإعلام التنويريّة.

غير أنّ المفكرّين الليبراليّين المعاصرين- على اختلاف نوازعهم واتّجاهاتهم - قد أدركوا خطر هيمنة أصحاب رؤوس الأموال على القنوات الإعلاميّة، الأمر الذي جعل منها أبواقًا لسياستهم، وسلاحًا ضدّ خصومهم - حتى إن كان هذا الخصم هو الدولة أو الحكومة أو القانون، الأمر الذي دفعهم إلى إعادة النظر في حدود تلك الحرّية.

وفي عام 1947م ظهرت العديد من الكتابات التي تحدّد الغاية من الصّحافة؛ وتتمثل في: توعية المجتمع وتزويده بالمعلومات؛ التي تمكّنه من إدراك حقوقه وواجباته، والإحاطة بسياسة الدّولة، ومدى تمكّنها من معالجة المشكلات والقضايا الاجتماعيّة المختلفة، وتوجيه النّقد العلميّ لكل ما يتعارض مع مصلحة البلاد، وكلّ ذلك مشروط بشرطين؛ أوّلهما: الصدق، وثانيهما: مراعاة حريّة العقل الجمعي بكلّ أطيافه ومعتقداته.

ويضيف الأمريكي دينيس ماكويل: أنّ من حق المجتمع والرأي العام القائد أن يضع مواثيق شرف لآداب وأخلاقيّات مهنة الصّحافة؛ وذلك حتى لا تصبح أجهزة الإعلام وما تنتجه من آراء وأخبار خاضعة لمنطق السوق؛ الذي يصبح به المال هو المهيمن على مقدّراتها، والمتحكّم في كيانها.

وقد أدرك جحا كذلك أنّه على الرّغم من البون الشاسع بين الليبراليّة والاشتراكيّة إلا أنّنا يمكن أن نقف على بعض نقاط الاتفاق بينهما اتّجاه حريّة الإعلام؛ وتتمثل في:  حرص كلتا النّظريتين على ضرورة توخّي الحذر من جهة الإعلاميّين فيما يصرّحون به من آراء وأخبار للجمهور، فالصدّق والبحث عن الحقيقة والنقد الإصلاحيّ هي القيم التي يجب أن تتصدّر مواثيق الشرف المهني، وقد دعّمت هذه القيم نظريّة «المسئوليّة العالميّة والدوليّة للصحافة»؛ التي وضعها المفكّر المصري مختار التّهامي عام 1985م، وكذا نظريّة «صحافة التنمية»؛ التي جعلت الحفاظ على التماسك الاجتماعي، وإحياء الأمل في أفراد المجتمع، والعمل على نشر السلام بين طبقاته، وبعث الثقة بين الحكومة والجمهور، ومحاربة الإشاعات؛ التي تعمل على تمزيق المجتمع وتصارع فصائله؛ هي القيم الرّئيسة التي يجب أن تتحكّم في سلوك كل من يعمل في قنوات التواصل الجماهيري.

وما برحت الفلسفات التطبيقيّة المعاصرة تنادي بضرورة وضع ضوابط لمهنة الإعلام؛ وذلك لإنقاذه من آفات الفساد؛ المتمثلة في حريّة الإشاعات، والتشكيك في ثوابت مشخصات الهويّة للمجتمعات، والعمالة والتبعيّة، والإتجار بالخبر والمعلومة لمن يدفع الثمن.

أمّا النظريّة الإسلاميّة؛ فقد اتّخذت موقفًاً وسطًاً بين الليبراليّة والاشتراكية؛ وتتمثل في الحكم على أي عمل من منظور فقه المآلات؛ فكلّ خبر أو رأي يهدّد السلام الاجتماعي والأمن يعدّ إفسادًا يجب محاربته ومعاقبة فاعله.

وقد انتهى جحا من قراءاته إلى إدراك مغزى خطاب السيسي؛ الذي جاء فيه بعض الكلمات التي لا تخرج عن سياق أخلاقيّات المهنة الصحفيّة (هذا لا يليق! أين الضمير؟ سوف أشكوكم للشّعب)؛ لذا أراد أن يعقد جلسةً مع الإعلاميّين؛ فبعضهم لبّى الدّعوة، والبعض الآخر استهزأ وتكبّر، وفي الاجتماع اتّخذ جحا موضع المعلّم والموجّه.

جحا: السلام على من اتّبع الهدى، وبالحق اقتدى، وحمل الأمانة، وعمل لمصلحتنا، وعادى من عادانا، إيّاكم تقولوا: سَلَفي، أو عميل السلطة، أو مأجور وحرفي، ما هي دي عاداتكم يا معشر الكلامنجيّة، تعملوا من الفتفوتة رغيف، ومن الهايفة قضيّة، ونسيتوا ان احنا في حالة كرب، وداخلين حرب، عصابات من الشرق، وجحافل من الغرب، والحرب مش بارود وسلاح وبس، دي دعاية وإعلان وكذب ودسّ، وأخبار مدفوعة الأجر، وأحاديث وبدل متهندمة، وكلّه بيفتي ويرص رص، وشتايم وإباحة، وجهل وبجاحة، وأمور تقويم؛ من أسوان لسينا للبرولوس والملاحة، وكلام تهجيص، عن الحكومة والقضاة والرئيس، وخطة مسبوكة بألاعيب إبليس.

الصحفي عثمان أبو أورة: ايه يا عم جحا؟ انت جاي تربّينا! ولا تحجر علينا! ولا تقوّم السلطة علينا عشان يحبسونا! فوق من فضلك، زمن المعتقلات ولى، واحترام المسئولين بحّ خلاص، والخوف كسرنا وراه قُلّة، عايزين تخرصونا وتفرعنوه، ورقبينا تربطوها بحبل، واللي يعارض تشنقوه، وأصواتنا تخرصوها، واقلامنا تقصفوها، وفلوسنا اللي جمعناها تصادروها، وقناوتنا تقفلوها، لا، وحياة الفيس واليوتيوب وتويتر، الكلام ده مش هيحصل، والخطّة دي مش هتمشي ولو لربع ميتر، اللي في دماغنا هنّفذه، واللي هيأبجنا هنبروزه، وهنشوط في التمانيات، وهنِفْتِش المستخبّي، وهننفخ البلّونات، وهنحكي حكاية سوسو والتحرّش في البلكونات، صحافة صفرا بالبلدي، وأي شيء يجيب إعلانات، وبصراحة دي فرصتنا عشان جمع الكاشات.

الصحفي حامد النّمس: خلّينا يا عم جحا واقعيّين، هي الصحافة مش مراية النايمين والقاعدين والواقفين، من أفراد المجتمع اللي في مصر عايشين، علما وفلاّحين، وأطبا ورقّاصين، وبلطجيّة وسواقين، وقضاة وساسة وجامعيّين، وحراميّة ومرتشين، وصوفيّة ورجال دين! فيها ايه لمّا نزوّد ع الخبر بهرات؟ لكل اللي يشدّ الناس للقناة نوصفه في حلقات، هتقولي المجتمع هيبوظ! ماهو بايظ، والأخلاق هتفسد! ماهي فاسدة، والرّيس هيكرهوه! واللي كانوا مأيّدينه هيلعنوه! مش هيحصل؛ عشان مافيش بديل، الإخوان انكشفوا، والسلفيّين انفضحوا، والحرامية كتروا، ورجال الأعمال اتنفخوا، ومخابرات الأمريكان بيعملولنا تحليل، وتركيا وقطر بالمطاوي بينغّزونا؛ علشان يوقعونا، ودي سياسة النفس الطويل.

انت خايف يا جحا ع السيسي! مش هيقع، ولا عن اللي في دماغه هيرجع؛ عشان الشعب بيحب الجيش، ولو مجّدنا في أعمالهم هينطرونا ومش هناكل عيش، وده آخر الكلام، أمّا الفضيلة والضمير والولاء والانتماء مسئوليّة الحريّة والمواثيق المهنيّة، كل دي أفلام، ومش محتاجة لعلام، في زمن الدولار، واللعب بالحجر، ووشوشة الدّكر.

جحا: اسمع يا سيسي: من هنا بقولك، ومن غير ما اكتب ولا تشكيلي، كلامك سمعته، وجوابي هيوصلّك، فعّل مواد الدّستور، بإيدينا القضا، ومجلس أولياء الأمور، وفعّل ميثاق الشرف؛ اللي في الأدراج متشال، اللي بيستهزؤوا بيه، وبيغنّوه العيال، والتليفزيون اوعى تفكّكه، وإذا كان حبله انفرط؛ جدّده ودكّكه، وافصل ما بين التيوس واللي معاهم فلوس، واللغز حلّه في كتاب الجاسوس على القاموس، واللي موجود خلّي النّقابة تغربلهم، والجاهل فيهم بالأصول تعلّمهم، أمّا اللي زي إخوانا البعدا؛ لازم تستبعدهم.

وأفكرك بحكمة الفلاسفة: «لا تكن لينًا فتعصر، ولا صعبًا فتكسر»، وهدف الأعادي انت عارفه، عاوزينك تبقى في طوعهم، وتسيب الغلابة، اللي أنا واكلهم، اوعى يا سيسي، ده أنا محاميك، وبقولك ما تخافشي؛ ما دام نيتّك للحق خالصة، أنا وكل المصريين بالرّوح نفديك.

 

بقلم: د. عصمت نصار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم