صحيفة المثقف

مواصفات الحاكم من منظور الأمام علي

قاسم حسين صالح(لمناسبة ذكرى استشهاده)

كنت اكتب دراسة عن علاقة الحاكم بالمحكوم في تاريخ السلطة الأسلامية من الخلافة الراشدية الى سلطة احزاب الاسلام السياسي في العراق، واحتجت لأعرف "مواصفات الحاكم" في السلطة الاسلامية.. فبدات بقراءة مؤلفات الكاتب الكبير احمد امين (ضحى الاسلام باجزاءه الثلاثة) فافادني كثيرا في فهم العقائد والمذاهب الدينية والفصلين الخاصين بالمعتزلة والشيعة.. وانتهيت بما كتبه الراحل المفكر العراقي الكبير حسن العلوي.لكنني وجدت ضالتي فيما اسعى اليه في كتاب نهج البلاغة، وتحديدا في نص وثيقة عهد علي للاشتر النخعي لمّا ولاّه على مصر (وهو اطول عهد واجمع كتبه للمحاسن )، شرح الشيخ محمد عبده، الصفحات 365 الى 382.).

كان الراحل الدكتور شوقي يوسف بهنام (أحد طلبتي)، باحثا علميا جيدا فاتفقنا ان نعتمد اسلوبا علميا للعهد هو تحليل المحتوى (المضمون)، وحددنا اهدافه بثلاثة:

- معرفة القيم السيكولوجية الخاصة بشخصية الحاكم،

- الكشف عن القيم الخاصة بعلاقة (سلوك) الحاكم بالرعية،

- ومقارنة القيم في عهد الأمام علي وما عليها في عهد حكّام أحزاب الآسلام السياسي في العراق.

لماذا القيم؟

كان اختيارنا (للقيم Values) مقصودا، لدورها الرئيس في صناعة الانسان وتحديد سلوكه وتوجيهه، ولأنها في عملها بنا تشبه (داينمو) السيارة.. فكما ترى السيارة تتحرك (وحركتها سلوك) ولا ترى الذي حرّكها (الداينمو) كذلك الانسان، ترى سلوكه ولا ترى (المنظومة القيمية) التي تحرّك هذا السلوك.ولأنها (القيم) نظام متكامل من الاحكام والقواعد الاخلاقية والمعايير يخلقه النظام السياسي والمجتمع في نسق مميز ويعمل على اعطائه اساسا عقليا يستقر في اذهان افراده، ويزودهم بمعنى الحياة والهدف الذي يجمعهم من أجل البقاء، وتكون أشبه بـ" الاسمنت" الذي يربط "طابوق" العمارة، لنتبين بالنتيجة حجم الكارثة الأخلاقية الخفية التي اصابت العراقيين بعد التغيير، ودور الحاكم فيها.. وما يجب القيام به في عهد السيد مصطفى الكاظمي.

دلالات العهد

يتضمن عهد الإمام (ع) لمالك الأشتر النخعي حين ولاّه مصر مجموعة قيم هدف منها تحقيق ما توصل اليه علماء النفس المعاصرون في ثلاث قضايا اساسية:

الأولى: ان يتمثل الحاكم القيم الايجابية في شخصيته بوصفه القدوة التي تتماهى به الرعية وتقلده،

والثانية: ان القيم هي التي تحدد سلوك الحاكم مع الرعية، وهي التي تحدد موقف الرعية منه،

والثالثة: ان القيم هي الرابط الذي يوحّد افراد المجتمع، وبدونها يتهرأ النسيج الاجتماعي وتشيع الكراهية والعنف والعدوان.

فضلا عن ان الأمام اراد لهذا العهد ان يكون وثيقة تستقى منها المباديء التي ينبغي على الحكّام ان يهتدوا بها في كل زمان ومكان.

تحليل النتائج

اجرينا تحليلا احصائيا (للعهد) بجدولين تضمن الأول القيم الخاصة بشخصية الحاكم وكانت (16) قيمة، بينها (تقوى الله واتباع ما أمر به، اختيار أفضل الرعية للحكم، الأستعانة بأهل الخبرة في طلب المشورة، اكرام العلماء ومجالستهم.. وانتهاءا بسعة الصدر وعدم التسرع في اتخاذ القرارات).

وتضمن الثاني القيم الخاصة بسلوك الحاكم مع الرعية وكانت (15) قيمة، بينها: (العدل والانصاف في التعامل، عمارة الأرض، اعتماد مبدأ التدرج الوظيفي، عدم اشعار الرعية بالمنّية، مراقبة دور الحاشية والمتملقين والمنافقين، الأصغاء للعامة من الناس، وانتهاءا بالأبتعاد عن الغضب المؤذي والقسوة).

ولدى المقارنة بين مواصفات الحاكم وسلوكه مع الرعية في عهد الامام علي وبين عهد حكّام احزاب الأسلام السياسي، تبين ان واقع الحال هو بالضد من تلك القيم، وسنكتفي بواحدة تخص الضمير تحديدا، بوصفه الرقيب على افعال الانسان، أو القاضي الذي يحكم بالعدل، أو صوت الله في الانسان.. وفص العقيق في الخاتم الذي اذا نزعته منه صار لا يساوي شيئا.

أقبح الضمائر

مع بشاعة الضمائر الميتة، فأن أقبحها هو خيانة الأمانة التي تخص الناس حين تكون بذمّة حاكم مسؤول عن الرعية، وأوحشها حين يكون هذا الحاكم قياديا في حزب اسلامي، وافجعها حين يعلن هذا الحزب انه يقتدي بالأمام علي.

وللتاريخ فان السيد نوري المالكي يعدّ هو المسؤول الأول عن خيانة الذمة بشهادته الصريحة عبر الفضائيات: (لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لانقلب عاليها سافلها) لأنه كان على يقين بأنه ان كشف الفاسدين من الخصوم فأنهم سيفضحون حيتان فساد من حزبه.

ولم يصغي هو ومن بعده للرعية كما أمر الأمام، ولم يستجيبوا لمطالب المتظاهرين بالأصلاح التي استمرت تظاهراتهم من شباط 2011 الى انتفاضة تشرين/اكتوبر 2019، ولم يكترثوا بما نشرته الصحف من كاريكاتورات ساخرة بمرارة عن وزير هرب بأموال الناس المساكين بما يعادل ميزانية موريتانيا، وموظف كبير يستحرم أخذ الرشوة في الدائرة لأنه صائم، ويطلب من الراشي ان يأتيه بالدبس الى بيته بعد الافطار! .

الحاكم.. سيكولوجيا:

يقدّم العهد مآثر في فلسفة الحكم وسيكولوجية الحاكم. ففي قوله (لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم..)، فانه يطرح مقياسا كاملا للعدالة فيه بعد سيكولوجي هو ان يضع الحاكم نفسه موضع المحكوم، فيكره له ما يكرهه لنفسه. والتقط حقيقة سيكولوجية بثلاث مفردات في قوله (اجتنب ماتنكر أمثاله).. اي عدم فعل ما لا تحب ان يفعله الآخرون بك. ويذكّر الذين جاءوا الى السلطة من داخل الشعب انهم كانوا قبل ذلك يثيرون النقد ضد سيئات الحاكم السابق، فيدعوهم الى ان لا ينسوا مواقعهم النقدية السابقة فيصغوا الى النقد الآتي من القاعدة الشعبية.. وتلك اثمن نصيحة لم يأخذ بها من جاء بهم الشعب الى السلطة بعد التغيير، مع اننا كنّا اطلقناها في (2004 ) وموثقة في كتابنا (الشخصية العراقية بين المظهر والجوهر)لأنهم كانوا لا يستعينون بأهل الخبرة في طلب المشورة ولا يجالسون العلماء، بل انهم احاطوا انفسهم بالذين يقولون لهم ما يحبون ان يسمعوه.. ولهذا كانوا هم الأفشل والأفسد في تاريخ العراق الذي اعتبروه غنيمة لهم فتقاسموه.

دعوة لحكومة السيد الكاظمي

تواجه حكومة السيد مصطفى الكاظمي ملفات صعبة ومعقدة وخطيرة (محاصصة، فساد.. ) ينضوي اخطرها في الملف الأكبر:الفشل في بناء مؤسسات دستورية تحفظ حق المواطن وتعيد هيبة الدولة.

ونرى ان السبب الرئيس لما حصل من خراب ناجم عن الضربات التي سددت للقيم والاخلاق عبر اربعين سنة (1980-2020) بدءا بنظام الطاغية وانتهاءا بنظام المحاصصة.فشيوع الفساد، مثالا، قدم قانونا اجتماعيا خلاصته (اذا زاد عدد الافراد الذين يمارسون تصرّفا يعدّ خزيا، وتساهل القانون في محاسبة مرتكبيه، وعجز الناس عن ايقافه او وجدوا له تبريرا، تحول الى ظاهرة ولم يعد خزيا كما كان).

وعليه فاننا ندعو الى عقد مؤتمر علمي وطني لأعداد أستراتيجية تنفذ بمراحل تستهدف احياء القيم وانعاش الضمير الأخلاقي في ضوء منظور الامام علي في عهده لمالك الأشتر والرؤى الحديثة لعلماء النفس والاجتماع السياسي، فهي الضمانة الأكيدة لتسهيل تحويل العملية السياسية في العراق من سكة المحاصصة الى سكة الدولة المدنية الحديثة.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية، امين عام تجمع عقول.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم