صحيفة المثقف

الاوزان ودوائر العروض

محمد تقي جونيقوم (التوزين الجاهلي) يقوم على استشعار النغم والايقاع، بينما علم العروض يجعل التوزين على مقدار وأوقات الحركات والسكنات. واذا كان الايقاع يحدد نوع الوزن الجاهلي، فعلم العروض يجعل الحركات والسكنات هي المحدد للبحور. ونحن لا نستعمل للشعر الجاهلي مفردة البحر بل الوزن، لان الشاعر الجاهلي كان يتعامل مع الوزن ايقاعا ولم يعرف البحر حركات وسكنات، ومصطلح البحر اوجده الخليل.

يقوم الشاعر الجاهلي باختيار الوزن في ذهنه ثم يكتب عليه الشعر. وهذا جعله أكثر حرية في اختيار الوزن لموضوعه لان العملية تكون سليقية وليست بالتفكير شأن الشعراء العروضيين. كما انه أكثر حرية بالتصرف في الوزن واخضاعه وليس العكس لدى الشعراء الاسلاميين الذي يخضعهم البحر لصرامته. فالوزن الجاهلي اكثر مرونة، والشاعر يتحرك في منطقة صارت فيما بعد ممنوعة ومسيجة بالزحافات التي جعلها علم العروض في اضيق الحدود. وكانت تلك المساحة يجول فيها الشاعر الجاهلي لان المهم عنده هو الابداع. وقد سمى العروض تلك التجاوزات (التزحيف الشديد) و(التخليع). فقول عنترة: " ينبع من ذفري غضوب جسرة" لم يقبلها العروض ففيها تزحيف شديد في (ينبع) فالذي ينسجم مع الوزن العروضي (ينباع) لذا صحح الى ينباع مع العلم ان اللفظة لا معنى لها. وكانت (ينبع) مقبولة في الوزن الجاهلي) لانه لا يقوم على الحركات والسكنات بل على الايقاع.

والاوزان الجاهلية مستقلة الايقاع، يعرفها الشعراء دون مسميات. فالاسماء وضعها الخليل. وقد قام الخليل بلمّ وجمع البحور فجعل بعضها تابعا او مشتقا من بعض، فما عرف بالـ(مخلع) جعله تابعا للبسيط مع اختلاف ايقاعهما بشكل واضح. فأين ايقاع:

بغداد يا قبلة الأسود            يا كعبة المجد والخلود

من  ايقاع:

متى ستعرف كم أهواك يا رجلا      أبيع من اجله الدنيا وما فيها

وكثير من المجزوءات هي في الحقيقة الموسيقية أوزان مستقلة.

أرجع الخليل البحور التي أحصاها وهي ستة عشر بحرا الى خمس دوائر. ولم تكن البحور منسجمة في هذه الدوائر، ولا كانت البحور في الدائرة الواحدة ذات روابط ايقاعية حقيقية بينها، وكأنها أجبرت على الدخول في هذه الدوائر وألقيت في غيابتها القاءً؛ لان الخليل وزع البحور على الدوائر بناء على (التقليب) فيقلب البحر الاول ليخرج منه بحر آخر والبحور التي تنتج من البحر الاول يجعلها في دائرة واحدة. وهذه عملية ساذجة تشبه الى حد بعيد عملية (الجقلمبة) التي يمارسها الاطفال. وقد كانت هذه العملية الساذجة هي المحدد لبحور الدوائر العروضية.

الدائرة الاولى:  اسماها الخليل (المختلف) وبحورها:

الطويل: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلين

المديد: فاعلاتن فاعلن فاعلاتن

البسيط: مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن

ولا رابط ولا تشابه بينها سوى (فاعلن) الشبه والمشترك الوحيد بين المديد والبسيط. ولذا سمى الخليل الدائرة (المختلف) وهي بالفعل في اشد الاختلاف.

الدائرة الثانية (المؤتلف) ولم تكن تستحق اسم المؤتلف؛ فهي متكونة من بحرين فقط هما:

الكامل: متفاعلن متفاعلن متفاعلن

الوافر: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن

الكامل مقلوب الوافر تماما؛ الكامل: 3/2 ثلاث متحركات فساكن، فمتحركان فساكن والوافر عكسه 2/ 3. فأين الائتلاف بين مقلوبين متعاكسين؟

والدائرة الثالثة فقد اسماها الخليل (المجتلب) ولا معنى للمجتلب سوى ان بحورها جلبت كيفما اتفق فلا جامع نغمي بينها:

الهزج: مفاعيلن مفاعيلن

الرجز: مستفعلن مستفعلن مستفعلن

الرمل: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

وهي اشد اختلافا من دائرة المختلف لعدم وجود تفعيلة مشتركة واحدة بين بحورها.

الدائرة الرابعة (المشتبه) وبحورها مختلفة جدا:

السريع: مستفعلن مستفعلن فاعلن

المنسرح: مستفعلن مفعولات مستعلن

الخفيف: فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن

المضارع: مفاعيلن فاعلاتن

المقتضب: مفعلات مستعلن

المجتث: مستفعلن فاعلاتن

فيها اربعة بحور جاهلية وثلاثة بحور مولّدة، وهذا اكبر اختلاف جوهري بينها، وكثير من الشعراء العرب انفوا من الكتابة على البحور المولدة كالمتنبي والمعري. وبدت هذه الدائرة كالخرج الذي يوضع فيه الزائد من الاشياء. وايقاع هذه البحور بعيدة عن بعضها جدا.

أما الدائرة الخامسة (المتفق) فالخليل جعل فيها بحرا واحداً هو (المتقارب) بعد ان استبعد المتدارك حين راضه فلو يروّض ولم تنطبق عليه قواعده. وقد اضافه الاخفش الى العروض. فدائرة المتفق مع من ستتفق وهي من بحر واحد؟!!

ونضيف الى موضوع توزيع البحور على الدوائر، ان الخليل جعل لاغلب البحور تفعيلات نظرية غير موجودة عمليا، ففي الدوائر نجد صورة للبحر وفي الاشعار نجد صورة اخرى. مثل الوافر صورته في الدائرة (مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن) وصورته في الدواوين (مفاعلتن مفاعلتن فعولن) وذهب الخليل الى انها مقطوفة دوما لتكون واقعية.

وهذا يعني ان توزيع الخليل البحور حسب التقليب غير موفق، او في الاقل غير صحيح موسيقيا، بل حتى غير صحيح تفعيلاتيا. واذا كان توزيع البحور المستعملة غير موفق موسيقيا، فان البحور المهملة أكثر بعدا عن التوفيق الموسيقي، وهي  لا موسيقية فيها. وقد حاول الشعراء لاحقا التجربة في الكتابة عليها فلم يفلحوا في كتابة شعر جيد لان موسيقيتها سقيمة.

فيما يخص توزيع البحور، هناك بحور قريبة في ايقاعها، ولكن الخليل فرقها في الدوائر ولم يجمعها في دائرة واحدة. مثلا:

-        السريع والرجز: الفرق بينهما حركة واحدة:

(يرى اسيرا في دواة وكم = سريع)

(يرى اسيرا في دواة أو وكم = رجز)

- الرجز والكامل:

(جادت عليه كل بكر ثرّة = رجز)

(فتركن كل قرارة كالدرهم = كامل) وهما بيت واحد

- الطويل والكامل (اذا جاءت فعولن الاولى تامة والثانية مقبوضة)

(فلا أحزن الله الامير فإنني = طويل)

(لا احزن الله الامير فإنني = كامل

- الهزج ومجزوء الوافر

(فلا كانت ولا كنَّا) يعد هزجا ومجزوء الوافر

- الخفيف والرمل والمديد. اسميتها (البحور الاخوات) لانها تشترك بتفعيلتين وتختلف بتفعيلة واحدة

الخفيف = فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن

الرمل = فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

المديد = فاعلاتن فاعلن فاعلاتن

بالمقابل هناك بحور عدها الخليل مجزوءات بحور اخرى وهي متنافرة اشد التنافر. مثل الطويل ومجزوئه، البسيط ومجزوئه (المخلع). والبحور الصافية التي فيها تفعيلة واحدة تتفق نغمتها مع مجزوءاتها مثل الكامل ومجزوئه والرمل ومجزوئه والمتقارب ومجزوئه.

وبهذا ننتهي الى ان علم العروض لم يتعامل مع الاوزان على اساس الايقاع والنغم، بل التقليبات في التوزيع على الدوائر، والحركات والسكنات في تحديد البحور.

 

أ. د. محمد تقي جون

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم