صحيفة المثقف

هل يوجد مثقفٌ عضوي بين ظهرانينا؟

جواد غلومأكاد أشبّه مثقفنا اليوم بوسطنا الإعلامي والثقافي بحالة ديك القرية المتبختر المنفوش الريش  في القصة التي أوردها هنا بهذه المقالة بإيجاز فهي تمثّل وضع رجل الثقافة وإحساسه بأهميته ودوره الذي يُخيّل اليه انه المحرّك الرئيس لعجلة الحياة الثقافية وربما السياسية؛ ولولاه لجفّ ضرع الوعي وانحسر أثر الثقافة وساد الجهل في عقولنا – أو هكذا يتوهم --، يذكّرني هذا الحال الغريب بما قاله الشاعر الالمانيّ تيودور فونتانا  من ان الديك يظنّ ان الشمس تؤذن بالشروق طيّعة مستكينة حالما تسمع صوته .

هذه قصة متداولة أسردها سريعاً يعرفها الجميع وطالما قصصناها حتى على أطفالنا عظةً وعبرةً لكن لابد من التذكير بها لأنها تتطابق تماما مع الحالة التي نعيشها الآن :

يُروى ان ديك القرية الجميل الطلعة، ذا العُرف الأحمر القاني، الشجيّ الصوت برياشه الحمر الزاهية التي نبتت في انحاء جسمه قد أصابه الغرور حينما رأى الناس تصحو على صوته اول الصباح وتشمّر عن سواعدها إيذانا بيوم جميل، وكلٌ ذاهب الى عمله نشيطا معافى يملؤه العزم على مواصلة الحياة فهذا الفلاّح امسك بأدواته وبدأ يحرث ارضه وذاك العامل تفحّص آلته للبدء بتشغيلها وبدا الطالب حازما حقيبته الملأى بالكتب والقرطاسية متجها بهمة عالية الى مدرسته لينهل العلم ويغذي عقله بالمعرفة .

أحسّ الديك بالخيلاء وقال في سرّه: لولاي لما تحرك هؤلاء الناس الى اعمالهم ومزارعهم ومعاهدهم فانا الصائح المحكي الذي يوقظهم . وقرر في اليوم التالي ان يسكت عن الصداح ظنّا منه انه سوف يشلّ حركة الجموع ويُبقي الناس نياما ولا احد سيتجه الى عمله فرحا مسرورا .

 انتظرَ حتى يجيء الصباح ولم يصدح ولكنه تفاجأ بان القوم سارعوا في النهوض كعادتهم فخاب امله حين رأى الجموع تتجه الى اعمالهم ومصالحهم كعادتهم في كل صباح جديد، فعاد كئيبا الى قِنِّهِ محاولا ان يعيد النظر بقراره الخائب .

أسوق هذه المقدمة وانا أرثي لحال أدبائنا ومثقفينا الذين يتصوّرون انهم المحرّك الأساس لنهوض ونماء ورقيّ مجتمعنا ولا يدري هذا المثقف ان صوته المبحوح قد خفتَ صفيرُه وذبلت أوتاره؛ فالحيّ لم يعد يستمع لصوته امام ألسن شيوخ القبائل وزعماء الطوائف ورجال الدين الهائجين على منابرهم ورجال السياسة المنتفخي الاوداج العازفين على اوتار الخلافات المقيتة " العقائدية والعنصرية والحزبية " والتي أقولها بكل أسف انها بدأت تطرب الحشود في مجتمعنا الواهن الفكر، وصار الملأ يمدّ الرقاب اليها فضولا ليستمع الى سيّده الشيخ وممتهن الدين وأخذت الاعناق تشرئب الى اصواتهم اصغاءً . والمضحك المبكي ان مثقفنا المسكين قد وَرَمتْ حنجرته من العويل والصياح حتى شُلّ لسانه ولا احد يسمع ما يقول حتى سكن صوته تبرّماً وتشتت سامعوه متفرقين عنه وتركوه واصطفوا الى جانب ذاك السياسي الطائفي والشوفيني القومي والقبلي الذي يشدّ الأسماع ويلهب القلوب ويهيج النفوس والعقول والقلوب .

مسكين صديقنا المثقف، ترى ما الذي سيفعله امام هذه السيول الطائفية العمياء والاصطفاف المذهبي والعشائرية التي تكتسحنا والتي اؤكد انها ستجرفنا الى هاوية سحيقة سيكون من الصعب ارتقاؤها لو دامت في نفوسنا ومشاعرنا بمثل هذا الشكل الذي نراه الان .

هل ثمة مثقف عضوي يستطيع الان الثبات في ارض آيلةٍ للخسف؟ أقولها بملء فمي: لا، على الأقلّ في الوقت الحاضر مادامت الصراعات المذهبية الفجّة قائمة وتتغذى حدّ الاشباع والتخمة من اناس يسمونهم قادة لكتل سياسية ودينية تعتاش على تلك النفايات الفكرية التي نبذتها المجتمعات المدنية المتحضّرة منذ أمَدٍ طويل والتي ما عادت تشكّل بضاعة رائجة الاّ في بلادنا المبتلية بتلك النماذج المنتفعة بآلامنا وهمومنا الكثيرة .

لو كان وزير الإعلام النازي "غوبلز" بين ظهرانينا الآن لأشارَ دون ان يتردد لحظة واحدة حينما يذكر اسم مثقفنا اللاعضوي: كلما ذكر اسم المثقف العربي لمددتُ يدي الى مؤخرتي استهزاءً وتصغيرا.

حقاً إن أخفتَ الأصوات لصوتُ المثقف طالما رهن صوته بأموال هذا السياسي او ذاك المتملق المتصيّد للمناصب وصار بوقا يزمّر لتوجهات ساسة وممولين تبعا لما يقدمون له من مال ووظيفة وجاه وحظوة تدرّ عليه ثراءً وبروزا وحينما ينتهي دوره ويعتلي السياسي مركزه الذي يحلم به  يرمي هذا المثقف في حاوية النفايات كأية سلعة بخسة انتهى استعمالها .

وقد يعيد هذا المثقف التقليدي الأخرق ترتيب نفسه ليبحث عن طريقة استجداء اخرى  وتملّق مموّل آخر او سياسي طامع ويعمل على تزويقه إعلاميا ويجهد في صقل وسنفرةِ جلده الأجرب عسى ان تناله حظوة مالية ثانية ومركز مرموق وهكذا دواليك وتراه يدور ويدور أينما كان رزقه وحيثما يجد دبقَهُ، اما هموم شعبه ومعاناة أهله ومواطنيه فلتذهب الى الجحيم وفق منظوره النفعي البراجماتي .

هذا هو المثقف التقليدي البائس عندنا وما أكثرهم الان، إذ لا يوجد مثقف عضوي في ساحتنا الثقافية وإلاّ لتخلصنا من الكثير من ساسة الصدفة التافهين وانكشف حال الانتهازيين وصائدي الفرص واللاعبين على الحبال من بهلوانيي السياسة والكومبرادوريين العملاء الذين أوهنوا اقتصادنا وحطموا الحرفية العراقية وأفقروا شعبنا الغني بخطلهم الاقتصادي وفقرهم الفكري؛ وكل ذلك بسبب مهادنة المثقف والإعلامي السافل لهؤلاء وضعفه أمام إغراءاتهم .

وكما يقال في الفنّ: هاتِ لي مسرحا راقيا متقدما أعطيك شعبا مثقفا؛ نقول هاتِ لنا مثقفين عضويين شجعان أضمن لك وعياً جماهيريا ناضجا وتغييراً سياسيا واختيارا لنخبة مبدعة كفوءة في كل ميادين النشاط الاقتصادي والتنموي وغيرها وحتما ستأخذ ببلادنا نحو مناحي الازدهار نحو الأفضل .

 

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم