صحيفة المثقف

"أشعار مقاتلة" والمسكوت عنه في الشعر العراقيّ

عبد الاله الياسري"أشعار مقاتلة" هي الجزء الثاني من الأجزاء الثلاثة المتكوِّنة منها(المجموعة الشعريّة الأولى، الطبعة الأولى 1998م)، للشاعر الدكتور جودت القزوينيّ.  وهي تحتوي على ثلاثَ عشرةَ قصيدةً.  تمتدّ من ص109 حتّى ص165 في مجموعته الشعريّة المذكورة. وليس قوله:"مقاتلة"وصفاً مجازيّاً لأشعاره. إنّما ذلك، باعتقادي، وصف حقيقيّ؛ لأنّ الشعر هو فكر مصاغ بأشكال جماليّة متفاوتة كمّاً أو كيفاً، رغم كلّ الأزياء المفهوميّة المتضاربة حول معنى الشعر. والفكرة، وإن كانت مجرّدة، قد تتحوّل إلى قوّة ماديّة فاعلة إجتماعيّاً، إذا آمن بها الإنسان، وعبَّر عنها. وقد يكون فعلها قتالاً كما فعلته "أشعار مقاتلة"التي لاتُصنَّف مع الشعر العراقيّ الحالي، وإن كانت من عصره، لأنَّ معظمه ساكت عن سلطة بني العوجة(**)، وطغيانها..  إِنَّ الشعر العراقيّ لم يسكت تاريخيّاً، عن سلطة الدولة الظالمة، لاقديماً ولاحديثاً؛ بل ظلّ يقاتل ــ على سبيل المثال ــ سلطة بني أميّة بأشعار الكميت بن زيد الأسديّ وغيره، وسلطة بني العبّاس بأشعار دعبل الخزاعيّ وغيره، وسلطة المحتلّ الأجنبيّ بأشعار ثورة العشرين(1920م)، وسلطة العهد الملكيّ بأشعار الرصافيّ والجواهريّ وغيرهما من الشعراء الوطنيّين. وحسْبُنا دماء الشاعرينِ بشّار بن برد والمتنبي، واضطهاد جميع الشعراء العراقيّين المعارضين، دليلاً على استمرار المذهب القتاليّ، في شعر أهل العراق، رغم التضبيب التاريخيّ، بضغط من سلطة الدولة القمعيّة، على حقائق مواقفهم. غير أنّ الشعر العراقيّ الحالي قد سكت عن سلطة العصابة المتسلّطة  على بلدنا العزيز (العراق) منذ عام 1968م. وسبب سكوت الشعراء العراقيّين عنها لايرجع إلى خوفهم من قمعها السلطويّ وحده، لأنّ قمع السلطة للشعراء المعارضين وسيلة مشتركة بين جميع السلطات الأستبداديّة التي حكمت العراق؛ بل يرجع إليه، وإلى سبب آخر:هو انفصال معظم الشعراء العراقيّين المعاصرين عن تراثهم الثقافيّ، وعن قيمهم الوطنيّة والنضاليّة تأثّراً بالثقافة الأوربيّة ـ الأمريكيّة المترجمة، وانسياقاً أعمىً أمام دولار الثقافة النفطيّة. فالسكوت، إذاً، هو القاعدة العامّة؛ لكن لكلّ قاعدة استثناء. والمستثنى من السكوت هو الشعر المعارض للسلطة الأستبداديّة.  وهو شعر قليل جدّاً. والمستثنون من الساكتين خوفاً او طمعاً أو ضياعاً هم بضعة شعراء معارضين. مازالوا يقاتلون في مواقعهم الوطنيّة بذلاً في سبيل الوطن؛ لكنَّ كلّ فرد منهم  يكاد يساوي وحده جيشاً كاملاً، بعد أن ضعفت روح القتال الجماعيّة عند شعراء العراق اليوم، وسكتوا تاركين وراء ظهورهم مسؤولياتهم الوطنيّة والتاريخيّة ــ ورحم الله الشاعر محمد سعيد الحبّوبي الذي لم تمنعه شيخوخته، من حمل السلاح دفاعاً عن وطنه المحتلّ في العشرينيّات ــ ومن ذلك الشعر القليل المستثنى من السكوت "أشعار مقاتلة". ومن أولئك الشعراء المستثنين من الساكتين الشاعر جودت القزوينيّ الذي قلَّت جراته بين الشعراء في مقارعة الحاكمين الظالمين.. لاأريد أن أقوم بعمل نقديّ لتقييمه أو تقييم أشعاره المميّزة معنىً ومبنىً، لأني لست مؤهَّلاً للقيام بمثل هذا العمل الأدبيّ الشاسع؛  لكنّي أريد أن أكشف قيمة قصائده المقاتلة، فأُنبّه إلى أهميّتها الفكريّة والوطنيّة، لأنّها فكّرت بمواجهة سلطة الدولة غير المفكَّر في مواجهتها، والمسكوت عنها في الشعر العراقيّ اليوم.. إنّ سلطة الدولة الحاكمة في العراق مذ ثلاثين ونيّف حتّى يومنا هذا - وهي عصابة مجرمة - اعتبرت كلّ من لم ينخرط من العراقيّيين، في تنظيماتها الأرهابيَّة، معارضاً لها، حيث كانت تقول:"من ليس معنا، فهو ضدّنا". وبناء على هذا الشعار الإرهابيّ، انقسم العراقيّون ــ والشعراء جزء منهم ــ إلى معارضين (ليسوا مع السلطة) كالشاعر جودت القزوينيّ؛ وإلى موالين (مع السلطة) كالشاعر عبد الرزّاق عبد الواحد، وأمثاله من عبيد العصابة الذين عبّر عنهم الشاعر القزوينيّ في قصيدته:"سقط القناع". ص127. قائلاً:

"أَيدٍ تناهبت الرؤوسَ فلم يعدْ * إِلَّا صفيقٌ يمدح الحكَّاما"

وكان المُرتجى من الشعراء العراقيّين المدفوعين إلى المنافي، بأسباب سياسيّة، ألَّا يسكتوا بأَشعارهم عمّن أَخرجهم من بلادهم قسراً، وشرَّدهم في المغتربات؛  لكنّ العكس هو الحاصل، على الرغم من غزارة نتاجهم الشعريّ، وتعدُّد موضوعاتهم التي خاضت أبعد مايخطر في الذهن إلّأ موضوع الحكومة الجائرة في بلدهم العراق. وإذا أشار إلى ذلك بعضهم في هذه القصيدة أو تلك بعبارة ما؛ فهي إشارة لا تكاد تعبّر، في الحقيقة، عن موقف نضاليّ واضح، لأنّها انفعال مؤقّت لموقف جزئيّ من السلطة الظالمة.. إنّ هذا المسكوت عنه، في الشعر العراقيّ الحالي، واللامفكَّر فيه، احتلَّ المساحة كلَّها في"اشعار مقاتلة"للشاعر القزوينيّ؛ ليُشكِّل موقفاً كلّيّاً ثابتاً، قد أَكسب قصائده خصائص فكريّة ونضاليَّة، يفتقر إليها الشعر العراقيّ في المنافي.  أَذكر منها: أوّلاًـ تناولُ رأس السلطة (صدّام) وحزبه (البعث) صراحة، دون تردّد أو تهيّب، ودون أيّ حساب؛ لأنَّ الحسابات هي من شأن التجّار المصلحيّين لا الشعراء المقاتلين. إذ يقول فيه:

"أَصدّام ياعـــورةَ الكائنـاتِ * وياصوتَ عاهرِها المُخجلِ

تعرَّشتَ فوق جماجـمِ شعبٍ * يُكبَّــلُ في عقلِــــك المُقفــلِ

فيا أَسوءَ النـاسِ من معشــرٍ* يعيشون بالكونِ من معـزلِ

خسئتَ فلستَ ببـالــغ قصـدٍ * ودرب الشـهــادة منّي ولي"

ص113. من قصيدة"أتيناك يا أرضنا". ويقول فيه أَيضاً:

"وياربيـب الخنـا لو كنـتَ ذا غِيَـرٍ* مااستعبدتك بوادي الغرب أَسيـادُ

إلى العروبـــة تُنمى ياابن زائفــةٍ * وأنـت للعهــرِ قد لفَّتـــك أَجــــدادُ

صدّام لا دار طهـر قد تركت ولا * بيتاً به ـ من ثقات الخلق ـ عبّـادُ"

ص159. من قصيدة "حديث الجراح". ومن قوله فيه كذلك:

"نصَّبك القدر الملعون رئيساً

وأَكفّ الغرب على ظهركْ.

وجماجم شعب ترفع كرسيَّكْ

أحفر ذاكرتي مبتعداً عن اخباركْ"

ص123. من قصيدة"هذا جسرك يابغداد".  ومما يقول في حزبه:

"بَيْنَا يسـوسُ العـربَ فَـدْمٌ أَحمقٌ * تركَ العروبــةَ هيكلاً وحطاما

يشوي الوجوهَ على مذابحِ بعثــه * ويرشّ أَفياءَ العــراق حِمامـا"

ص127. من قصيدة"سقط القناع".

ثانياً ــ تبنِّي مصلحة الجماعة المظلومة في العراق. وتتجلَّى قيمة هذا الموقف وأهميّته الوطنيّة، إذا قورن بشعر المنفى العراقيّ الذي لا يكاد يعبّر معظمه اليوم إِلاّ عن الهموم الذاتيّة والأحلام النرجسيّة. ومن شعر القزوينيّ في هذا الإتجاه الغيريّ قوله:

"وطنٌ تقاسمت اللئام ترابَه * فغدا ثكالى أَهلُه ويتامَى"

ص127. من قصيدة"سقط المتاع". وقوله:

"فتعالي تفحّصي كلَّ شبرٍ* من أَراضيك يا ضحايا العراق"

ص117. من قصيدة"مرثاة الشهيد". وقوله أيضاً:

"لم يهدأْ الجرح فالثأر الطويل لنا * وليس يجهل جرحاً من يعانيهِ"

لاحظ ضمير الجماعة في قوله"لنا". ص117. من قصيدة "مرثاة

الشهيد" نفسها مع اختلاف القافية. وقوله كذلك:

"آلافٌ في الوطن المجروح يعيشون بلا فمْ وآلافٌ من غير لسانْ"

ص123. من قصيدة"هذا جسرك يا بغداد".  ومن قوله البيت الآتي:

"دعْ ذكرَ بغداد إن لم تنتفض خجلاً * حتّى تُردَّ لأهلينا الكراماتُ"

لاحظ ثانية ضمير الجماعة في قوله"أهلينا"تأكيداً على المصلحة الإجتماعيّة العامّة. ص137. من قصيدة"مرثاة الشهيدة بنت الهدى".

ثالثاً ــ تمجيد الشهداء والثوّار، والإقتداء بسيرهم البطوليّة في سبيل الحقّ والعدالة. وقد خصَّ بعضهم بقصائد مطوَّلة تشيد بمواقفهم البطوليّة ضد الظلم والطغيان. وتؤكّد خلودهم الأبديّ. وممّا يعبّر عن بطولات بعضهم قوله:

"إنّي رأَيتك صقراً كيفما اتجهتْ *  له البغاث قويّاً ليس ينهزمُ"

وقوله في القصيدة نفسها:

"فكان رأسك مرفوعاً بهامته * وفوق راسهمُ تعلو لك القدمُ"

ص164. من قصيدة "في موكب الشهادة". ومما يعبّر عن خلودهم قوله أيضاً:

"خسأَ البعث أنت مازلت سيفاً * تهب الخلقَ ثورةً كفَّاكا"

ص155.  من قصيدة "الإبحار في أفق الدم".

لقد تجاوز الشاعر القزوينيّ في قصائده هذه، مفهومي الموت والحياة السطحيين، مؤكّداً عمق حياة الشهيد بموته، وعمق موت الطاغية بحياته. ومن تعبيره عن هذا المعنى قوله في الشهيد:

"هل أنت متَّ؟قتيلٌ فَتَّ قاتلَه * فأنت حيٌّ، وإنَّ الميّتين همُ"

ص164. من قصيدة "في موكب الشهادة".

رابعاً ــ الدعوة إلى الثورة والتضحية من أجلها، لتغيير الواقع أملاً بحياة فضلى. وممَّا يدلّ على هذه الفكرة الثوريّة، وما يتمخّض عنها من عواقب، قوله:

"كما لاح بـرقٌ فلُحْ للجهــادِ * فقــد آنَ للظلـــم، أنْ ينجلي

تقدَّم أَخا الحرب بين اللهيب * وسـدِّدْ رصاصك للمقتــلِ

تقـدَّمْ تقـدَّم فكــلُّ الطلائـــــع * تهفو إلى سيـرك

الأمثـلِ"

ص113. من قصيدة"أتيناك يا أرضنا". ومثله قوله:

"فاطبق على زمرة الكفّـار منتقماً * واقطع عن الأرض رجساً من أياديهِ

وليـس تُـربُــك محميَّـاً بمعجــــزةٍ * إنْ لــم تكنْ كفّـك الخضبـــاء تحميهِ"

ص117. من قصيدة "مرثاة الشهيد".

في هذه الخصائص الأساسيّة الأربع، التي يمكن تلخيصها بـ(معارضة السلطة،  والتزام مصلحة الجماعة، وتمجيد الثورة والشهادة، والتضحية حتى الخلاص)، تتجلّى أَهميَّة"اشعار مقاتلة" للشاعر القزوينيّ مقارنةً بنرجسيَّة غالبيَّة الشعر العراقيّ في المنافي حالياً.. إنَّ معارضة الشاعر الوطنيّ القزوينيّ للسلطة الإرهابيّة المتسلّطة على وطنه العراق بشعره الجرئ حقاً، ليست تدخّلاً منه في الشأن السياسيّ، أو رغبةً في المشاكسة الفنيّة؛ بل هي حالة طبيعيّة من حالات دفاع الكائن البشريّ عن جوهر وجوده، حيث جوهر وجود الإنسان يكمن في أنّه كائن مفكّر، وفي أنّه يعبّر عمّا يفكّر فيه. وعندما تريد سلطة مستبدّة من إنسان مفكّر أن يكون معها أي أن يتنازل عن عقله بمفهومها السلطويّ، ليفكّر بعقلها هي؛ فلابدّ أن يعارضها ويحتجّ عليها تأكيداً لوجوده وكينونته البشريّة، لأنّها تريد أن تصادر كنه حياته وقيمته الإنسانيّة، وتجعله يقبل موته. وإذا كان الخضوع لها هو الموت عينه، فإنّ الإحتجاج عليها هو الحياة عينها، لأنّ في الأحتجاج دليلاً على استمرار التفكير وقدرة الإنسان على التعبير عنه.. وهذا المعنى هو مادلّت عليه قصائد"أشعار مقاتلة". وهو ردّ فعل طبيعيّ للشاعر الإنسان (القزوينيّ). ولكلّ عراقيّ يشعر أنّه إنسان موجود وله قيمة في الحياة، لكن غير الطبيعيّ هو أن يسكت الشعراء العراقيّون في المنافى على من شرّدهم وظلم شعبهم وخرّب بلادهم. وسكوت الشعراء العراقيّين في الخارج حالة عجيبة تحتاج إلى دراسات في علم التحليل النفسيّ لكشف أسرارها. أقول هذا إضافة إلى أنّها ، أي "أشعار مقاتلة"، تغري المتلقّي بالثورة على الظلم والطغيان مؤكّدة أنَّ الحياة في التضحية والشهادة كلتيهما، لأنّهما هما طريق الخلاص الوحيدة، لتغيير الواقع العراقيّ بما هو أمثل. كما أنّها تسهم  بتأسيس شعر عراقيّ معارض في المنفى تعبيراً عن كلّ حرّ اضطرّ إلى الغربة رافضاً قيود العبوديّة وذلّها في بلاده؛ وعن كلّ معارض حقيقيّ ملجوم الفم، كما أشار لذلك الشاعرّ بقوله:

"فصرت أحمل للأوطان حنجرتي * لمّا تلجّمت الإفصاحَ أفواهُ"

ص148، من قصيدة "صلة الشهيد"

والمُنتظَر، أخيراً، من النقّاد والباحثين أن يولوا اهتماماً خاصّاً للشعر العراقيّ المعارض السلطة الإرهابيّة التي خرّبت البلاد. ولعلّ في محاولتي هذه تحفيزاً وتحريكاً للأقلام النقديّة الساكنة؛ لتسليط الأضواء على ما يستحقّ الأهتمام من أدب المنافي وادبائها العراقيّين الأحرار الذين لم يخضعوا لسلطة الدولة وإرهابها المنظّم..

 

عبدالإله الياسري

...............................

* هذه مقالة جزئيَّة، عن شعر جودت القزوينيّ (1953م ــ 7/4/2020م). نشرتُها قبل تسعةَ عشرَ عاماً، في جريدة "المنبر"الورقيّة،  لندن  بريطانيا،  العدد 77،  صفر1422ه/ أيّار2001م.  وماكنت لأُعيد نشرَها اليوم، لولا رغبتي في إحياء اربعينيّته حبَّاً ووفاء.

** العوجة:مكان ولادة رئيس العراق السابق صدّام حسين. وهي قرية في محافظة صلاح الدين العراقيّة.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم