صحيفة المثقف

تشظي المحكي المتعدد في رواية: بوز الكلب

تعتبر رواية  "بوز الكلب"* للناقد والروائي عباس عبد جاسم إمتداداً لروايته " السواد الاخضر الصافي "**، حيث نلاحظ أن مواقع الرؤية من حيث الشكل والدلالة للمؤلف والراوي وشخصياته الأخرى: متداخلة أحيانا، متقاطعة أحيانا أخرى، ولكنها تلتقي مجتمعة لتأسيس نص مفتوح بطبقات متعدَّدة، تتشاكل فيها مرجعيات وجودية وتاريخية مع " لعبة الرواية "، لإنتاج رؤية جديدة بحساسية الاختلاف في الكتابة الروائية .

ورغم أن الاختلاف هو تجاوز بمعنى "لحظة " فارقة ما بعد الحداثة، " فإن الروائي يعمل بقصدية مافوق نصية، على إحالتنا خارج النص تماماً إلى ما وراء السرد، والى ما وراء الرواية، لإيجاد مداخل (= مفاتيح) لتدوير الشيفرات والإشارات المبثوثة في الرواية، والواقعة في منطقة يتداخل فيها الوهم بالحقيقة والمتخيل بالواقع، مما يرغم القاريء على بذل المحاولة من أجل إعادة تجميع آفاق النصْ الدلالية (1) .

وما يجعل رواية "بوز الكلب" أكثر تميّزا عن أنماط الرواية التجريبية السائدة، هو انها تجمع بين جنس الرواية الملموم وعمل النص المفتوح، ورغم تشظي المحكي كبنية مهيمنة في الرواية، فان ثمة خيط سردي رفيع يتحكم في الربط بينهما، لهذا فالرواية نص روائي مركب من أحداث دائرية  " لامتناهية "، ولكن بامكان المتلقي أن يبتدئ من أية صفحة  في أي فصل، لذا فما على الراوي سوى أن: يروي، يحكي، يسرد، وخاصة ان الرواية تتشكل من: فصول/ قطوع / تخطيطات/ مقتبسات/ ملاحق/ متون ؛ كجدران متداخلة، وكل جدار مستقل عن الآخر من حيث الاشتغال، والطرح، والتوجه، ولكن كل ذلك يرتبط بحبل سري دفين، حيث تعمل الملاحق على دعم واسناد وقائع السرد الروائية بالمرجعيات التاريخية، وذلك لإضاءة ما يجري من أحداث داخل المتن، بل وأحياناً يرفده بوقائع متشابهة  كـ " سقوط بغداد "، فالمتن السردي يُروى بلسانين هما: الراوي الرئيس(أيوب الكاتب) والصحفي (ابراهيم سعدان)، اما المدونات الأخرى، فهي مكتوبة من قبل المؤلف، وهذا التدخل في الرواية من قبل الروائي، يعتبره فريد الزاهي اقتحام كـ  "مؤلف منظور" (2)، على اعتبارها ما وراء الرواية، أو رواية لارواية، و"رواية اللارواية مثلها مثل ما وراء القص التاريخي – مهما بلغت أدعاءاتها بالدقة الحقيقية في التسجيل التاريخي – الا انها تبني تقاريرها بوضوح على التناصات الروائية "(3)، وليس هكذا فحسب بل اعتبرت ليندا هتشيون هكذا روايات لا يمكن ان تكون إلاّ سياسية (4)، وهذا ما نلاحظه في " بوز الكلب "، حيث أن محورها سياسي – سوسيولوجي بشكل مكثف، تتصف بالعمق الابستمولوجي، لأن الموضوع الجوهري المرتبط بجميع الحداثات هو الابستمولوجيا وبالتحديد طبيعة وامكانية المعرفة، على شرط ان لا تتحول الرواية الى وثيقة معرفية - تاريخية دون المتخيلات، لذا علينا قراءة المتخيل كأنه وثيقة تاريخية، لأن " المتخيل هنا وسيلة لتفسير الواقع الذي يتميز عنه، أن المتخيل ليس كاملاً على الدوام فهو يحتاج دائماً الى قاريء يكمله " (5)، يحتاج الى قاريء/ ناقد مثقف، مثل قاريء امبرتو ايكو النموذجي، وليس قاريء دون مستوى النص تسيره المناهج السياقية، بالكاد يطل هذا القاريء على أفق النص، وبالرغم من ذلك لو أراد قاريء (بوز الكلب) تلمّس بدايات حكاية: محدّدة الملامح، مكتملة الأحداث، واضحة الشخصيات، ما استطاع الى ذلك سبيلاً، لأنها فوق المتخيل، ورواية اللارواية . " فالميتافكشن، تشتغل من خلال تضخيم التوترات والتعارضات الكامنة في كل الروايات: الإطار وكسر الإطار، التقنية والتقنية المضادة، بناء الوهم وتفكيكه " (6)  .

وقد يتساءل البعض: لماذا حملت الرواية هذا العنوان الاستفزازي؟ وما الغرض من ذلك؟

بعد البحث والاستقصاء في النصْ، تبين لنا أن الروائي قد أطلق تسمية الكلب على الكلب البوليسي الذي رافق الاحتلال الامريكي، من اجل المشاركة في عمليات التفتيش والمداهمة ومن اجل المشاركة في تعذيب السجناء، وهذا ما تناقلته وكالات الانباء العالمية من عرض صور المجندة الامريكية ليندي انجلاند وعشيقها، وهي بصحبة كلبها تعذب السجناء، وهم عراة بكل بربرية وهمجية، حتى صارت انسانية الانسان تحت وطأة الاحتلال مجرد احتمال:

" عندما عدتُ الى أصل الكلب، تبيّن لي بأنه كلب هجين، وقد دربته السرجنت كاثرين بأسلوب مراوغ، فقد علمته عند تفتيش النساء، أن يمدّ بوزه أسفل السرّة !! " – الرواية ص 123 .

"  نزعت كاثرين الكمّام عن بوز الكلب، أرْخت السلسلة، أوشك بوز الكلب أن يلامس وجهي تقهقرت الى الخلف، كانت الارضية زلقة دبقة، خلتُ الصراخ يختلط بالنباح، لم أسمعه، وانما أحس به: كيف يخرج من حنجرتي .

قالت لي كاثرين:

- إهدأ .. لا تخفْ .. لن يمسّك صديقي بالأذى !! "– الرواية ص 67.

" إني أتهم الكلب غير الأمين . بخيانة هذا البلد الأمين، لأن قبضة الخنجر من ذهب، وعصا العبودية من خشب، سأضحك من فرط الألم، لأن الفرح مجاز كاذب "– الرواية ص 53  .

بل نصل الى قمة المهانة وعدم احترام انسانية الانسان، في منظر الكلب، عند صعوده الى سرير السيدة مديحة العساف زوجة البروفسور برهان السمان، وهي ملفوفة بعباءة الأسى والمحنة،وعلى مرأى منها تنهار القيم:

" عندما دخل الكلب، كانت الباب نصف مفتوحة، صعد الى السرير، والجسم محتشم بعباءة المحنة، والرقيب على مرأى منه في الحيز المفضوح، يقضم آخر ما تبقى من الفاكهة المحرّمة " – الرواية ص 49  .

.تتميز " رواية اللاروية " بالتهكمية المشوبة بالسخرية العميقة، وخلطها التهكمي بين الحقيقي والروائي، ففي " قطع 5 -  بهاء وحشي "  من الرواية، يرسم الروائي صور كاريكاتيرية مليئة بالتناقضات غير المنطقية والجمع بين الأشياء المُتنافرة:

" أميوّن

يقرؤون

صحف

الصباح

بنظارات

سود

بهاء سعيد، في بهاء وحشي يتنزّه الشهيد، هذا خروف يتقدم القطيع

سادة نقباء تدرّبوا على خيانة الله

أميّون يلعبون بدمى الحضارة "– الرواية ص 62، 63 .

فالتأويل هنا " يفهم النص، وفي الآن نفسه يفهم عملية الفهم هذه، أي أنه يكون واعياً لمختلف العمليات العقلية والحدسية والشخصية التي تشتغل على تحقيق هذه العلاقة الملتبسة المعقدة بين قاريء ونص، خاصة اذا كان القاريء مهموماً حقا بِهَم الكشف عن/ وفي النص أكثر من مجرد قراءته العادية " (7) .

ولتأكيد ما ذهبنا اليه وتعزيزه، بشان رجال الدين، نقرا ما يلي، في قطع 1 و2 و 3:

وفقيه أعجم الكلام  .   " نكاية بأخطاء التاريخ " .

وخطاب الفقيه لعبة خطرة .  " فتنة الكلام " .

فقيه يلعب بأحجار الشطرنج:

من درّب الكلب على عظْمَة التبعية .  " مجاز كاذب " .

وفي القطع 8 " هواء  أزرق "  المفخّخ بالأكاذيب، تتعدّد تساؤلات الروائي الملبدة بالتشكيك، تساؤلات غامضة، تساؤلات متباينة، مختلفة: تاريخية – دينية – فانتازية، تضع المتلقي امام امتحان المعرفة، لأن قسماً منها في الاستطاعة الاجابة عنها، بالعودة الى خارج النص، والقسم الآخر مضمر، محصّن، ضمن حدود الروائي، وضمن الثنائية المتناقضة :

لا أحد يعلم  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكل يعلم

من ذبح عبدالله بخنجر المودّة ؟

" هو عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر – ذي الجناحين – بن ابي طالب قتله العباسيين

مَنْ قتل (أبانا الذي في السموات) ؟

"هو السيد المسيح قتله اليهود "

مَنْ شطف الماء بالرماد ؟

مَنْ جمع المكائد في حديقة الامة ؟

من هرّب الشمس خارج البلاد ؟

مَن دخل من  (باب حِطّة)

" نقل ابو سعيد الخدري عن النبي "ص ":

إن مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني اسرائيل من دخله غفر له "  .

إن المعنى الاستعاري هو لحلّ اللُغز، وهذا ما نحتاجه في التخطيطات الخمس، رغم أن جميع التخطيطات احتوت على ترسيمات  توضيحية ولكنها مبهمة، ملتبسة، غامضة، محملة بمرجعيات معرفية – تاريخية، تحيلنا الى خارج النص، لكي نعثر على المعنى، وهي كما قلنا ان جميع الملاحق ترفد المتن السردي  " متن الرواية "، لكن التخطيطيات يكون اشتغالها كأنه لا يمت بصلة لأي طرف، وهذا غير تمام، لأن المؤلف وضعها لتوضيح فصول الرواية السردية والقاء الاضواء الكاشفة عليها، رغم اتسامها بالقطيعة والغموض مع الفصول، ولكنها في الحقيقة تعمل على توظيف محتوياتها للكشف والحفر والدعم السردي للنص، ففي التخطيط المعنون " مجتمع ما قبل السقوط " مثال على ذلك، وللزيادة في الايضاح نستعير من تخطيط أول المعنون " الفوبيا الزائدة " (إسقاط الصنم – إنتاج الصنم)، والتواريخ الثلاثة الهجرية التي وضعت من قبل المؤلف بقصدية وضعها فقط كأرقام مجردة من مضامينها، وماذا تعني ؟ ولماذا وضعت ؟ ولا نستطيع معرفة ذلك إلاّ بالاحالة خارج النص، للكشف عن المعنى الذي أراده المؤلف:

إسقاط الصنم                   انتاج الصنم

مجتمع ما بعد السقوط

ديمقراطية القلة                     إقتصاد الكفاف

بويطيقا الموت             الحرية الحمراء

247 ه          744ه     ـ656 هـ

 

لم يرسم المؤلف تخطيطه البصري " إسقاط الصنم –إنتاج الصنم " إعتباطا ابداً، فقد رسمه كـ دال سياسي وتاريخي على ما حدث " بعد سقوط بغداد " أي سقوط العراق " عام 2003م، مع التواريخ الهجرية الثلاثة، وعند الحفر في المرجعيات الثقافية - المعرفية والمتخيل التاريخي، تتشكل الصورة بكل وضوح، في " مجتمع ما بعد السقوط ":

247 هجرية: في هذه السنة قتل الخليفة العباسي المتوكل على يد حراسه الاتراك، وهو الذي اعتنق نَظْرية المعتزلة تغليب العقل على النقل  .

656 هجرية: سقوط مدينة بغداد على يد هولاكو .

744 هجرية: سقوط مدينة بغداد على يد تيمورلنك .

هنا كل هذه التواريخ حملت عنواناً إستعارياً هو " سقوط بغداد " و "سقوط العقل "، وهي التواريخ المتطابقة مع عام 2003 م عام سقوط بغداد، هنا تتضح الصور للمتلقي .

علينا قراءة عناوين الفصول الخامسة عشر قبل أن ندلف الى المتن السردي، وذلك لكي تعطينا الفكرة الشاملة، بالطبع كذلك مع عناوين الملاحق التي تعتبر نصوص متوازية للنص الروائي " عن الطروحات الايديولوجيا والفكرية والتاريخية المبثوثة في الملاحق والفصول: رائحة العطب – الرجل القفل – مغلف الوديعة –أسماك وجثث – الدم والمطر – المقايضة – العوّامة – لعبة الرّواية – مستعمرة النفايات – المداهمة – من مفكرة برهان السمان – الجثة – التظاهرة – المواهمة – المحذوف من " بوز الكلب " .

تبدأ الرواية بمشهد متداخل ما بين الراوي الرئيس " ايوب الكاتب " والبطل الرئيس الصحفي " ابراهيم سعدان "، على شكل سرد بجمل اخبارية، ثم تقطع بجمل شعرية استدراكية، ثم جمل سردية اخبارية .. وهما في مبنى الجريدة، الجمل الاخبارية للراوي ايوب، لكن الجمل الشعرية الاستدراكية لمن ؟ اهي لــ ابراهيم سعدان ؟ ام لـ الراوي أيوب الكاتب ؟ أم للروائي عباس عبد جاسم ؟ وهل يكون هنا هو البناء اللساني، أي الذات المتكلمة ؟، تبقى الاجابة معلقة لأنها في متاهة حكاية ! تشكيل اسلوبي متعالي يشتغل على التقطيع السردي المفتوح " الاخبار "، والمغلق " الاستدراك "، يعكس لنا التعارض، على مستوى الاستعارة، بين نَظريّة الإبْدال ونَظريّة التَفاعل، ليكون المتلقي فريسة الاستراتيجية التي اشتغل عليها الروائي وضحيتها :

" بعد عودة ابراهيم سعدان من المنفى، كان اللقاء بيننا حافلاً بالذكريات المغمورة، فقد تذكّر طفولته الّضّالة في (الشوّاكة)، وهربه عبر الحدود تحت جنح الظلام (كانت الحروب عارية من أوراق التوت)، كان يتحدّث بسخرية ومرارة (لا يمكن التحرّر من الشعور المعذّب بالغربة بسهولة) كنت أشم رائحة العطب من كلامه (أمجاد كاذبة وبهاليل، أمان كاذب وسلام وهمي)، حتى أوشك أنْ يفقد الأمل، وكأن لا سبيل للخروج من هذه المحنة، ولكنّه لا يزال يحلم بعيني الطائر وجناحيه (يجب أن نحلم، حتى ولو كان الحلم على حساب مرارة الواقع) "– الرواية ص 12  .

إن شخصيات الروائي نفسها هي  "غير واقعية " تماماً، و" غير واقعية " ايضاً هي التجربة التي يصفها القص . وفيما بين " واقعية الماضي " و " لاواقعية القص " يكتمل التفاوت واللاتجانس " (8)، وما بين الشخصية والقص ولا تجانسهما، يكون المتخيل هو الفاعل في تجاوز الحدود المرسومة لشروط التجربة، لأن التجربة تستمد العبرة من الماضي للمستقبل، والزمان، بمعنى الاختلاف التكميمي بين الواقعة والاحتمال، هو شرط إمكانية التجربة، ومنها نتعرف على الشخصية الروائية.

ابراهيم سعدان الشخصية الرئيسة في الرواية، صحفي، لم يستطع التكيف لا في المنفى ولا في بلده:

" هربتُ الى الخارج، فكانتْ المكابدة مع الغربة، وهربت الى الداخل فكانت المكابدة مع الخوف " – الرواية ص 15 " .

وما بين الغربة/ الخارج والخوف/ الداخل، يتشتت ابراهيم سعدان، ويضيع بين الحقيقة والمتخيل، بين الواقع والوهم، ويقوم بالتعامل مع الحاضر كأنه ماضي، ومع الماضي كأنه حاضر، وتتداخل الأحداث والرؤى، اما الوعي فهو أقرب الى تيار المتخيل والذاكرة:

" حشرونا في قاعة مقفلة، رأيت السامري الذي ضلّل قومه، وبصحبته جنرال مهووس، فوق قبعته غراب، كانت كاثرين المجنّدة تضمّ بوز الكلب الى نعيم الرمان، وأزرار قميصها نصف مفتوحة، واليانكي يقضم التفاحة بنهم وشراهة .

قال الجنرال:

- من يرقص مع الكلب ؟

ردَ السامري:

- الرقص مع الكلب متعة آسرة!! – الرواية " ص 15  .

يستند المتن الروائي على أوراق المفكرة العائدة للبروفسور برهان السمان عالم الطاقة النووية، وقد بعثر الروائي وقائعها بين الفصول السردية، فهذه الأوراق يودعها الدكتور برهان السمان قبل اختفائه عند ابراهيم سعدان، عن طريق سائق الدكتور سامي الحاج، الرجل القفل كما يسميه دكتور صلاح السيد، فهو " كان يعرف اسرار الجميع، ولكن لا أحد يعرف أسراره " – الرواية ص 19  :

" فتح إبراهيم سعدان مغلّف الوديعة، وفي اللحظة التي إستلّ منها حزمة الأوراق، فوجىء بوجود مظروف آخر داخل مغلف الوديعة، وعندما فضّه ظهرت له: وثائق/ كشوفات/ قوائم/ أوراق شخصية مستلّة من مفكرة مذيّلة باسم برهان السمان/ صور أشخاص بحجم ربع بوسكارت / خرائط لأقبية ومخازن وأنفاق تحت الارض/ موقع النفايات (موشّر بقلم ماجك أحمر) في .... / رسوم بيانية , - الرواية ص 25 " .

ويتبين بانها أوراق مستلة من مفكّرة برهان السمان على شكل يوميات تتعلق بما يخص الطاقة النووية، وما يخص مادة اليورانيوم، وهذه أوراق يعطيها ابراهيم سعدان الى أيوب الكاتب/ الراوي، من اجل كتابة رواية استنادا على هذه الاوراق – الوثائق، على اعتباره روائي، ومنها يبدأ الشك واللايقين يتسرب الى الراوي، على شكل أسئلة محيرة، تعمل على تشويش رؤية المتلقي:

" ولكنْ ثمة شك راودني: لماذا أختيرت هذه الأوراق من المفكّرة دون غيرها، ثم ما تعليل نقص مدوّنات عام 2003 ؟ هل حجبها برهان السمان أم ابراهيم سعدان ؟

في ظني أن أحدهما عمد الى إخفاء معلومات منها، لا يريد لأحد الاطلاع عليها، ولعل القارئ وحده مَنْ يتلقف شفرات هذا النقص " – الرواية ص 93  .

ليس الراوي وحده من يقع في دائرة الشك بل قبله وقع ابراهيم سعدان في تجربة الشك، الشك المتسرب من الروائي الى شخصياته:

" راح ابراهيم سعدان يفكر: لماذا لم يظهر اسم برهان السمان في اللائحة السوداء ؟ في حين ظهرتْ أسماء مَنْ كانوا معه، مثل صلاح السيد وحارث الراوي وعلي الخطيب و (آخرون) .

وإلا كيف يحدث أن يكون مطلوباً ولم يُدرج اسمه في هذه اللائحة ؟ بل هناك أكثر من جماعة تبحث عنه، إذن أي لغز محيّر هذا !! "– الرواية ص20   .

يميل فعل القراءة الى ان يصبح مع الرواية الحديثة، استجابة لاستراتيجية الشك والخيبة، وخاصة عندما يطلب من القارئ سد نقص المقروئية التي لفقها المؤلف، لأن القراءة " الوحيدة الجدية للنصوص هي قراءة خاطئة، والوجود الوحيد للنصوص يكمن في سلسلة الأجوبة التي تثيرها . فالنص كما يشير الى ذلك تودوروف بمكر، هو نزاهة يقوم بها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القراء بالمعنى" (9).

خلاصة التجربة الكتابية لرواية " بوز الكلب "  لــ عباس عبد جاسم، تتمثل في الفصل المعنون " لعبة الرواية "، وفيه يؤكد المؤلف حضوره الطاغي في كتابة الرواية، كـ" مؤلف منظور "، وهذا يمثل أحد مرتكزات بعد ما بعد الحداثة (10) في رد اعتبار المؤلف الذي ألغاه بارت في مقالته المشهورة  " موت المؤلف "، التي تهدف الى " تحرير النص من سلطة الظرف المتمثل بالأب المهيمن: المؤلف " (11)، وبما أن الرواية هي رواية ميتا رواية، أو رواية لارواية، يعني انها ظاهرة نقدية يعيها الروائي في العمل الذي يكتبه، وتداخل المسؤوليات بين الروائي والناقد والقارئ، كما تعكس تداخل أشكال الاساليب والاجناس الأدبية المختلفة في النص الواحد (12)، وفيها تتجذر فتنة الأنا بذاتها، وهذا ما نلمسه في هذا الفصل عندما يتحول السرد المتخيل الى سرد الأنا، عندما يجعل شخصياته الروائية تتكلم عن لسانه لطرح: رؤيته، اراءه، افكاره، حول كتابة الرواية، وهذا يبرز الذات الكاتبة:

" لأنني بحاجة لأن أعرف هذه المسافة في المنظور بين ما دوّنه من وقائع وما دوّنته في الرّواية، قلت له:

- أتذكر (حكايات الف ليلة وليلة) ؟ ألم تنتبه الى تشظي المحكي فيها بصيغة قطع السياق ووصله بسياق آخر، حيث كل حكاية تقود الى حكاية أخرى مختلفة عنها، فحكاية الاسكافي تقود الى حكاية الحمال، وحكاية الحمال تقود الى حكاية الأميرة، وهكذا تنشطر الحكايات وتتناسل عن بعضها، هكذا تظهر الذات الحاكية لكي تموت الحكاية .

لهذا فجماليات النسيج تكمن في كيفية تقطيع الوقائع المدوّنة، وبذا لم اكتفِ بإحداث القطع بين بنية وأخرى من دون ايصال القطع بينهما في آن .

وإن كان ثمة منطق يحكم الوقائع المدوّنة، فإني أسال حقاً: أهناك منطق للواقع بعد أن فقد الواقع المنطق والانسجام والاتساق في بلادنا؟

وإن كنت تسأل عن التأزيم، فقد حاولت ادارة أزمة اختفاء برهان السمان من خلال تأزّم الشخصيات المرتبطة به، لأنّها ليستْ أزمة برهان السمان وحده، ولا أزمتك وحدك، وإنما هي أزمة بلاد مأزومة برمتها "– الرواية ص 68، 69  .

وللنهاية يبقى عباس عبد جاسم، يبين كيف كان يؤثر على القارئ، وبأي طريقة من خلال التدخل في البناء السردي:

" – نعم . الرّواية لعبة في بناء الوهم وهدمه بالواقع .. لهذا لم أكتفِ بتشويش ذهن القارئ وحواسه باختفاء برهان السمان، وإنما شغلته بلغز مصير ابراهيم سعدان الغامض، إذن التشويش والتلغيز من جماليات الرواية، وليس من مساوئها "– الرواية ص 70 .

 

أسامة غانم – ناقد

..............................

الهواش والاحالات

*عباس عبد جاسم – بوز الكلب، رواية، منشورات مركز تنوير، ط1، بغداد 2015.

**عباس عبد جاسم – السواد الاخضر الصافي، رواية نص، منشورات الغسق للطباعة، ط2، بابل 2002 .

1 - أسامة غانم – الوقائع السوداء، ضمن كتاب: كسر النمط عباس عبد جاسم، تقديم وتحرير: د. وسن عبد المنعم الزبيدي، دار غيداء للنشر والتوزيع، عمان / الاردن، 2017، ص 79 .

2- عباس عبد جاسم – تطور الرواية العربية من رواية الرواية الى رواية اللارواية، جريدة القدس العربي اللندنية، 7/ 5 / 2020 .

3- ليندا هتشيون – ما وراء القص التاريخي: السخرية والتناص مع التاريخ، ترجمة: أماني أبو رحمة، المجلة الثقافية الجزائرية، 10/ 6 / 2011 .

الدراسة فصل من كتاب " جماليات ما وراء القص: دراسات في رواية ما بعد الحداثة "، مجموعة مؤلفين، ترجمة: اماني ابو رحمة، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق – سوريا، 2010 .

4 – ليندا هَتْشيون – سياسة ما بعد الحداثية، ترجمة: د. حيدر حاج اسماعيل، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان، 2009، ص 13 .

5- باتريشيا وُوه – الميتافكشن: المتخيل السردي الواعي بذاته: النظرية والممارسة، ترجمة: السيد امام، دار شهريار، البصرة – العراق، 2018، ص 123 .

6- م . ن، ص 24 .

7- مطاع صفدي – نقد العقل الغربي: الحداثة وما بعد الحداثة،مركز الانماء القومي، بيروت – لبنان، 1990، ص 237 .

8 – بول ريكور– الزمان والسرد: الزمان المروي ج 3، ترجمة: سعيد الغانمي، راجعه عن الفرنسية: د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت – لبنان، 2006، ص 235 .

9 – امبرتو ايكو – التأويل بين السيمائيات والتفكيكية، ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، ط2، الدار البيضاء – المغرب، 2004، ص 22 .

10 – يطلق عليها مصطلح الحداثة البعدية أيضاً، كما يسميها الناقد مطاع صفدي في كتابه " نقد العقل الغربي " حيث هي: ليست طليعية فكرية أو فنية، وليست دعوة سياسية أو ايديولوجية، لكنها هي التي تأتي واتية بعد كل معارك الطليعيات والإيديولوجيات والحداثويات . ص 314، م . س . نقد العقل الغربي.

11 – رولان بارت – نقد وحقيقة، ترجمة وتحرير: د . منذر عياشي، تقديم: د . عبدالله الغذامي، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق – سوريا، 2019، الاقتباس من المقدمة ص 10 .

12 – د . محمد حمد – الميتا قص في الرواية العربية: مرايا السرد النرجسي، مجمع القاسمي للغة العربية وآدابها، 2011، (ج. م)، ص 10 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم