صحيفة المثقف

التصوف: هَدْمِ الزَّعَامَات

مجدي ابراهيمزعماء الإصلاح في العالم العربي على اختلاف توجهاتهم ومنازعهم هم أكثر الذين نقدوا النزعات الصوفية وعدّوها من حواجز التقدّم باعتبار الفكرة الصوفية عندهم على وجه العموم كانت تمثل عائق تقدّم، وأن تخلف الأمم مرهون بالولاء لهذه الفكرة. وتقدّمها في الغالب مُقرَّر في مقاومتها ومقاومة كل من يدين لها بالولاء. ومع ذلك؛ لم يكن البعد الإصلاحي في التصوف على وجه العموم بغائب عن عناية هؤلاء الزعماء؛ لأنه قائم بين محاولاتهم الإصلاحية، قادر على مجاراة أنشطتهم الفكرية والروحية، وبخاصّة في مجال التربية والإصلاح.

ولم تكن حركة التنوير العربية التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي برفاعة رافع الطهطاوي (1801 - 1873م) ومن خلال ما تلاه من رموز الفكر الإصلاحي امتداداً للقرن العشرين، هؤلاء الذين قدموا لأمتهم العربية أصوب الآراء وأدق القضايا وأشدّها خطراً على المستويين : الداخلي والخارجي بالتي تتجاهل البعد الإصلاحي في التصوف على التعميم. ولم تكن كتابات جمال الدين الأفغاني (1839- 1897م)، وعبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م), في الربط بين الفكر والسياسة، وفي مجال الإصلاح السياسي على وجه الخصوص تخلو من التبتل العميق الذي يكشف جوهر التصوف في الروح والنيّة قبل أن تكشفه في السلوك والطريق. ولم تخلو مجمل الآراء الإصلاحية التي قدّمها الشيخ محمد عبده (1849- 1905م)، أو قاسم أمين (1863-1908م)، أو محمد إقبال (1873 - 1938م)، أو الشيخ مصطفي عبد الرازق (1885- 1947م)، أو أحمد أمين (1886 - 1954م)، أو المفكر المصلح الجزائري عبد الحميد بن باديس (1889 - 1940م)، أو الأستاذ عباس محمود العقاد (1889 - 1964)، أو طه حسين (1889 - 1973م)، أو غيرهم من كبار المفكرين والمصلحين الذين يعلمون عن الإصلاح ومداخله الكثير والكثير ويدرؤون الفساد بالتفكير الدائم في قيم الثقافة والتعليم والحضارة والتقدّم وممارسة الخُلق الرفيع من نقود عارمة عنيفة للتصوف السلبي ومع ذلك يبرز فيها بعد روحي أقوى ما يكون تصوفاً وخلوصاً من ناحية النزوع إلى الإصلاح والتربية والتعليم.

فهؤلاء المصلحون هم في الواقع كانوا خيرة عقول الأمة، ولا زالت آراؤهم تنير لنا الطريق في الثقافة الإسلامية والتربية الروحية وإصلاح الباطن قبل الظاهر، والجوهر والمضمون قبل الأشكال والأعراض، وكل هذا تصوف لا غبار عليه. ونحن في هذا المقال نكشف عن بعدٍ حيوي في التصوف لا يمكن في تقديرنا إغفاله بوجه من الوجوه، هو من القيمة الحقيقية الفاعلة من قيم التصوف يلزم لرجل الروح كما يلزم للرجل الفكر سواء.

ولا جَرَمَ كانت أهداف التصوف متمثلة في الدعوة الإصلاحية؛ وهى لا تزال في الغالب هدف التصوف الأوْحَد من ناحيته الاجتماعية لدى طلابه الحقيقيين ممَّن يعرفون له قدراً واقتداراً، لا يريدون سوى الإصلاح ما استطاعوا إلى الإصلاح سبيلاً. فلن يكون هناك تصوف بالمعنى الحقيقي لكلمة تصوف ما لم يكن هدفه هو إثراء البعد الاجتماعي الذي يتجسَّد في التربية والإصلاح؛ وهذا ما قام به شيوخ التصوف الكبار على وجه الإجمال: إصلاح الإنسان في بعده الروحي : إصلاحه بالكلمة، وبالفكرة، وبالتصرُّف، وبالسلوك، من طريق الدعوة إلى الله متمثلاً قوله تعالى:" أَدْعُو إلىَ سَبِيِلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ". فالدعوة إلى الله بالحكمة إنما هى كلمة حق تخرج من لسان صدق هادفة إلى الإصلاح والتقويم والتهذيب ولها من الغايات أجَلَّها وأقصدها حين تخلص لله في سبيلها ولا تنتظر من خلقه شيئاً قلَّ أو كثر؛ فمثل هذا الانتظار فيه "زعامة" زائفة يتطلع أصحابها من طريق الدين إلى مجد زائل ومطالب دنيوية، يبتغون من وراء الدعوة الخالصة في سبيل الله أن يكون لهم حظهم الدنيوي يتفاخرون به ويفتخرون، وهذا الأمر بعيدٌ عن حظيرة التصوف بإطلاق.

هاهنا لابد لنا من وقفة نَعْرض فيها سلبيات الداعين إلى الله من طريق أنفسهم لا من طريق الله! فإن التَّوجه إلى الله لا يُفْرَضَ بإرادة البشر فرضاً قسْرِيَّاً مُكْرهاً بما يفهمه البشر من منهج الله : فَهْمُ البشر لمنهج الله شيء، وإرادة الله لهم شيء آخر .. العناية الإلهية فوق مستطاع البشر جميعاً : فوق إرادتهم، وفوق فهمهم من تلك الإرادة .. ماذا عساهم يريدون؟ وفوق أوْهَامهم التي يتصورنها عن الله، بحيث صَوَّرَت لهم خيالاتهم الفاسدة أنهم يدافعون عن الله، وهى كذلك فوق آمالهم وظنونهم التي يتوجهون بها إلى الله. إنما الذين يطلبون "الزعامة الدينية"، يتمركزون حول ذواتهم، ويطلبون أهواءَهم من طريق الدعوة، ويريدون رؤية أنفسهم في غير ما ينظرون إلى الحقيقة من وراء تعاليم الإسلام.

إنما الإسلامُ في حِلِّ عن الأشخاص. مهما كان هؤلاء الأشخاص وأينما كانوا : أعرف الحق تعرف أهله؛ ولا تعرف الحق بالرجال؛ فإن معرفة الحق بالرجال فيها من النكوص والبطلان ما يؤخِّرها عن رتبة المعرفة الحقة؛ لاختلاف الأهواء والتَصورات ومواطن القوة لديهم، ومواطن الضعف.

لا تعرف حقاً قط على ألسنة الرجال بل أعرف الحق من الحق أولاً تعرف أهله .. وتمادي في العرفان ! ليس كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص، ولا كل شخص يستقلُ في نفسه بالإحاطة بالعلوم؛ وليس كل إنسان في مستطاعه أن يدرك الحقيقة المجرَّدة عن نزغةِ الهوى؛ ولا كل إنسان بمقدوره أن ينظر إلى الواقع الفكري والثقافي للعقل الدعوى نظرة الذين يفكرون ويعقلون ما هم يفكرون فيه، ولا كل إنسان بقادر على أن يكون من أولئك الذين يرون الأشياء بالله من خَلف حجاب السبب؛ لكنما هى مواهب وقدرات تتصل بتكوين العقل وإحاطة القلب بنور المعرفة في غير عوائق أو حُجُبْ.

ومن أجل ذلك، قال الإمام علي بن أبي طالب - رضى الله عنه :" لا تعرف الحق بالرجال؛ أعرف الحق تعرف أهله ".

وأهل الحق يأخذون الحق من الحق لا يحيدون عنه، ويأنفون من أخذ الباطل ولا يطيقون استطالته وطغيانه. ومن هنا؛ فينبغي معرفة الشيء في ذاته بعيداً عن خُزَعْبَلات الأشخاص، ومن هنا أيضاً، فأغلب الذين يَدْعُون إلى الإسلام اليوم - إلا مَنْ رَحمَ رَبُّكَ - ممَّن نراهم على شاشات الفضائيات؛ أو في ساحات الميادين والمنابر والطرقات، ويعقدون من أجل الدعوة أحكم المؤتمرات وأحشدها ويعبِّرون في وداعة (!!) عن "العقل الدعوى"؛ يدعون له وهم في الواقع يدعون لأنفسهم ولمصالحهم ليعبدهم الناس بدلاً من عبادة الله. إنما يريدون أن يكتسبوا المكانة الاجتماعية، وربما ما هو فوق المكانة الاجتماعية أيضاً؛ بمثل هذه الدعوات التي لا تدلُّ على الحقيقة أو تدعو إليها بل تحتكرها !

والزعامة الدينية لا تنهض دليلاً على الإخلاص في الدعوة. ومداخل الشيطان ومساربه وحظوظ الهوى ومطالبه وفتنة الدنيا وتسرب ذلك إلى نفوس الداعين إلى الله؛ أخطر وأدق من أن يتنبّه إليها أحَدُ إلا في أقل القليل النادر. واكتساب الزعامات الدينية فضلاً عن كونها تسيء إلى صحيح الإسلام فهى تقدح في نية طالبها فضلاً عن قدحها مباشرة في التوحيد، وفي وعي صاحبها بهذا الدين : رُوُحُهُ وخطابُه وتبليغه بهذه الروح وبذاك الخطاب!

وما يقال عن هدم التصوف للزعامات، يقالُ بنفس الدرجة وأقوى منها عن هدمه للكهانات.

وفي الحق؛ قد كشفت أدبيات القدماء عن مثل هذه الزعامات المتسلطة؛ إذْ كانوا يتنبَّهون إلى فعل الأهواء والمطامع والأغراض والمصالح فيها جيداً، ربما أكثر مما نتنبَّه نحن إليها اليوم، مع تطور الزمن وشدّة الادعاءات فيه. وكان الإمام أبو حامد الغزالي أحد هؤلاء الكبار الذين أفاضوا في الجزء الثالث من "الإحياء" في شرح تلك السدود والحواجز والقيود؛ ووجوب رفع تراكم الحُجُب التي تقف حائلاً منيعاً بين العبد والوصول إلى الحق؛ مما ليس ينحصر هنا تحديداً إلا في إشارات.

فهناك - كما قال - زعامة "الرياسة"، وهناك زعامة "الجاه"، وهنالك زعامة  "المنصب"، وهنالك زعامة "السلطة". لا ريب كانت هذه الزعامات يشملها جميعاً مفهوم العلو، والتعالي، المجموع في التقدير القرآني تعبيراً بقوله تعالى:" تلك الدَّارُ الآخِرَةِ نَجْعَلهَا للَّذِيِنَ لا يُرِيدُونَ عُلوَّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً، وَالعَاقِبَة للمُتَقِينَ ".

هذا العلو هو في بعض التخريجات يعني : النظر إلى النفس. أمّا الفساد؛ فيَعني النظر إلى الدنيا، والأمن من المكر والكبر والعجب.

وأصل ذلك كله الجهل، وليس الجهل هنا بالطبع جهلاً بالعلم، لا .. فقد يكون الإنسان عالماً ولكنه في هذا الموطن بصفة خاصة هو من أجهل الجاهلين. الجهل هنا جهلُ بالنفس، ثم جهل بالله؛ مع كون الجاهلُ عالماً من حملة الشهادات البرَّاقة واللافتات العلميّة الكبرى ممّا من شأنه أن يخطف العين ويُذْهب البصر, غير أنه يعدُّ جاهلاً مادام علمه لم يتحوَّل إدرَاكِيَّاً إلى علم بالجهل. فالعلماء بالله على هذا؛ هم علماء بجهلهم؛ أي هم الذين يدركون جهل أنفسهم عن أن تصل إلى "حقيقة الحقائق"، أو حتى ما دونها، ناهيك عن احتكارها أو امتلاكها، فضلاً عن التعبير عنها بعد العلم بها. الأمر الذي ينفي صفة العلم عمَنْ يدعيه وهو على هذه الحالة.

فأمّا الذين يعلمون ويقولون مع شدة الادِّعاء إننا علماء فهم جهلاء على التحقيق. وعن الجهل يكون الكبر لا محالة وطلب العز في الدنيا، والعلو في الأرض، والتَلهُّف على السلطة والاستبداد بها، وحرمان الغير منها ولو على سبيل المشاركة.

وطلب العز في الناس هو الذي يتولد منه العُجْب. فالوصول إلى قرب الله تعالى؛ وإلى مراتب دُنوِّه كما نبَّه عليه سبحانه في الآية الكريمة، لا يكون مطلقاً لمن له حب "الزعامة": رياسة، وجاهاً، وسلطة، ومنصباً، ونفوذاً ... وأترك لك أن تعدِّدَ أنت أنواع الزعامات التي تلاقيها في نفوس البشر ممَّن يحيطون بك وألوان الاستبداد بها! وهو كذلك لا يكون مطلقاً لمن تمكن حبّ هذا كله أو بعضه من قلبه.  وإنما يكون لمن حذف هذه الآفات المُمْرضة عن قلبه ولم يباشر حظوظ نفسه وهواه، ولم يخضع لمصالحه ومطامعه وأغراضه فيما يتوجَّه به إلى خالقه، هنالك يَخُصُّه الله بالدرجات الشريفة والسعادات الدائمة فلم تعد تأتي منه إذْ ذَاكَ أفعال الخبيثين.

الدين لله لا للأشخاص والجماهير العريضة وقطاعات وفيرة منها في الغالب، تقدِّس الأشخاص الذين يتحدثون في الدين من حيث لا يشعرون بألوان الخطابات الطاعنة في الدين نفسه، شَعَروا بذلك أم لم يشعروا، وتُلْبِسَهُم أثواب القداسة لمجرد أنهم يتكلمون عن الله ورسوله؛ فيما لو مسَّت دعوة الداعي مشاعرهم، وذلك لأنها جماعات تنزع إلى المحسوس في كل ما ترى وفي كل ما تحسّ وتشعر، فتتخذ من الداعين إلى الله مكاناً للتجسيد القبيح؛ ليتسلط الداعي بعدها تسلطاً بغيضاً من حيث لا يشعر فتتحول الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة على يديه إلى سُلطة، وتتحول الموعظة الحسنة إلى سياط يعلو قلوب الناس وعقولهم لا إلى رحمة للعالمين!

إنه الإرهاب ! الإرهاب بكل ما تحمله الكلمة من وَقْعِ كريه على المشاعر الإنسانية النبيلة : إرهابُ المشاعر والأفكار، وإرهابُ الضمائر والقلوب، وإرهابُ الطمأنينة النفسية وأمان الاستقرار، وما أكثر الذين يُرْهبون الناس - بالفكر والواقع -  فيرتكبون على شاشات الفضائيات جرائم بشعة في أبواب الفتاوى تارة أو تحت ستار الفكر الإسلامي تارة أخرى، وفي عناوين وشارات كلها ترتكبُ باسم الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ والدعوة إلى سبيل الله منها براء ..!

إذا كانت الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة قاعدةً أساسيةً لا يرتاب فيها مؤمن مُصَدِّق بهذا الدين؛ فإنها تُنْتَكس - لولا أن الله يحفظ سبيله - على أيدي أولئك الذين يُعَبِّرون عن أنفسهم واتجاهاتهم وأنماط تفكيرهم وزعاماتهم من خلالها، ويريدون أن يمتلكوا الحقيقة من خلالها .. ولا حقيقة عندهم إلا فيما يقولون ويعبرون ..! إنّ الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ليست منهجاً مُغلقاً ولا هى بالأسلوب الأوحد الذي لا يعرف التغيير والتبديل وفق ظروف حياتية ومستجدات واقعية وتقلبات نفسية وتطورات معاشة في الواقع العملي، وإنما هى منهجُ مفتوحُ، ليس بجامد ولا هو بالمغلق، بَصِيرٌ بالواقع وبالناس، وبَصِيرٌ بالدنيا وبالأحداث؛ لأنه منهج قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، وفوق ذلك كله، بَصِيرٌ بالله، وينبغي أن يكون صاحبه على الدوام بَصِيراً بالله.

والبَصَرُ بالله إخلاصٌ لله وحده في الحلِّ والترْحَال؛ في القول والفعل؛ في الحركة والسكون؛ في النشاط والخمول، في كل شيء، في كل شيء بغير استثناء، وحقيقٌ بالبصير بالله أن يكون مخلصاً إخلاصاً لله وحده لا شريك له، ولا شيء غير ذلك؛ ففي هذا الإخلاص بصرُ بالله وبصرُ بالناس. وليس معنى البصر بطبيعة البشر أن يتخلىَ المنهج عن روحه، وعن خصوصياته، وأن يستجيب لتقلبات الأهواء البشرية، بل معناه المقصود هنا هو الاستيعاب، والاحتواء، وامتصاص السَّقطات البشرية تحت ديدن الإخلاص لله : شرط النشاط الإنساني كله. فأي تفريط في دين الله في نفس الداعية هو انتكاسة عَقَدِيِّة قبل أن تكون خُلقيِّة : انتكاسة تستوجب التوبة وتقتضي من صاحبها ضروب الحذر والتَّوَقِّي.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم