صحيفة المثقف

مفاهيم: الدّولة الناجحة، العالم الإسلامي، المِنْوَالُ المَعَاشي

عادل بن خليفة بالكحلةنحو قاموس جديد للعلوم الإنسانية والتغيير الإجتماعي

الدّولة الناجحة؟

«الدولة الناجحة» هي الدولة القادرة على تأدية وظائفها الأساسية.

كل الدول مطالبة، منذ ظهور الدّولة، بتأمين «النظام والسلام الداخلي، وإقامة العدالة»[1]، ومن ذلك «السهر على احترام السنن»[2] والاستقلال. ولما توسّع الفائض الذي تتحصل عليه الدولة، كلما توسع واجبها في تأمين الخدمات العامّة والأمن والمواصلات والصحة واستدامة الحياة، والنظر في شؤون المستقبل، و«السهر على راحة الرعيّة وكفايتها، والاهتمام بالتعليم العام، وتعبئة الأوقات الخارجة عن العمل (..) والضمانات الاجتماعية»[3]، والترفيه[4]. وتجتهد الدولة الحديثة، على اختلاف أنظمتها السياسية والاقتصادية وأصولها الإبِسْتميّة، فتجتهد في «حماية حضارتها، وتجدّ في نشرها بتشجيعها العلوم والفنون، التي تُسهم في تأمين امتدادها وانتشارها بالتعليم والإعلام»[5].

إن مصادر شرعية الدّولة أن تكون ناجحة، وذلك يعني «موافقة الرأي العام»[6]. ذلك أنّ الدّولة ينبغي أن تكون «قادرة على أن تفرض نفسها حَكَمًا [فوق القوى الداخلية المتنازعة] بفضل ولاية خاصة بها»[7] ذلك «أنّ الديمقراطية تفترض الدّولة»[8].

من معايير الدّولة الناجحة أن تكون قادرة على السيطرة على حِمَويتها، والتعامل بفعّالية وندّية مع الاجتماع الدُّولي. وليس بالضرورة أن تكون ذات مَصَادر مادّية بحِمَاها، ولكنْ يجب بالأقل أن تكون قادرة على توفيرها من الخارج دون أن يتسبب ذلك في تبعيّتها. وليس بالضرورة أن يَكون لها تناصُحٌ عِرْقي أو لغوي أو ديني، ولكنْ يجب أن يكون لها حدّ أدنى من التوافق أو الانسجام بين مكوّناتها

وليست العبرة في حجم البناء القانوني، وإنما في قدرته على اكتساب المشروعية الاجتماعية له ولدولته بما يقدم من استجابات ثقافية أو مَعاشية أو غيرها لأوسع النّاس. وكذلك الأمر للمؤسسات السياسية والمَعاشية.

وذلك بقطع النظر عن مسألة العدالة أو الديمقراطية (حقيقية كانت أو وهميّة أو غير مطلوبة[9]). وبقطع النظر عن أنّ هذا النجاح متأتٍّ عن سلطة نجاحٍ وحدها، أو لوجود معارَضة ملائمة أيضا، فدولة عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك سليمان بن عبد الملك مثلا ما كانت لتكسب نجاحًا لولا اختراق المعارضة الإيجابية للسلطة (سكّ العملة المستقلة، ارتقاء ضبّاط تلك المعارَضة لقيادة الجيش الفتحيّ[10]، تنظيمها لمَعاش مستقلّ عن إكراهات الدّولة الاستبدادية...). ودولة كوبَا ما كانت للتجاوز أزمة انهيار المعسكر السوفياتي لولا مبادرة شعبها، لا مبادَرة السلطة، باتجاه الفلاحة البيولوجية والامتياز المقَارني الدّوائي والطِّبابي وباتجاه الإصرار السّيادي.

ولكن من الأكيد أنّ الدقرطة تزيد مشروعية الدّولة الناجحة قوّة.

كما أننا ينبغي أن نجد فيها القيادة ذات المشروعية الكثيفة الدرجة. فينبغي ان تكون نزيهة، عقلانية،حتى وإن كانت لَدُنِّيَّةٌ ( كارزمية)، قادرة على إدارة الأزمة، بل على إدارة التعارف، وتعبئة موارد الولاية الجماعية ومصادر العدالة بالمقاييس الخصوصية بالزمان والمكان.

مفهوم العالم الإسلامي:

كما اقترنَتْ «الدولة الفاشلة» في الحِموية العربية والحِموية الإسلامية بالليبرالية الكُمْبْرادورية العلمانية، أو المتظاهرة بذلك- بالأقل-، ها نحن نلاحظ اقترانها بالليبرالية الكُمْبْرادُورية المتأسْلمة، أي الرافعة لشعارات «الإسلام هو الحلّ» أي مِلّة[11] تنظيم الإخوان المسلمين العالمي؛ هذا إذا ما لم نعتبر  «دولة» الإسلام الوهّابي المستجدة («الدولة الإسلامية في العراق والشام») دولةً.

ولكننا في الآن نفسه نلاحظ وجود دولٍ في ما يُسمّى «العالَم الإسلامي» نفسه، تُعتبر من صنف «الدولة الناجحة»، من حيث تلبيتُها للشروط الضرورية لوجود الدّولة، بوجوه متقاطعة وأخرى متخالفة أحيانًا، ومِنْ حيث أنها ضمن الدّول الأقل فسادية في العالَم.

ربّما كان من الصعب تعريف «العالم الإسلامي». فهذا دُوپلا نُول يَدْلُف إلى كتابه تاريخ أرض الإسلام دون تعريف محدّد يُمَفْهِمُ دَلالته. إذْ بدأ بـ«نشأة الإسلام ومغزاه الأنثروبولوجي- الجغرافي»، بينما كان عليه- وهو الجغرافيّ أصْلاً- أن يبدأ بالتحديد التَّحْمَويّ وشروطه، أي بتحديد ماهية «أرض الإسلام» قبل الذهاب إلى تاريخها. وهذا المعجم الألماني (معجم العالَم الإسلامي)، وهو من المَعاجم القليلة عن «العالم الإسلامي» لا يبدأ بمقدمة مَفْهَمية لذلك العالم، بل لا نجد إحدى موادّه: «العالَم الإسلامي»[12]. وهذا قاموس الحضارة الإسلامية لإيف تُورَافال، لا نجد في مَوادّه «العالم الإسلامي» ولا ما في معناه تطابقًا أو تجزئةً[13]. وهذا قاموس الشعوب بإدارة جانْ- كْرِيسْتُوف تَامِيِزْييه يُعرّف «مسلمو الفيلپين»، ولكننا لا نجد في موادّه  «المسملون» أو«الشعوب الإسلامية» أو «الشعوب المسلمة» أو «العالم الإسلامي». وهذا ماكس فيبر (وهو من أعظم المتخصصين في علم اجتماع الأديان) لا ينتبه إلى مقولة «العالم الإسلامي». وهذا أنتوني بْلاَكْ، لا ينتبه إليها كذلك رغم أنه من المتخصصين في دراسة الفكر السياسي الإسلامي (الذي احتوى على مقولة «دار الإسلام» على اختلاف مَدْلولاتها من مَدْرسة إسلامية إلى أخرى)[14]. وهذاغِلْنَر يتناول العَالَم الإسلامي أجزاءًا، ولم يُفكّرْ فيه وِحْدةً متنوعة[15].

والأمر نفسه لدى هشام جْعَيّط في: الشخصية العربيّة- الإسلاميّة والمصير العربي، و أزمة الثقافة الإسلاميّة. وهذا مالك بنْ نبي، يكتب وجهة العالَم الإسلامي، ولكنه يبدأ دراسته بـ«مجتمع ما بعد الموحّدين» دون مقدمة مَفْهمية، ويستعمل فيه مصطلح «العالَم الإسلامي» دون أيّ توقف علميّ والأمر نفسه لعالم المستقبليّات مهدي المَنْجرة؛ وكارل بروكلمان صاحب تاريخ الشعوب الإسلامية. وهذا توماس أرنولد، الجغرافي- التاريخيّ على عظمة كتابه الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية[16]، لم ينتبه حتى نهاية بحثه إلى تبلور حِمويّة عالمية إسمها: العالَم الإسلامي.

لم يكن أطلس دول العالم الإسلامي لشوقي أبو خليل، حتى جَمْهَرة[17] موجهةً للأطفال، إذ كان جلّه خرائط تدّعي أنها سياسيّة، ولكنها ليست كذلك إذْ كانت تفتقر إلى العمل الخرائطي العلمي في أطْواره الراهنة، بل حتى أطواره في النصف الأول من القرن العشرين؛ وكان في تعاريفه المدرسية دون مَرْجعيّات؛ متعصبّا كأن المسلمين لا يمكن أن يخطئوا في حق غيرهم أو أن خلافاتهم مع الآخرين لا يمكن أن تكون ملتبسة؛ وكان تمجيديّا مطلقا للتاريخ الإسلامي الأقْطاريّ؛ وكانت أرقامه غير دقيقة، أو بالأقل لم ينبّه إلى اختلاف الإحْصاءات للمسلمين في الدّول التي لا يكونون فيها أكثرية مطلقة[18]...

يُمكننا القول أن العالم الإسلامي هو حِموية ذات عالمية أي ذات وجود قارّي، بل إنه يتجاوز القارّة، إذ نجدها في القارّات الأربع (آسيا، وإفريقيا، وأوروبّا الشرقية، وبقُطرين من القارّة الأمريكيّة: سورينام وغويّانة) بأكثرية مُطلقة أو أكثرية نِسْبية أو بأقليّة كبيرة ذات حِموية جهوية مُعتبرة غالبًا.

إنه عالَمٌ يتمثّل للدينَ الإسلامي بتأويلات متقاطِعةً، تقاطعًا كبيرًا أحيانًا وتقاطعًا نسْبيًّا أحيانًا أخرى، ولكنها يجب أن تتطابق في نهاية الأمر في الألُوهية الوحدانيّة والنبوّة المحمديّة (علاوةً على الإيمان بكل النبوّات) والقِبْلة الواحدة (الكعبة- مكة)، وتتقاطع تقاطعا يكاد يكون تطابقًا في طقْس الصلاة وطقس الصوم وطقس الزكاة وطقس الحجّ. ولذلك كان من السهل أن تنتشر فيه أطروحات الجامعة الإسلامية ونزوعاتها (جمال الدين الأفغالي ومحمد عبده في العروة الوثقى، وعبد العزيز الثعالبي...)، وأن تُعبّئ التضامنيّة باتجاه التطوّع القتالي لتحرير فلسطين من البريطانيين أو من ورثائهم الصهاينة من كامل حِمويات العالَم الإسلامي (بلاد المغرب، الهند، اليمن، السودان...)، ومن الممكن أن يُعاد توجيه تلك النزعة التضامنية لتُصْرف باتجاه العالمية الوهّابية التدميريّة أيضا.

لقد ظهر مصطلحٌ «دار الإسلام»، في العالَمية الإسلامية الأولى[19] ليْعني الحموية ذات الأكثرية المسلمة، أو ذات سيادة لدول مسلمة، أو ذات خضوع لـمدونة قانونيّة تدعي انتماءًا ما للإسلام. وربّما كان مقابله: «دار غير الإسلام» يستطيع فيها المسلم أن يعيش مسالمًا، ملتزمًا بقانونها العام، كما حدث لأصحاب النبيّ في دولة الحبشة بعاصمتها أكسوم حتى في زمان دولته[20]، وكان قد أوماهم بالتزام قانونها لأنّ «ملكها لا يُظلم عند أحد» رغم أنه ليس محمّديًّا دينًا. و لا أظن أن هناك مشروعية تقنينية تعلو على المشروعية المحمّدية- نظريًّا- في الاستنباط القانوني للمسلمين. ولذلك نجد الشهيد الأول يوكّد أنّ دار غير الإسلام قانونيّا «لا يَسكُنُ فيها مسلمٌ إلا مسالمًا»، فلا حق لمسلم في الصلاة في دار غير الإسلام بلباس قد يُثيرُ شكوك سكان تلك الدار[21]. فالمطلوب من دَار الإسلام أن تتمثل ﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ ﴾ (سورة البقرة، الآية 208) في علاقتها بدار غير الإسلام قانونيّا؛ ولو أنّ العرفانيين يرون الكثير من الشعوب مسلمين دون وعي أو «بتحريف»، غير مقصود:

لقد صار قلبي قابلاً  كل صورة

فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

 

وألواح توراة ومصحف قرآن

وفي كل الحالات ينبغي على دار الإسلام أن تلتزم بـ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ (سورة البقرة، الآية 190). فـ«الكافرُ» إنما هو حسب سورة الممتحنة: المعتدي على دين المسلمين أو حِماهُم (=﴿دياركم﴾ أو مالهم : ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿﴾ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ (سورة الممتحنة، الآيتان 8 و9).

وفي كل الحالات ينبغي عدم إكراه الآخرين على الدين المدني الإسلامي، حتى إن كان صاحب السيادة بالدّولة مسلمًا، فقد جاء في التنزيل المدني ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ (البقرة، الآية 255). ولقد كانت السيادة في العراق وإيران ومصر طيلة تحميّة الخلفاء الخمسة الأوائل  للحاكم المسلم، ولكنْ بقيت تلك البلدان ذات أكثرية غير مسلمة حتى القرن الهجري الرابع بالأقل، وكان مُوحّدوا الهند الأوّائل هم العائلة المغولية ولكنهم لم يفرضوا الدين الإسلامي عُنفا.

يضمّ العالم الإسلامي الراهن حوالي 57 دولة (تنتمي رسميّا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي)ـ ذات أكثرية مطلقة أو نسبية أو ذات أقليّة معتبرة ذات حِموية جهوية، معتبرة أو موقع معاشي معتبر[22]، والأهم قبول الأكثرية انتماءًا إلى هذا العالم باسم منظمة المؤتمر الإسلامي، وتمثيل حِمويّته 22% من مجموع اليابسة، بين خطيْ الطول الغربي 61د  والطول الغربي 130د ، وكذلك بين خطيْ العرض الجنوبي 25د والشمالي55د عن خط الاستواء. وتعد غويّانة البلد العضو في منظمة المؤتمر الإسلامي الذي يقع في أقصى الغرب من القارّة الأمريكية وشمال أمريكا الجنوبية، فيما تعتبر أندونيسيا[23] الواقعة في جنوب شرقي آسيا أقصاها في الجهة الشرقية. وقع قازاخستان في أقصى شمال آسيا الوسطى، وتقع الموزمبيق في أقصى جنوب قارّة إفريقيا»[24].

يمكننا القول إنّ العالم الإسلامي هو وَسَط مجموع العالم: ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ﴾ (سورة العاديات، الآية 5). وهذا وإن كان من الممكن أن يكون مَصْدر قوّة سَوقية، فإنه يمكن أن يكون مَصْدر ضعف سوقي حسب الحَوافِّ السَّوْقية لهذه الحِمويّة.

يتميز هذا العالم الإسلامي بالامتداد الواسع للأراضي الجافة والقاحلة، ولكنها الحاملة لأهم القدرات الباطنية والمعدنية في العالم (نفظ، غاز، ذهب، ألماس....)، وتقع أقطاهر في مناطق تتصل بمياه العالم الحرّة، بالمضائق السَّوْقية والبحيرات والأنهار والينابيع الأهم في العالَم. ويحوي هذا العالم الإسلامي عديد الأرخبيلات والجزر وأشباه الجزر، وعديد الغابات الأهم في العالم.

يبلغ عدد سكان العالم الإسلامي 24.8 % كان العالم.

وقد تكوّن هذا العالَم الإسلامي بعوامل متداخلة فأوّل حِمويّاته تكوّنت بفعل طلبٍ من سكان يثرب، لم يلبّه النبيّ إلاّ على 3 مراحل حتى يتأكد من جدّية الطلب اليثربي ويضمن أكثر من ما يمكنُ من المُسلمِيّة اليثربية: العقبة الأولى، فالعقبة الثانية، فإمارة مُصْعب بن عُمير التي دامت حوالي سنتيْن. ثم كانت تحميّة اليمن بطلب يمنيّ، وكذلك تحمية عمان والبحرين. ولما كان «القرار» الاستئصالي، البيزنطي الساني لدولة النبيّ الجزيرية[25]، كان اضطرار التّحمية العسكرية الدفاعية متأسسًا بتبُوك باتجاه الحِمَى الإيراني والحِمى البيزنطي، بأمر استراتيجي (من سورة التوبة الآية 33 والآية 111 مثلا ) وكانت إفريقيا الشرقية (وأهمها: دولة الحبشة) خارج المُرادّة المحمديّة- الراشدية لأنها كانت متضامنة مع حرية الدعوة المحمديّة رغم عدم الإيمان الرسخي بها.

لكن الهيمنة الأمويّة- العباسيّة واغتصابها للكنز الإيراني- البيزنطي نِسبيًّا أو كليّا، أوجد عوامل تنافر، علاوة على عواتمل الجذب تجاه الدين الإسلامي، وبعض شعوب توسّط الجَمْع العالمي اختزنت نوازع الجاذبيّة والتنافر، المتضادة، تجاه الإسلام، بلا وعيها الجمعي[26] . كما أنّ الإكراهات المذهبيّة تركت مثل ذلك من العُقد المتناقضة التي لا يمكن أن تصل مهما كان حجمها إلى حدّ الانفصال عن عروة الإسلام[27]. ولكنها لن تسمح بسهولة تبلور إسلام صحيفة المدينة حديثًا، ولا بتبلور سهّل للإسلام العقل والتسامح والاقتدار الحضاري والمَعاشي والدولة الناجحة.

ونلاحظ الاختلاف العميق بين دول هذا العالم الإسلامي، في الاتجاه السيادي أو عدمه الكمبرادوري، وفي اتجاه التضامنيّة الحقيقية من أجل قطلب عالمي غير منحاز للإمبريالية، وفي وجود مَعاشٍ سيادي أو معاشٍ تبعي، وفي وجود انتحالٍ وفنٍّ ورياضات أصاليّة أو مُتماهية بالمُنتحل الآخريّ بحجم فادح... وهذا ما يترك هذا العالم الإسلامي رهين شبكة ارتباطه القديم بالمركز الإمبريالي، عمومًان دون اقتدار على بناء الدّولة الناجحة، فضلاً عن التضامنيّة الفعّالة باتجاه التكتّل والتبادل بين أجزائه والتأثير في مستقبل العالَم ومنعه من الانقراض المهدَّدية[28].

فكيف أفلتت بعض دول هذا العالم الإسلامي من هذا القدر العامّ

مفهوم المِنْوَالُ المَعَاشي[29]؟

«المِنْوَال» في الأصل مفهوم رياضي. إنّه يعني «ترجمة ملاحظة بهدف تطبيق الأدوات والتّقْنيات والنظريّات الرياضيّة، ثم تعميمًا بالاتجاه المعاكس؛ فترجمةُ النتائج الرياضيّة المتحصّل عليها في شكل توقعات وعمليّات في العالَم الواقعي»[30].

يرتبط المِنوال دائما بما نبْتَغي استنباطُه. فالموضوع الواحد لنْ نعالجه بمنوال وحيد، إذْ سنختلف في وضع تجليّاته الفكرية، وفي اختيارنا، عَزْلَهُ  أو إقحامه في مجموعة، فضلاً عن اختيار قِيَم الثابِتات[31].

وحتى مع تثبيت الغرض، ستختلف المناوِيل بالموضوع الواحد، «حسب الاختيار المُسبق للبيئة الرياضية الصالحة لوصف مجموعة الظواهر».

يُمكن أن نَتّجه من الواقعيّ إلى المنوال (المَناويل الوَصفية)، ويمكن أن نتّجه من المنوال إلى الواقعيّ (المنوال المثاليّ) فيكون المنوال قابلاً لمنح القدرة على تقريب المشكل من منوالٍ قديم.

وتختلف المَناويل حسب النجاعة الإجرائية، وحسب التراتب المَنَاويليّ (المِنوال الابتدائي، المنوال البنائي، المنوال التوليدي...).

يبدأ المِنوال بمساءَلة الوضعية المستقبلية مساءَلةً تعقيديَّة؛ ثمّ يكون تحديد حقل المُشكل بالبحث عن المعطيات المفترضة؛ ثمّ يكون البناء بترشيح اللاّانتظامات وبإعادة تركيب العناصر المفقودة لحفظ تَمَاسُك[32] المجموعة؛ ثم ترشّح جملة القواعد أو المعادلات؛ وفي الأخير يَكون  تَصْديقُ المنوال بتطبيق القواعد على المعطيات بحثا عن الوضعية الأصليّة.

وحسب بِنْوَا لِيفَاسْكْ ، ينبغي أن لا يكون تعريف المنوال المَعَاشي مُدْرَكًا بماهو إطارٌ ثابت، ولكنْ ينبغي أن يكون ذلك «في اتجاه هيئة جامعة عناصر مختلفة حيث التّناصح ناتج عن بناء نظريّ بَعْديّ، مُطابق»[33]  لمنهج النمط المثالي لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر.

وبذلك نجد خمسة عناصر سامحة بتَبيّن المَناويل المَعَاشية: الفاعلون الاجتماعيون (قوى ورؤيةً وسَوْقًا[34]) و«تحالفاتهم من أجل إنشاء كتلة اجتماعية وپرادِغْم مجتمعيّ يمنحه معنىً»[35]؛ ونمط ضَبْط وأشكال وِلاية[36]، ومنها «الموقع المختصّ بالسُّوق أو الدّولة أو المجتمع المدني»؛ ونسق الإنتاج («أشكال تنظيم العمل، والروابط بين المقاوَلات والسياسات الصناعية والمَعاشية)؛ ونسق الخدمات العمومية وإعادة توزيع الخدمات وتنظيمها؛ و«سياسات الاندراج في المَعاش العالَمي».

إنّ المنوال المعَاشي هو نسق مجرّد، وظيفتُهُ تجسيد الحقيقة «بطريقة مبسّطة جدّا، ولكنها مُقَعَّدة»، أو السماح بدراسة ظاهرة واقعية حيث لا يبحث المنوال عن أن يكون واقعيًّا.

ننتظر مِن الجعْل المِنواليّ تعريف المَفاهيم، وتحديد مجموعة مَنْ ينبغي تدخلهم متزامنين، الذين يجعلهم بناء العلاقات النظري متعيّنين وذوي هيئة[37].

مِن الضروري أن يكون المنوال قادرًا على التوقع، مِنْ أجل التحكم في اختيارات الميزانية، وغير ذلك؛ وعلى الصُّورية من أجل تقدير آثار انخفاض ضريبة القيمة المضافة وغيره، أو التحسين، كما أنّ أرْقَمَة[38] العلاقات تسمح بتقييم المتغيّرات الخارجيّة على المتغيّرات الداخليّة.

إنّ المِنوال المَعَاشي بماهو جملة تآويل وأمثلة وترسيمات لتوجيه التنمية المَعاشية، مختلفٌ عن مَنَاوِيل النموّ. فهذه الأخيرة تُهيّأُ مِن أجل مرحلة تنموية محدّدة، في حين أنّ الأولى تَطْلُب «تعديلاتٍ هامَّة، وحتّى حاسمة، وبُنًى اجتماعية- اقتصادية»[39].

إنّ مناويل تنمية المعاش يعني أوّلاً السيرورات التاريخية للتحوّل الاجتماعي والصّعود المعاشي بالعالَم الثالث.

ودون شكّ أن مناويل تنمية المعاش تختلف من إبِسْتِمية إلى أخرى، ومن اختيار بَرَادِغْميّ إلى آخر، سواءًا كُنّا في أرَانات المركز أو كُنَّا في أرانات التّخوم، أو كنّا في أرانات التمتُّع العالَم- ثالثيّ...

 

د.عادل بن خليفة بِالْكَحْلَة

(باحث إناسي، الجامعة التونسية)

........................................

[1] . بوتول (غسطون)، سُسيولوجيا السياسة، منشورات عويدات، بيروت، 1982، ص 38.

[2] . بوتول (غسطون)، م. س، ص 38.

[3] . م. س، ص 42.

[4] . م. س، ص 46.

[5] . م. س، ص 54.

[6] . بوردو (جورج)، الدّولة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1987، ص 142.

[7] . بوردو (جورج)، م. س، ص 142.

[8] . بوردو (جورج)، م. س، ص 142.

[9] . راجع: حاجي نائف (نبيل)،« الدولة الناجحة والدولة الفاشلة»،

[10] . أفضل مثال لذلك: موسى بن نصير وقتيبة بن مسلم الباهلي...

[11] . استعمل ابن خلدون مفهوم الملة بمعنى «الاديولوجيا» فاستعمل مصطلح الملة الأموية

[12] . راجع: كَريزو (كلوس)، وديم (فارْنَر)، ومايِر (هانس جورج)، معجم العالَم الإسلامي، ترجمة جورج كتّورة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1998.

[13] . Thoraval (Yves), Civilisation musulmane, Larousse, Paris, 2001.

[14] . Tamisier (Jean- Christophe), Dictionnaire des peuples, Larousse, Paris, 1998.

[15] . راجع مثلا: بْلاك (أنْتُوني)، الغرب والإسلام: الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، نوفمبر 2012.

[16] . صدرت الطبعة العربية عن مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة عام 1970، رغَم أنه صدر لأوّل مرة عام 1896.

[17] . الجَمْهِرة: Encyclopedie, Encyclopedy.

[18] . أبو خليل (شوقي)، أطلس دول العالم الإسلامي، دار الفكر، دمشق، 2008، (ص19، ص23، ص25، ص27، ص31، ص85، مثلا...).

[19] . العالمية الإسلامية الأولى هي العالميّة (أي التّحمية ذات المدَى القارّي أو ما بعَد القارّي) التي بدأت بتأسيس دولة المدينة لتنتهي بسقوط سيادات الدوّل المسلمة في ما   يسمى العصر الحديث (مِنْدناو تحت الإحتلال الإسباني عدن عام 1880، تونس عام 1881...)

[20] . صفوي (سيد يحيى)، وحدة العالم الإسلامي: أفق المستقبل، المجمّع العالمي، 2010، ص57.

[21] . م. س، ص. 57 أيضا.

[22] . م. س، ص 62 و63.

[23] . أندونيسيا: في الحقيقة: «هِنْدُونيسيا» أي «جزائر الهند»، ولكنها «أُميّة» اللغة العربية المعاصرة!! (انظر:....، هندونيسيا،......، القاهرة، 1967،

[24] . صفوت (سيد يحيى)، م. س، ص. 65.

[25] . أرخت لذلك سورة التّوبة.

[26] . كثرة سبّ الدين وسبّ الجلالة ببلاد المغرب، رغم عمق الإيمان الصوفي بالإسلام فيها، يبيّن أن الزمن الأمويّ الإكراهي لم تحرّر الشخصية المغربية بالتمام من عُقدها.

[27] . راجع: الطالبي كتاب "الصّراع اللاهوتيّ في القيروان، سوتيميديا،تونس،2017؛ وراجع بالكحلة(عادل)، الملة السلفية: التحولات قيد النشر

[28] . انظر مثلا كولبرت( إليزابيث) الانقراض السادس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ....ابريل 2019..

[29] . «المعاش» في استعمال ابن خلدون هو ما نُسميّه اليوم «اقتصاد» ولكنّ مصطلح «اقتصاد» ليس موضوعيّا بل فيه شحنة من إيديولوجيا رأسمالية- فيزيوقراطية؛ فهناك مَعايش«تبذير» و«تبديد» كما هناك مَعَايش «اقتصاد» وترشيد.

[30] . Mathéron (George), Estimer et choisir : Essai sur la pratique Des probabilités,  Ecole nationale supérieure  des mines Paris, 1978,P12.

[31] . الثابتة: مَقادير محدّدة تتوقف عليها دالّة متغيرات مستقلة.

[32] . التماسك Cohérence، وأعلى دَرجاته: التناصح (Homogeneity)

[33] . Bordeleau(Daniele) t autres, « Quel modèle de développement ? », Revue interventions économiques, 29/2002 P.2.

[34] . « السَّوْقُ » في اللّغات الأوروبية: Stratégie, Strategy.

[35] . بُرْدِلو، م. س.

[36] . الولاية: في اللغات الأوروبية:  Gouvernance (راجع استعمال ابن خلدون لهذا المصطلح).

[37]Echaumaison(C-D), Dicionnaire d'économie et de sciences sociales, Nathan Paris,1998,P.285.

[38] . الأرْقَمة: Chiffrement (أمّا «الرقمنة» فلا وُجود لها في القاموس العربي!!)

[39] . م. س.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم