صحيفة المثقف

زهير الدجيلي.. ما أشق خطف القداح!!

جمال العتابيكنا على أجنحة رغبة وإبتهالات غريبة على خيالات هوى بعيدة، نجوب شوارع بستان مدينة الحرية، تأخذنا الخطوات في المساء نحو (الساقية)، لنسمع أغنية أنت عمري، فتختلج اللوعة في أصداء المقهى، نودع الأصدقاء ونروح في الليل نبحث عن زاوية نداوي فيها خواء الجيوب، ما أحلى أن ترجع طفلاً تتمدد على البساط الأخضر الندي لثيل ساحة عدن، كل ما فيها يغوينا، (هذه الساحة كانت ملعباً لشبابينا وكانت مرتعا)، أعمدة النور المتوهجة، من خلفها إستعادات عذبة لكل ما في شوارع محلة النواب وبساتينها، وهي تدخل في منطقة الظل الأليف مساء، كنا نلهو، ونلعب، ونتحايل أهلنا اننا نراجع دروسنا أيام الامتحانات.

القادم الجديد الى الساحة مختلف تماما، ليس منا نحن المدّعين بالمذاكرة، ولا من اؤلئك الذين يزجون الوقت في التسلي، أو هو من الجوالين البسطاء لبيع (الحَب) المحمص أو الآيس كريم، أطل علينا القادم يطوي عن عيون الناس صوته، بما يحملنا على التساؤل، كل ما يحيط به يدعونا لذلك، بعد ان كنا لاهين عنه، إختار موقعه في الطرف الأقرب إلى سكة القطار، كان قد بدا أشد وضوحاً وتألقاً ، لم نكن نتعرف على إسمه بعد، لكن عرفنا على أي أرض يقف، وترك فينا أثراً لاينسى منذ لحظات اللقاء الأولى.

قدّم لنا نفسه، انه (عبود البيدر)، بعد أن  غادر حذره وتوجساته، وشعوره بالإطمئنان لنمط تفكيرنا وتوجهاتنا السياسية ،حينذاك كنا نتابع بإهتمام وإعجاب ما يكتبه البيدر في عموده الإسبوعي بجريدة صوت العمال، قبل ان نتعرف عليه، الجريدة  تصدر عن اتحاد نقابات العمال، ويرأس تحريرها هاشم علي محسن، كانت فضاءً إتسع للأقلام المعارضة للنظام العارفي، في ظل هامش من الحرية، وتخفيف قيود الرقابة على الصحافة بعد هزيمة حزيران عام ١٩٦٧، كتابات (عبود البيدر) فيها جديدة ومثيرة، بلغة لم يألفها الوسط السياسي والصحفي، بإسلوب أقرب الى نبض الشارع، بعقلية نقدية ذكية مختلفة عن السائد والتقليدي في الكتابة، فكان ظاهرة بحق إنسجمت مع ذات مبدعها، كنا نشعر بالزهو اننا نعرف (ابو هدف) من؟ وإمتيازنا اننا أصدقاء هذا الكاتب الصادم المعلن عن موهبة ستأتي.

الواقع السياسي أنذاك ينذر بأحداث دراماتيكية، في ظل أجواء دسائس المؤامرات والإنقلابات لسرقة السلطة من جديد، ومشحوناً بالتوتر والقلق من صعود اليسار العراقي، ولا سيما بعد فوزه في الإنتخابات الطلابية الجامعية، فأرعب هذا الفوز القوى المضادة، وحفزها لتلملم نفسها،  وتتنازل عن هويتها (الوطنية) المعلنة، وتسرع بالقفز الى السلطة بمعاونة اطراف مخابراتية إقليمية ودولية.

لم يعد سراً ان يكشف لنا ابو هدف عن إسمه الحقيقي، بعد أن تقاسمنا الهوى المقيم فينا معاً، انه الكاتب اللامع والشاعر زهير الدجيلي.

مازلنا حتى بعد انقلاب تموز ٦٨، نلتمّ على بخار ساخن يلهث بالحزن والإبتهال، كان كالريحانة يجمعنا ويسقينا، نقضم حبات الباقلاء مثل كرز حلو من يديه، يترصدنا خوف، ويتقمصنا قلق من أيام مقبلات، نغامر بقراءة المنشورات السرية، ويوصينا أن نحفظ العهد معها.

كان إختياراً صعباً لما يحمله من عذابات وألم، إكتفى زهير بالطرق على الحديد، والحفر على الصخر، ويالها من مهنة شاقة ان تدفع بجسدك النحيل عربة كانت وديعة معك، رفيقة بروحك الترفة، وتعرف انك تعشق الزهر وقداح المشمش.

كنت شامخاً ومتسامياً، ومؤهلاً ان تروي لنا الحكايات والأغاني هات لنا ما عندك يا صديقنا؟ نعلم انك صابر وتتحدى المعاناة العراقية التي مازالت مثقلة بالحزن والبكاء، بعد أن أهرق المغول قرابين دم، وشنقوا البلاد بسيوفهم الظمأى للموت، نعرف يازهير انك تريد أن تستريح، فالشيب غزاك مبكراً، وفي ظاهر كفيك رجفة في العروق، وجهشة في نبرة الصوت ما تزال تئن ، ماذا تبقى لديك؟ عدساتك السميكة تحجب عنا وسع عينيك، وتخفي وراءها أعباء الألم! دعنا نسترجع المعاناة والهواجس التي عشتها! بمذاقها الصعب والمر، بعد تجربة سياسية نلت منها مانلت، فإخترت الأصعب.

نعم يا أصدقائي، يقول زهير: كنت وما زلت أحمل مشروعاً كبيراً للحب، ولكنني أخفقت في إبلاغه الى نهاية الطريق، آثرت ان أستريح من كثافة ما رأيت وسمعت! هي أمنية أن نزرع وردة الآن، بعد أن زرعوا الدمار في البيوت والرعب والمشانق، وتكدّسَ الابناء والأصدقاء على عتباتها، غير اني ما انتهيت، ها انا أكابد من ضجر الوقت، كأني ابحث عن بلاد ضاعت، وأهرب من قاتل يتوعدني.

اعذروني أصدقائي : رياض، رشاد، جمال، عما أسلفت من قول مزجته بمرارة الحزن، ها انا اراوغ نفسي من طعم مرارة السجن الذي أثقل خطاي، ومازلت أتذكر السور وحراسه، بوابة الحبس وقيد السجان، كم من شاعر أوحت له تلك الأيام المثقلة بمدونات السجناء على الجدران، ما أوحت من الشعر؟

هذا هو أنا (ابو هدف)، لم ينطفىء الأمل في عينيّ المتعبتين، ولم أستسلم للخوف في الطرقات. وكفى!

دعنا يا زهير ان نقول ان كلماتك لم تعد قادرة على ان تترع حروفها بكل ذلك الدفق العصوف من الحب القاهر والمقهور، صمتّ كثيراً، وها انت المغني لم تكف عن الشدو، ولا أشرعتك البيض ناخت أمام الريح، مازلت تطارد فراشات الأمل الملونة، ماكنا ندري انك تشهد آخر أحلامك في البلاد، وتغادرها، ما أشق السفر والأفق غائم؟!

كل ماكنته انت، أوكنته قد نأى عن يدينا، كل تلك الدروب الظليلة والحكايا القصار ضاعت، فما أمرّ الضياع؟ وأنت طائر الحزن الذي غنى للأهل! يرقد الليلة مجروح الربابة، فلا ديار توقظ السلام والأخبار، حتى ولا (أحّاه يا ديرة هلي) تبدد عتمة الغياب.

هناك في البعيد كتبت قصائدك، والبلاد غابت عن شواطئها (الطيور الطايرة)، من يردّ لنا تلك الطيور، ويعيد ساعات الصبح مثل ملاك جميل؟ من يستعيد رائحة الكصايب على المتون؟ في زمن لوثته رائحة البارود، من قتل قداح المشمش غير سم الأفاعي؟

أعرف ان هواك هنا ياابو خد وخد، ! ليس عدلاً ان تنام هناك! فالورد ذابل في الدروب.. بعد ان غادرها فرح العمر،

وانت كل العمر

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم