صحيفة المثقف

ما يَظهرُ أمامَكَ هُوَ احتمالٌ مُختلفٌ لوُجودكَ

احمد بلحاج اية وارهامسألني أبي في أحدِ الصباحات الصيفية المُنسَلَّة من كُوةِ الفجرِ أن أُرافقَه إلى الحقلِ للسقي، فتململتُ، وقلت له:

- أريد أن أنام، لم يَطْلعِ النهارُ بعدُ يا أبي.

- إنْ طلعَ سيكون كل مجهودنا في الحقل قد ضاع، ألا تعْلم أن الشمس في مثل هذا الوقت إذا سبقَتْك إلى حقلكَ أكلتْ رزقك، فانهضْ لتُنقذَ رزقك من العطَش الذي يُهَدده بالموت.

تثاءبتُ، وتمطَّيتُ، وادَّعيتُ التعبَ، والخدرَ في رِجلَيَّ، فسَحَب عني الغطاء، وزَمجَر بغيظٍ:

- كسَلُك فَقرُكَ، ورفضُك طريقُ عذابك.ألا تَدْري يا ولدي أن الرفض هو الخِبرةُ الأشدُّ إيلاماً في أية علاقة، وهو المَسلَك الذي يجعل الآخرين رافضين لنا، ويَجعلُنا نحن كذلك نرفُض أنفسَنا في السِّرِّ.

- حياتُنا كلها يا أبي مبنيةٌ على الرفض، فمنذ أن نستيقظ إلى أن ننام ونحن ننشغل برفضِ ما نراه في الحياة، وما تُقدِّمه لنا بسخاءٍ من أطباقِ الشقاء والمَلَلِ، ألا ترى أن هذا قمِين بالرفض والكُره؟!

- بل هو جديرٌ بالتأمُّل والتفكُّر، لكونه يُمِدُّنا بسيلٍ غزيرٍ من الخبرات، نَقبَل بعضه، ونرفض بعضه الآخر، وبَيْن خَطَّيِ القبولِ والرفضِ تَظهَرُ قدرةُ العقل وقوته، وقد صدَق حكماءُ الأرض حينَ وصفوا الرفضَ بأنه داءُ العقل، فهل تَقبَل أنت لعقلك هذا الوصف؟!.

حمْلَقتُ فيه باستغرابٍ، إذ لم أعتدْ منه مثل هذا الكلام في السابق.ونهضتُ حاملاً أدوات السقي، مُديراً تفكيري فيما قاله لي، لا في الطريق.فهل حقا إذا فصَلنا ما نُحبُّ عمَّا لا نُحِبُّ نكون قد أدخلنا عقلَنا في داءٍ؟! أليس الحب والكره من تركيبتنا النفسية؟!فلِمَ يَمْرَض العقلُ إذا فصلَ الحبَّ عن الكره؟!فمِن الطبيعي أن نُحب شيئا، ونكره شيئا آخر، نختار هذا ونرفض ذاك، نُعجَب بالغنيِّ المتشامخِ، ونَنْفر من الفقير المتشرِّدِ، ونُنَصِّبُ أنفُسَنا حُكَّاماً على الحياة كلها، بدون أن نتَوقَّف لنسألَ عقولنا:مَن نحن لنحكُمَ على أيِّ مخلوقٍ بما تُمليه علينا نوازعنا؟هل يُمْكِن أن يَبْلُغ جهلُنا مَبْلَغَ الحُكْم برفضِ هذا العالَم المَمْنُوح لنا لنُحبَّه، والمصطخِب حولنا لنتعلَّم فيه كيف نعيش بإرادتنا؟وهل مُنِح لنا لنُعاملَه بقسوةٍ وفظاظةٍ؟! أم وُهِبَ لنا لنَعتَنيَ به كي يبُثَّ نُوراً في قلوبنا، وسعادة في جوانحنا؟! لا أُماري في أن أسلوب السلوك المعتاد معه لن يتغيَّر إلا إذا غيَّرْنا نفوسنا.فالنفْس هي الأرض التي تُبْنَى عليها بيوتُ الحياة، وإذا صحَّتْ أُسُسُ البيوت وأركانُها صحَّتْ معها كذلك العلاقاتُ، فعندما نلتقي بشخصٍ ما فظٍّ، أوْ صاخبٍ، أوبغيضٍ، أو مُعْتَدٍّ بما ليس فيه، فلن نُحاولَ التخلُّصَ منه، بل سنفتَحُ له فرصةَ الضيافةِ في بيوتنا لأنها نظيفةٌ ومَتينةٌ، وسنَقْبَله، ونكونُ معه بكل جوارحنَا كما هو تماماً، لكونه جزءاً من الحياة، لا عِبْءاً عليها.وبهذا نكُون قد عثَرْنا على وجودنا الحقيقي، وقُمْنا بمنعِ الفصْلِ بين ما نُحبُّ وبين ما لا نُحبُّ، وبِوَأْدِ أفكارنا السلبيةِ التي تحثُّنا على رفضِ أفكارِ الآخرين، إذْ لا علاقةَ للألَمِ الذي قد يأتي إلينا من علاقةٍ مَا بالآخرين، بل هو أمرٌ استضافَه عقلُنا، وما يُصيبنا من مُعاناةٍ فنحْن مَن نَتَسبَّبُ فيه حين نفصل بين ما نحب وما لا نحب، فَعمَلية الفصلِ هاته هي التي تَقتُل كل أشكال العلاقات، سواء أكانت مع أنفسنا أم مع الغير.

سمعتُ هاتفا في داخلي يُرَدِّدُ:

- ها أنت تسيرُ على خُطَى أبيكَ، وتَحْذُوها حَذْوَ القُدَّةِ بالقُدَّةِ.

- وماذا في ذلك؟! ألَيس هو الأصلُ الذي يتَحمَّل حماقاتي غُصناً وفَرْعاً مُغتبِطاً بذاته؟

بِصوتٍ داخليٍّ خفيضٍ أجَبْتُه، واستمررتُ؛ وأنا أسقي الزروعَ والأشجار بالماء المتدفق من الساقية في الأثلام والأحواض بنَغمةٍ متماهيةٍ مع نغمات الطيور المنتشيَّة بالضُّحى؛ في غمْسِ أفكاري في الماء إسوةً بغمسِ بعض الأطيار مناقيرَها فيه، فاتضَحَ لي بعد هذا الغمسِ أن لا شيءَ عشوائيٌّ في الوجود، فكل ما فيه مُوحَّدٌ ضِمْنِيّاً من الداخلِ، ووحْدتُه الداخليةُ الطبيعيةُ هاته لا نراها، ولكنها متأصِّلَةٌ في داخلنا كذلك.ومن ثمةَ فإن التناقضات الموجودةَ في الحياة ما هي إلا قطارٌ نركبُهُ بعزمٍ، ونَسِيرُ مُتَقبِّلين كل ما يحدثُ، ومُتحمِّلينَ مسؤوليتنا عن دَوْرِنا في كيفيةِ تَقبُّلِنا للآخرين، واستجابتِنا لهم، والتفاعلِ معهم، فهم بُعْدُنا الآخَر الذي لا نكُون إلا به، وحينمَا نَرفُض هذا البُعْد نسقطُ في نارِ العزْلةِ، وجَلِيدِ الوحدةِ، ونَظُنُّ؛والظن مِرجلُ الكُره؛ أن هناك خطأً ما في كل شخصٍ نُقابلُه، أو نَحْتكُّ به، وأنه ينبغي أن نُصْلِحَه، وأنْ نُغيِّره، قاذفين في النسيان الحِكمةَ التي تقول بملء فيها:(لا تَسْعَ خلْفَ تَقْويمِ غيرِك فتَنْدَمَ، بل اسعَ خلْف تَقْويمِ نفْسِكَ تَحْظَ برِضَا الوجود، فالآخَرُ فيكَ، وأنانيتُكَ تُسْقِطُ عليه أخطاءَكَ، فتحسبها أخطاءَهُ)، صامِّين السمعَ عنها.فبدلاً من إلقاء المسؤوليةِ على الآخرين افتحْ ذراعيكَ، واحضنْهم حتى ولو وصلتْك من بعضهم أَذِيَّةٌ مَا، فالأذية قد تكُون مَعبَراً إلى الحبّ

(إنِّي أُحِبُّ الهوى، والحبُّ يهواني

شيءٌ خُصِصْتُ به فما لنا ثانِ

فلستُ أعرفُ طعْمَ الصَّدِّ فيه ولا

طعمَ الفراقِ ولا ما طعمَ هجراني

لأنه طالبٌ يبغي مُواصَلَتي

ولو تُناسِبُه فليس ينساني

فكيف أَعرِفُ طعمَ البينِ وهْو لنا

عينُ الأساسِ الذي أشادَ بُنياني

فما يُنازِعُني لكنْ يُوافقني

إنَّ المُحِبَّ الذي في الحبِّ يهواني

وليس يُمكنُه إلا مُواصلتي

فالله أبلاه بي كما قد أبلاني

به فنحن وإِيَّاه على قَلَتٍ

لأنني في الهوى، والحِبِّ مِثْلَانِ

بل عينُنا عينُهُ فما نُغَايِرُه

والمِثْلُ غيرٌ، فسِرُّ القول بُرهاني

ولا اتصَفتُ بملهوفٍ ولا شحَطٍ

على حبيبٍ نَأَى ولا بغَيْرانِ

أصبحْتُ واحدَ عصري في الهوى ولذا

جهِلْتُ ما فيه من نقْصٍ ورُجحانٍ)*

وسترى كم هُمْ سيكونون ممنونينَ لك بالتدفُّؤِ بشمسِ قلبك.فكلنا متَّحِدُون من حيث الأساسُ ، وكلنا رفقاءُ سَفَرٍ على هذه الحياة الواضحة الغامضة، فأيُّ شيءٍ يظهرُ أمامنا منها فما هو إلا وجهٌ آخرُ لنا، واحتمالٌ مُختلفٌ آخرُ لوجودنا، فلِمَ إذن نُشقِي نفوسنا بمقاومته؟!ولِمَ نَصعَدُ سُلَّمَ الرفضِ حين يتأَتَّى لنا صعودُ سُلَّمِ الفضولِ الذي هو الاستجابةُ الفضلى؟وسواء أردنا أم لم نُرد ذلك فإن الحياةَ بزخمها وقوتها ستُساعدنا من تلقاء ذاتها على العبور إلى الأصوبِ، وستُعْفينا من البحث عن الأخطاء خارجَ ذواتنا، فنحن مَهْما تَعدَّدتْ حالاتُنا وأخطاؤُنا، فلن نَخرجَ عن الرقمِ واحدٍ؛الذي يحتوي كل الناس.

لعلَّني كنتُ أُفكرُ بصوتٍ عالٍ، صاعدٍ في كلِّ ما حولي، وكنتُ أقراُ الوجوهَ في ظلالِ الأشياءِ المُمْتدَّةِ أمامي، حين غَمَرني ظلُّ أبي فرأيتُ فيهِ وجهاً غير ذاك الذي أخرجَني من جَنَّة النومِ إلى عذاب اليقظَةِ، رأَيتُ فيه شَيْبةً تَبْتسِمُ، وتُومِئُ لي أَنْ أدنوَ منها، وحينَ اقتربتُ، قالتْ بفرَحٍ طفوليٍّ:

- أرَى أنك قد نضجتَ، وأنَّ اتساخَك بالوحَلِ قد نَوَّرَكَ، وأنَّ سَيرَك مع الماءِ قد زادك مَعرفةً.فأن نَقْبلَ الاتساخَ بالوَحل باعتباره جُزءاً من الأرض طبِيعيّاً، وأن نَسيرَ مع الماء بوصفه قَلْبَ الحياةِ، فمعنى ذلك أننا أحرارٌ، لا يُعِزُّنا الإعجابُ، ولا يُذِلُّنا عدَمُه، ولا يَستعبِدُنا التعَلُّقُ بشيءٍ.

- أتقولُ هذا، وأنت نبضُك من نبضِ الأرضِ، إن تخلَّيتَ عنها تَكُون قد تَخلَّيتَ عن روحك؟!.

- فرقٌ كبيرٌ يا بُنَيَّ بين التعلُّق والتخَّلِّي، فالأولُ يَسرِقُكَ من ذاتك لتكون عبدَه، والثاني يُعلِّمُكَ كيف تَستقلُّ بذاتك بعيداً عنه حين تتبدَّل خُطواتُ الزمن، فالتعلُّقُ رِقٌّ، والتخلِّى جُرأَةُ عقلٍ كبيرٍ.

- أهُناكَ عقل كبيرٌ، وآخر صغيرٌ؟

- بالطبع، فالصغير هو الذي يَدور في دائرة أنانيتِه، ودوافعِه الخاصة، و لا يتحمَّلُ مسؤوليةَ نفسِه إلا بكسلٍ ومشقَّةٍ، لأنه لم يتطور، أما الكبير فعلى عكسه.

ـ وكيف نُطوِّر العقل ليَصير كبيرا؟.

- نُطَوِّرُه عندما نتَحمَّل المسؤوليةَ الكاملة عن كل شيءٍ يَبرُزُ في حياتنا، فلا نختار شيئا، ونرفضُ آخر، فالحب البشري، والعلاقات البشرية متقلبةٌ بطبيعتها، فما كان أبيض منها قد يصير أسودَ، وما كان أسودَ قد يصير أبيضَ، فأحيانا قد نحبُّ شخصاً ما إلى أقصى حدٍّ، ثم ما نلبثُ؛حينما يأتي بفعلٍ نكرهُهُ؛أن يَذْهب حُبنا له فجأةً، كأَنْ لم يَكُنْ، ويَحلُّ محلَّه التوجُّس والشكُّ واللاَّحُبُّ، ولحظةً فلحظَةً نراه عدوّاً لا حبيباً سابقاً.فنحن في الحياة نَسيرُ على سِكتَيِ الحبِّ والكرهِ كالقطارِ، سعداءَ وغير سعداء، والسعيدُ منا هو ذاك الذي يستعمل عقلَه الكبيرَ، فيسيرُ على سكةٍ واحدةٍ عكسَ القطارِ، وهي سكة الحبِّ.وهذا النوع من العقل لا نَعرِفَ قيمتَه إلا حين نتقَدَّمُ في السنِّ، وتَشربُ السنواتُ ماءَ شهواتنا، ولا يبقَى منا سوى كلامٍ تُشرِقُ منه الشمسُ لِمَنْ ينُوشُه الظلام من كل الجهات.

ألقَى لي هذا، وغفَا تحت صَنوبرةٍ كطفلٍ ظلَّلهُ اللُّطْفُ، فتَخلَّص من الألمِ، واستغرقَ في كونٍ من الراحة بَهِيٍّ، يَرى فيه نفسَه قد قَبِلتْ تجاربَ حياتِه كلَّها، وسمَح لها بأن تَصهرَه وفق مشيئةِ السموِّ الروحيِّ الذي لا تَصدُر منه ذَرَّةُ كُرهٍ لأيِّ كائنٍ.

حَمَلتُ أدوات السقيِ بعدَ لَأْيٍ، واسْتَلقيتٌ بجانبِ أبي مُحدِّثاً نفْسي كمَمْسُوسٍ:(عندما ينمو فينا حبٌّ، فلا شكَّ أننا سنُصبحُ آباءً وأُمَّهاتٍ لأنفُسنا، وللآخرين، لأن العقل الذي يَسْكُننا، لا يَلومُ، ولا يَكره، ولا يجعلُ كائناً فوقَ كائنٍ، فهو مع كل الكائنات بالحب.

 

أحمد بلحاج آية وارهام

..................................

* ابن العربي: الديوان الكبير، تحقيق ودراسة وتعليق:عبد الإله بن عرفة، ط1، منشورات دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت 2018م، 371، 370/4.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم