صحيفة المثقف

المستبد العادل بين الفقهاء والفلاسفة

عصمت نصارلقد زعم العديد من المستشرقين أن البيئة البدويّة التي نشأ فيها الإسلام بما فيها من تعصب وصراع قبلي، قد انعكست بدورها على السياسة الشرعية. إذ جعلت معيار اختيار الحاكم هو القوة والشوكة، وجعلت المستبد العادل هو الحاكم الأفضل في الحكومة الإسلامية، كما أوجبت على الرعية السمع والطاعة له باعتباره ظل الله على الأرض وخليفة النبي المنوط بنشر الدين الإسلامي طوعا أو قهراُ، كما أن السياسة الشرعية قد جعلت لذلك الحاكم اليد العليا دون شريك في تسييس البلاد واختيار الأعوان من الوزراء والقضاة والجند والشرطة.

وحسبنا هنا أن نوضح الأمر وإثبات تهافت هذه الادعاءات؛ فحديثهم عن البيئة البدوية ومنطق البقاء للأقوى هو في الحقيقة سنة، لم يخل منها مجتمع في رحلة انتقاله من طور البداوة إلى طور التمدن، ولعل اعتناق العرب للإسلام هو الذي عجّل بطور التحضر والسلام بين القبائل ثم تشييد أعظم حضارة في التاريخ.

أمّا تفضيل المسلمين في السياسة الشرعية لصاحب الشوكة؛ فإنّ هذا يتناسب مع الطور الذي نشأت فيه دولتهم، فلا يجوز أن تقام دولة بين إمبراطوريتين عظميّين "الفرس والروم" لهما تاريخ حافل في المعارك والحروب، ولا تعلن عن بأسها وقوتها العسكرية، كما أن شرط القوة أو الشوكة يأتي ضمن المعايير التي يختار بمقتضاها الحاكم أي أن القوة ليست هي المعيار الأوحد.

أما مصطلح المستبد العادل فقد استخدم في سياق إجرائي ففهم خطأ، فالمستبد في معناه  اللغوي الصحيح هو الشخص الذي يأخذ الشيء ولا يتركه إلا بعد تمامه، وليس المستبد المنفرد بالرأي الراديكالي الإيطاحي الفاشي الذي لا يحترم آراء الآخرين ولا ينصت إلا لنفسه كما هو الحال في المصطلح السياسي المعاصر، فإن مثل هذه الصفات لا تتفق مع صفة العدالة، والمراد عند الأصوليين بالمستبد العادل هو ذلك القائد الحاسم الحازم، الذي يحسم الأمر دون تباطؤ أو خوف، وقد اجتمع المتكلمون على صفات رئيسة يجب أن تتوفر في الحاكم وهي العلم والعدالة والورع وحسن التدبير في السياسة والقوة والشجاعة والرفق والرحمة بالرعية.

ولعل جمال الدين الأفغاني قد صاغ المصطلح أى (المستبد العادل) بنفس الدلالة التي أوردها المواردي وابن تيمية وابن الأزرق أي القوي الغالب ذو البأس العادل. لذا نجد ابن أبي الربيع والمواردي والغزالي وابن خلدون وغيرهم يشترطون أن يكون الحاكم مستبداً عادلاً، أي حريصاً على تحقيق العدل وافشاءه في الأمة.

ويضيف الغزالي أن الاستبداد لا يعني أبداً القمع أو الإرهاب أو إهدار كرامة المحكومين، بل أن ذلك يتعارض تماماً مع أخلاقيات الحاكم المسلم، فالحسم لا يتعارض أبداً مع النصح واللين في التوجيه، كما أن السياسة لا تعني الاستطالة أو التجبّر أو الافراط فى العنف، فالكرامة الإنسانية هي أساس ممارسة السياسة في الإسلام، عدلاً وإنصافاً، باعتبار أن الأمة هي صاحبة الشأن، والحق، والمصلحة ابتداء، ما لم يسقط المكلّف نفسه عصمته وكرامته باختياره ومحض إرادته. كما يؤكد الغزلي اننا نريد أن ينفّذ السلطان أموره بالرفق، وألا يلجأ إلى الشدّة والعنف في كل أمر يستطيع تحقيقه، فلقد دعا صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم الطف بكل والى يلطف برعيته، وأعف عن كل والى يعفو عن رعيته".

ويضيف المواردي أن خلق الدنيا زاداً للمعاد، ليتناول منها ما يصلح للتزود، فلو تناولها بالعدل انقطعت الخصومات، ولو تناولوها بالشهوات لتولدّت الخصومات، فمسّت الحاجة إلى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان إلى قانون يقومهم. ويعني ذلك أن انحطاط  الأخلاق في المجتمع وفساد الرعية وتطاول المجرمين منهم هو الباب الذي يدخل منه المتجبر لإهدار كرامة الناس بغية إصلاحهم واقامة العدل فيهم والحفاظ على أمنهم.

ويؤكد ابن خلدون مع المواردي والغزالي أن إرادة المستبد العادل وقوته في تحقيق العدل لا يمكن الوفاء بها الا إذا كان المجتمع مهيئاً لذلك، الأمر الذي يترتب عليه أن نجاح الحاكم أو السّاسة أو الزعماء أو القادة وحتى الرسل والأنبياء، مرهون بصلاح المجتمع. فابن خلدون يقدم حسن التربية وغرس الأخلاق الحميدة في الأمة على الردع والعنف في إقامة العدل واستتباب الأمن.

كما يؤكد ابن الأزرق على ضرورة تولي ملك المسلمين للمستبد العادل إذ يرى أنه لا يستحق هذا المنصب إلا من تمكّن بقهر يده التي لا فوقها يد، لجباية الأموال وحماية الحدود، ونشر العلم وإصلاح المجتمع والضرب على يد الخارجين والعمل بمشورة الصالحين، والعاجز عن ذلك ناقص الملك، وأنه الكفيل بإرضاء الخلق وإنزال الساخر منزلة الراضي.

ويضيف ابن خلدون أن المجتمع والملك في حاجه إلى ذلك المستبد العادل الذي لا يذم فعله من قبل الله أو الرعية، ولا يقدح لظلمه أو غصب الرعية على اعتناق الملة، فهو مستبد في انتصاره للحق ومراعاة المصالح.

وحسبنا أن نشير إلى أن مبدأ الغاية تبرر الوسيلة الذي أستنه "الفيلسوف الإيطالي ماكيافيلي" وفصل بمقتضاه الدين والأخلاق عن السياسة، يختلف تماماً عن مبدأ أن السبل للمقاصد لا تتعارض مع مآلاتها  فى الاسلام. ويعني ذلك أنه لا يحق لولي الأمر في السياسة الشرعية الخروج عن قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، أو الأمر بنقيض صلب العقيدة كإباحة الزنا مثلا لجلب المال أو الكذب على الشعب وخيانة الوطن وتبديد الأرض اتقاءً لقوة غاشمة أو سلطان أعظم او اهدار كرامه الأمنيين لتخويف المجرمين.

بل يمكن للمقاصد الشرعية أن تسلك مسلكاً مغايراً لطبيعتها الخيرة في الظاهر، ولكنها تنتمي إلى خيريتها في الحقيقة، مثل الشر الجزئي المتمثل في الضرب على يد القلة الباغية، فظاهر الفعل شر وسيلة، غير أن الغاية من تقتيلهم هو إستتباب الأمن ومراعاة المصالح العامة، شأن سدِّ الذرائع وجلب المصالح، ويضيف ابن خلدون أن المبدأ الأخلاقي الإسلامي هو الذي يسعى إلى خيرية الإنسان، وعليه فإن الوسائل التي يسلكها في السياسة ينبغي ألا تختلف عن ذلك المقصد، فالغاية الثابتة لها وسائل متعددة غير متعارضة، وبما أن الإنسان إلى خلال الخير أقرب، فالملك والسياسة، إنما كان له من حيث هو إنسان، لأنها خاصة للإنسان، لا للحيوان، فإن خلال "الخير" هي التي تناسب السياسة والملك.

كما أن مفهوم السيادة في فلسفة " الفيلسوف الإنجليزي هوبز" يختلف تماما عن مفهومها الإسلامي؛ إذ يجعل الأول من الحاكم ملك متجبر مطلق الأحكام وليس من حق الراعية مراجعته أو تقييمه، أما السيادة في الإسلام فتعني القوة العليا التي تسهر على تسييس أمور الدولة، لتحقيق الأمن والمصالح العامة للراعية  التي رفعت الحاكم إلى تلك المكانة. فاذا فشل فحق لها فسخ العقد.

ففزّاعة الفوضى وانعدام الأمن الذي يبرر بها "هوبز" تجبره واستبداده وجوره لا يجوز في الإسلام، إلا إذا كانت الرعية أضعف من أن تحقق النصر عليه وتطيح به وتأتي بغيره مستبداً في عدله.

وقد انتهى ابن رشد وابن خلدون وابن الأزرق إلى أن تغيير المجتمع للأفضل مرهون بأمرين، أولهما : استعدادات العقل الجمعي للتقدم وذلك بنشر القيم الأخلاقية والمثالية فيه.

والثاني : هو وجود رغبة عند الأفراد لقبول العلم وآليات النهوض، وبذلك يتلاقى العقل القائد مع العقل الجمعي السائد.

والسيادة في السياسة الشرعية هي المعنية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعبير عن مصلحة الأمة ومن ثمّ لا يمثلها العوام أو الجمهور- كما هو الحال عند (جان جاك روسّو) - ولا أصحاب الأموال - كما هو الحال عند (لوك) - بل يمثلها أهل الحل والعقد في الإسلام لما توفر فيهم من الحكمة والدربة والدراية والعلم والتقوى. وعليه فإن اعتراض العامة أو عصيانهم لولي الأمر غير جائز شرعاً وذلك لأنهم غير مؤهلين للسياسة أو تطبيق المقاصد الشريعة التي تحتاج في أحكامها السياسية إلى اجتهاد واستنباط  وتقديم المقاصد على حرفية النصوص، وذلك كله يفتقرون إليه. ويضيف الغزالي أن السيادة الشرعية المستمدة من الدستور الإلهي لا تتمكن من تسييس الدولة إلا بذلك المستبد العادل، فهو الذي يفعّل القانون ويطبّق الدستور.

لا شك فى أن غيبة القراءة النسقية للتشريع الإسلامي هي التي جعلت من كل الدعوات التي تردد مبدأ الحاكمية، والإسلام هو الحل، والحكومة الشرعية، مجرد أوهام أو شعارات جوفاء على ألسنة مردديها وخصومهم المنكرين لحقيقه السياسة الشرعية الجامعة بين اخلاقيات الدين وسياسة الدولة على حد سواء، فالحقيقة الغائبة تتفق تماماً مع الأصول الشرعية للعلاقة بين الحاكم والمحكومين.

أمّا عن حديث المستشرقين عن النزعة الاستعمارية للسياسة الشرعية باسم الدعوة للدين واستخدام القوة في ردع المخالفين فإن ذلك مردود عليه، فقد تصدّى العلماء المحدثون لهذه الفرية وبيّنوا أن الجهاد في الإسلام لا يكون واجباً إلا للدفاع وصدّ الاعتداء ونشر الدعوة وإغاثة المضطهدين ودرء الفتن والحفاظ على العهود والمواثيق وحماية النظم الإسلامية واستتباب الأمن. ودون ذلك من عنف لا يسأل عنه الإسلام بل هي مطامع الساسة وانحرافات المجترئين.

وما قدمته لا يعدو أن يكون قراءة, لتذكره  الغافلين، إن من أهم آليات الحاكم لتقويم الواقع هو قدرته على اختيار عماله، فإساءتهم للرعية  أو تجبرهم سوف ينسب لمن أوكل لهم الأمر وولاؤهم على رقاب العباد. والسؤال المطروح  هل يمكننا إدراج مفهوم المستبد العادل ضمن الأساطير والمدن الخيالية الفاضلة؟

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم